الفوائد المشوق الی علوم القرآن و علم البیان

اشارة

عنوان
الفوائد المشوق الی علوم القرآن و علم البیان
پدیدآورنده
تالیف ابی عبدالله محمد بن ابی بكر ابن ایوب الزرعی المعروف بابن القیم=الجوزیه ، حققت اصوله و ضبطه جماعه من العلماء
سرشناسه : ابن‌قیم جوزیه، محمدبن ابی‌بكر، ق‌۷۵۱ - ۶۹۱
موضوع
قرآن - مسایل ادبی=قرآن - مسایل لغو‌ی
شماره ردیف3391
كد عنوان3353
سرشناسه فارسی: ابن قیم الجوزیه ، محمد بن ابی بكر، 691-751ق .
عنوان قراردادی: الفوائد المشوق الی علوم القرآن و علم البیان
محل انتشاربیروت
ناشر: دارالكتب العلمیه
تاریخ نشر:1408ق
رده بندی كنگره BP 82 /2 /الف2 9ف
رده بندی دیویی 9ف 2الف/2/82 BP
407ص

[خطبة الكتاب]

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم (رب یسر) قال الشیخ الامام العالم العلامة. الحبر البحر الفهامة. سید الحفاظ. و فارس المعانی و الألفاظ. مفسر القرآن. ذو الفنون البدیعة الحسان. أبو عبد اللّه محمد بن قیم الجوزیة رحم اللّه روحه، و نوّر ضریحه الحمد للّه نحمده و نستعینه و نستغفره و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا و سیئات أعمالنا. من یهده اللّه فلا مضل له. و من یضلل فلا هادی له، و نشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شریك له. و نشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدی و دین الحق لیظهره علی الدین كله و كفی باللّه شهیدا. أرسله بین یدی الساعة بشیرا و نذیرا. و داعیا الی اللّه بإذنه و سراجا منیرا. فهدی بنوره من الضلالة و بصر به من العمی. و أرشد به من الغیّ. و فتح به أعینا عمیا. و آذانا صما. و قلوبا غلفا.
(و بعد) فإن اللّه تفضل علی هذه الأمة أن جعلهم عدولا خیارا، و جعلهم شهداء فی أرضه شهداء علی الناس یوم تری الناس سكاری، و بعث الیهم أقربهم الیه محبة و إیثارا، و أعظمهم لدیه شرفا و مقدارا، و أنزل علیه كتابه المجید، الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 4
خلفه تنزیل من حكیم حمید، و حسبهم بذلك علوا و فخارا، و جعله نورا و صراطا مستقیما، و حث علی تعلمه و علمه لیعم بإحسانه و یؤتی من لدنه أجرا عظیما، و أقامه حجة علی من ضل و محجة لمن اهتدی، و أودعه حكمة و موعظة و هدی، و نصبه دلیلا علی الحق لا یضعف و لا یهی، و سبیلا یصدر عنه كل رشد و إلیه ینتهی، و طریقا تجلی بأسلاك نفائس الأعمال أهل سلوكها، و برهانا واضحا یزجرهم عن خلل انحلال عقائدهم و شكوكها، و أودعه من الاعجاز ما لا یحصر بحصر حاصر و لا بعد عاد، من الأمر و النهی و الوعد و الوعید و الحكم و الأمثال و المواعظ و قصص القرون السالفة كأصحاب الرسّ و قوم عاد، فكم فی لفظه من إیجاز یسفّه حلم من یقول بلفظه، و كم فی معناه مغن للجادّ فی حفظه، أبدعت فی انواع البدیع كلماته، و أغربت فی أجناس التجنیس سوره و آیته، و رمت أرباب الفصاحة بالجمود و العی فصاحته و جزالته، و أخرست ألسنتهم الذربة فأعیتهم معارضته و إزالته فأقروا له بعد تسفیه أحلامهم و تقریعهم و تعجیزهم بالحلاوة و الطلاوة، و علموا أنه لیس من كلام البشر و لكن غلبت علیهم الشقاوة، هذا مع أنهم لم یتدبروا أكثر معانیه، بل قالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِیهِ طلبوا الغلب و ظنوا أنهم غالبون و أوسعوا الطلب فولوا و هم خائبون یُرِیدُونَ لِیُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أنزله بلسان العرب لیكون حجة علیهم و نسخ به جمیع الكتب فكان انزاله أشد نازلة لدیهم، و جعل أعظم معجزاته دوام آیاته، متلوا بالألسنة باقیا مع بقاء الأزمنة، محفوظة فی الصدور منتقلة فی الصحائف و المصاحف من لدن الرسول محروسة من التبدیل و التغییر و الزیادة و النقصان و الذهول، قرآنا لا یسأم منه تالیه، مع تكراره و توالیه، و لا یملّه واعیه، بل تتوفر علی توقیره دواعیه، فی كل حین تظهر فیه من قضایا التنزیل، و خفایا التأویل، من نتائج أفكار الخلف، غیر ما جادت به فطن السلف، كل حرف منه تتفجر به ینابیع من الحكمة، و كل كلمة تمطر منها سحائب الرضوان
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 5
و الرحمة، و كل آیة تحتوی علی بحار من الإعجاز زواخر، و كل سورة تكاد تنطق بعلوم الأوائل و الأواخر، لم نجد له فی الكتب السالفة نظیرا، و لم تمدّ إلیه كف معارض، منازلا كان أو مغیرا قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً.
فما رام أحد معارضته إلا عرضت له عوارض الغی و اللكن، و لا قصد مباراته إلا رمی بهجر القول و إن كان من أرباب اللسن، و عوض من كلامه الفصیح باللفظ الركیك و المعنی القبیح، قام إعجازه بتعجیزهم، و تحققوا أنه لیس من تسجیعهم و لا ترجیزهم، و صرفهم الإباء عن ترك دین آبائهم إلی الدنیة، و صرفتهم الحمیة حمیة الجاهلیة، عجزوا عن الإتیان بسورة أو آیة و انتهوا من عنادهم فی التكذیب به إلی غایة فأعقبهم نفاقا فی قلوبهم، و جعلهم لمن بعدهم آیة، فهو الصراط المستقیم، و الذكر العظیم، و الكتاب الحكیم، و النور المبین، و الحبل المتین، و العروة الوثقی، و الآیة العظمی، و كلمات اللّه و الذكری و الدرجة العلیا، و هو شفاء الغلیل، و دواء العلیل، و البرهان و الدلیل، و البشیر و النذیر و البصائر و المثانی و القصص و التذكرة، و الأنباء و الآیات المبصرة، و الحكم و البلاغ و التبصرة، و البیان و التبیان، و الرحمة و البشری و الأمان، و الروح و الحدیث و التنزیل و المیزان، و حق الیقین و النبأ العظیم و المحفوظ و الكتاب الكریم، و القول الفصل و الهادی و الناطق و الحق و الغیب و المكنون و القول الثقیل و الحسرة و العجب و الصحف المطهرة و الكتب القیمة و الخیرة و الكتاب العزیز، و الكتاب لا ریب فیه، و المحكم و المتشابه و العصمة و الإمام، و الأنس عند الوحشة و الفزع، و الأمن عند الخوف و الجزع، و الضیاء یوم القتر و الظلمة، و الكشف یوم الكرب و الغمة، من حكم به عدل، و من عدل عنه هوت قدمه فزل، و من استعصم به عصم و من استمطر منه الرحمة رحم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 6
(و لما) كان جامعا لهذه المعانی المتفرقة، محتویا علی بدائع المبانی المشیدة و الفنون المتأنقة، و ضروب من المقاصد الخفیة و الجلیة، و أنواع من خفایا أسرار العوالم العلویة و السفلیة، أنزله علی خیر رسول، قلبه منبع الحكم، و سمعه مقر صریف القلم، و عقله قد استوی علی سوقه و استتم، و لسانه عن الذلل و الخطأ فی منعة و عصم، و بصره و بصیرته عنهما ما اختفی هدی و لا اكتتم، فبلّغه من التبلیغ مرامه، و بیّن حلاله و حرامه، و عیّن فیه مراد اللّه من خلقه و أحكامه، و عرّف فصه و نصه، و أظهر عامّه و ما خصه، و أبدی ناسخه و منسوخه و محكمه، و فهّم متشابهه و مبهمه، و جلا غوامضه و خفایاه، و أوضح قصصه و قضایاه، و أظهر عن أمثاله التی لیست لها أمثال، و أعلم بخفی إشاراته التی هی أدقّ من السحر الحلال، و أرق من العذب الزلال، و أنبأ بكنایته التی هی أجمل من التصریح، و صرح بحقیقته التی تسبق إلیها الأذهان من غیر تعریض و لا تلویح، و أوجز مجازه الذی یغیر تدبر لا تجیزه العقول، و لو شاء لجعله هو و الحقیقیة سیان، إلی غیر ذلك من العلوم الظاهرة و الفنون الباهرة.
(خلا) ما تضمنه من العلوم الباطنة، و المعانی التی هی إلی الآن فی كمائمها كامنة، التی لم یطلع اللّه علیها من خلقه أحدا، و الخفایا التی لم یظهر علیها إلا من ارتضی من رسول، فإنه یسلك من بین یدیه و من خلفه رصدا، فجزاه اللّه أحسن جزاء عنا، و بلغه أفضل سلام منا و صلی اللّه علیه و علی آله ما طلع نجم و بدا، و ما اخضلّ نجم برذاذ و ندا، و رضی اللّه عن أصحابه لیوث غابه، و غیوث سحابه.
(فكتاب اللّه تعالی) أشرف ما صرفت إلیه الهمم، و أعظم ما جال فیه فكر، و مد به قلم، لأنه منبع كل علم و حكمة، و مربع كل هدی و رحمة، و هو أجلّ ما تنسك به المتنسكون، و أقوی ما تمسك به
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 7
المتمسكون، من استمسك به فقد علقت یده بحبل متین، و من سلك سبیله فقد سار علی طریق قویم، و هدی إلی صراط مستقیم.
(و قد) أودع اللّه سبحانه ألفاظ هذا الكتاب العزیز من ضروب الفصاحة و أجناس البلاغة و أنواع الجزالة و فنون البیان، و غوامض اللسان، و حسن الترتیب و التركیب، و عجیب السرد و غریب الأسلوب، و عذوبة المساغ، و حسن البلاغ، و بهجة الرونق، و طلاوة المنطق، ما أذهل عقول العقلاء، و أخری ألسنة الفضلاء و ألغی بلاغة البلغاء من العذب و طاشت به حلومهم، و تلاشت دونه علومهم، و كلت ألسنتهم الذربة، و أقصرت خطبهم المسهبة، و قصائدهم المغربة، و أراجیزهم المعربة، و أسجاعهم المطربة، فعلموا أن معارضته مما لیس فی مقدورهم و لا وسعهم، و لا داخلا فی تقصیدهم و لا سجعهم، و أن ذلك مسلوب و مصروف عن مفردهم و جمعهم، و تركوا الطعن فیه عند تقصید رماحهم، و أذعنوا للاستماع له و العجز عند بعد تأبیهم و جماحهم، مع قدحه فی أربابهم، و فدحه لألبابهم، و تسفیهه لأحلامهم، و تبطیله لأنصابهم و أزلامهم.
فأمسك ذوو الاحلام منهم عن اللغو فیه و الاعتداء، و أقبلوا علی تدبره فهدی اللّه به من هدی، و لم یقم علی الطعن فیه، و ترك التدبر لمعانیه إلا من غلبت علیه الشقاوة، و ختم اللّه علی سمعه و قلبه و جعل علی بصره غشاوة، فانتدبوا لمعارضته و مباراته، و مماثلته و مجاراته، فأوقعه غیّه فی عیّه و لكنه، و سقط فی سقطات لسانه بعد بلاغته و لسنه، و صار بعد أن كان فارس الفصاحة و البیان، و مالك قصبات السبق فی الرهان، یضحك من لفظه من سمعه، و یحط من قدره من رفعه، و ذهبت من لفظه تلك الجزالة، و أعظم اللّه من ضروب الجزاء و الخذیة الجزاء له، كل ذلك لیظهر لنا عظم قدر كلامه العظیم، و أی رونق و بهجة للمحدث
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 8
إذا قرن بالقدیم، فمن جحد منهم إنما فعل ذلك عنادا و حسدا لإبائه أن یقدم علیه أحدا.
(روی) أن أبا جهل بن هشام هو و الأخنس بن قیس؛ و الولید بن المغیرة اجتمعوا لیلة یسمعون القرآن من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلم، و هو یصلی به فی بیته إلی أن أصبحوا، فلما انصرفوا جمعتهم الطریق فتلاوموا علی ذلك و قالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك فعلوه، و استمعوا إلی ما یقوله، و استمالهم و آمنوا به، فلما كان فی اللیلة الثانیة عادوا و أخذ كل منهم موضعه، فلما أصبحوا جمعتهم الطریق فاشتد نكیرهم، و تعاهدوا و تحالفوا أن لا یعودوا، فلما تعالی النهار، جاء الولید بن المغیرة إلی الأخنس بن قیس فقال: ما تقول فیما سمعت من محمد؟ فقال: ما ذا أقول؟ قال: بنو عبد المطلب فینا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فینا السّدانة، قلنا: نعم قالوا: فینا السّقایة قلنا:
نعم، یقولون فینا نبی ینزل علیه الوحی و اللّه لا آمنت به أبدا.
(و روی): أن الولید بن المغیرة سمع من النبی صلّی اللّه علیه و سلم: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الآیة. فقال: و اللّه إن له حلاوة، و إن علیه لطلاوة، و إن أسفله لمغدق، و إن أعلاه لمثمر، ما یقول هذا بشر.
(و قال أیضا): لما اجتمعت قریش عند حضور الموسم و رأت أن وفود العرب ترد، فأجمعوا فیه رأیا لا یكذب بعضكم بعضا، فقالوا:
نقول كاهن، قال: و اللّه ما هو بكاهن، و لا هو بزمزمته، و لا سجعه؛ قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، و لا بخنقه و لا وسوسته، قالوا:
فنقول شاعر، فقال: ما هو شاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه، و هزجه و قریضه، و مبسوطه و مقبوضه، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر و لا نفثه و لا عقده، قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلین من هذا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 9
شیئا إلا و أنا أعرف أنه لا یصدق و أن أقرب القول إنه ساحر، و أنه سحر یفرق به بین المرء و ابنه و المرء و أخیه، و المرء و زوجته، و المرء و عشیرته فتفرقوا و جلسوا علی السبل یحذرون الناس فأنزل اللّه تعالی فی الولید ذَرْنِی وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِیداً الآیات.
و انما یعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب فعرف علم اللغة و علم العربیة، و علم البیان، و نظر فی أشعار العرب و خطبها و مقاولاتها فی مواطن افتخارها، و رسائلها و أراجیزها و أسجاعها، فعلم منها تلوین الخطاب و معدوله، و فنون البلاغة و ضروب الفصاحة، و أجناس التجنیس، و بدائع البدیع، و محاسن الحكم و الأمثال، فإذا علم ذلك و نظر فی هذا الكتاب العزیز، و رأی ما أودعه اللّه سبحانه فیه من البلاغة و الفصاحة، و فنون البیان فقد أوتی فیه العجب العجاب و القول الفصل اللباب و البلاغة الناصعة التی تحیر الألباب و تغلق دونها الابواب، فكان خطابه للعرب بلسانهم لتقوم به الحجة علیهم و مجاراته لهم فی میدان الفصاحة، لیسبل رداء عجزهم علیهم، و یثبت أنه لیس من خطابهم لدیهم فعجزت عن مجاراته فصحاؤهم، و كلّت عن النطق بمثله السنة بلغائهم، و برز فی رونق الجمال و الجلال فی أعدل میزان من المناسبة و الاعتدال، و لذلك یقع فی النفوس عند تلاوته و سماعه من الرّوعة، ما یملأ القلوب هیبة، و النفوس خشیة، و تستلذ الأسماع و تمیل إلیه بالحنین الطباع، سواء كانت فاهمة لمعانیه أو غیر فاهمة، عالمة بما یحتویه أو غیر عالمة، كافرة بما جاء به أو مؤمنة .. و سنورد فی كتابنا هذا أصولا مؤصلة و فوائد مفصلة من علم البیان، و ما ورد نظیره فی القرآن ما تقف علیه و یعجبك عند النظر الیه:
(قال المصنف رضی اللّه عنه):
و هذه الجملة التی تأصلت و تحصلت و الفوائد التی بعد إجمالها
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 10
فصلت، نقلتها من كتب ذوی الإتقان، علماء علم البیان التی وقفت علیها، و ترقت همة اطلاعی إلیها من كتب المتقدمین و المتأخرین، و هی: كتاب البدیع لابن المعتز، و كتاب الحالی و العاطل للحاتمی.
و كتاب المحاضرة له. و كتاب الصناعتین للعسكری. و كتاب اللمع للعجمی. و كتاب المثل السائر لابن الأثیر. و كتاب الجامع الكبیر لابن الأثیر أیضا. و كتاب البدیع لأسامة بن منقذ. و كتاب العمدة للزنجانی.
و كتاب نظم القرآن له أیضا. و كتاب نهایة التأمیل فی كشف أسرار التنزیل لكمال الدین عبد الواحد بن عبد الكریم الأنصاری. و كتاب التفریع فی علم البدیع لزكی الدین عبد العظیم بن أبی الأصبع. و كل كتاب من هذه الكتب أخذ من كتب شتی مع ما أضفت إلیها من فوائد مستعذبة، و فرائد حسنة المساق مستغربة نقلتها عن الأمة الأعلام «الأكابر»، و نقلتها عنهم من ألسنتهم لا من بطون الدفاتر، و ما أضفت إلی ذلك مما تفضل اللّه به، و منح من مهمل أبنته و مجمل فصلته، و شارد قیدته و حصلته لیكمل بهذا الكتاب النفع، و یأتی علی نهایة من حسن الوصف و بدیع الجمع، و إحیاء لعلم البیان المطلع علی نكتب نظم القرآن الذی قد عفت آثاره، و قلت أنصاره، و تقاعدت الهمم عن تحصیله و ضعفت العزائم عن معرفة فروعه فضلا عن أصوله، فما علم من علوم الاسلامیة رمی بالهجر و النسیان ما رمی به علم البیان.
و لو أداموا النظر فیه، و التلمح لمعانیه. لاطلعوا من الكتاب العزیز علی خفایا تهش لها القلوب، و دقائق تسفر لهم عن وجوه المطلوب، و من لم یعرف هذا العلم كان عن فهم معانی الكتاب العزیز بمعزل، و لم یقم ببعض حقوق المنزل و المنزل، و من وقف علی هذه الأصول التی أصلتها و الفصول التی فصلتها، ظهر له مصداق هذه الدعوی، و أخذ من التوصل إلی معرفة هذا العلم بالسبب الأقوی، و حسن عنده موقعه، و عظم فی نفسه محله و موضعه. و خالطت قلبه بشاشة رونقه، و جلیت
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 11
فی عینه نضارة نظائره و حسن مونقه.
(و كلام العرب) فی خطبها و أشعارها و نثرها و نظامها منقسم إلی ثلاثة أقسام: ورد منها فی الكتاب العزیز قسمان، و قسم لم یرد منه فیه شی‌ء و سأبین ذلك إن شاء اللّه تعالی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 12

القسم الأول و هو ینقسم الی اربعة و ثمانین قسما

القسم الأول: فی الكلام علی الفصاحة و البلاغة.

اشارة

و الكلام علیهما من وجوه: الأول فی حدهما. الثانی فی اشتقاقهما. الثالث فی التفرقة بینهما.

أما الأول فی حدهما:

فقد قال علماء هذا الشأن: إنّ حدّ البلاغة بلوغ الرجل بعبارته كنه ما فی نفسه، مع الاحتراز من الایجاز المخل، و التطویل الممل .. و قال قوم: البلاغة إیصال المعنی إلی القلب فی أحسن صورة من اللفظ .. و قیل: البلاغة الایجاز مع الافهام و التصرف من غیر اضجار ..
قال خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما قلّت ألفاظه، و كثرت معانیه، و خیر الكلام ما شوّق أوله إلی سماع آخره .. و قال غیره: انما یستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه إلی قلبك.
و أما الفصاحة فهی خلوص الكلام من التعقید.

الثانی فی اشتقاقهما:

قال علماء هذا الشأن: إن اشتقاق البلاغة من البلوغ إلی الشی‌ء و هو الوصول إلیه. و یجوز عندی أن یكون الكلام البلیغ الذی بلغ من جودة الألفاظ و عذوبة المعانی إلی غایة لا یبلغ إلی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 13
مثلها إلا مثله.
و أما الفصاحة فقالوا: اشتقاقها من الفصیح، و هو اللبن الذی أخذت منه الرغوة، و ذهب لباؤه یقال فصح الرجل اذا صار كذلك و أفصحت الشاة اذا فصح لبنها.

الثالث فی الفرق بینهما:

قال قوم من أرباب علم البیان:
الفصاحة و البلاغة متعاقبان علی معنی واحد .. و قال قوم: البلاغة فی المعانی و الفصاحة فی الألفاظ. یقال معنی بلیغ، و لفظ فصیح (و لیست) الفصاحة و البلاغة مختصین بالالفاظ العربیة و انما یطلقان علی كل ما لفظه غریب و فهمه قریب.
و إذا تقرر هذا فقد احتوی الكتاب العزیز علی جمل من ذلك أفرغت فی قالب الجمال، و أترعت لها كئوس الاحسان و الإجمال، و أتت علی معظمها و أجلّها، و استوفت نصاب ملكها، لازمة علم البیان، و أدلّها، و أنا أذكرها نوعا نوعا، و قسما قسما، محلا ببراهینه و شواهده، سافرا عن نضارة وجوه نظائره و فوائده بعد استیفاء الكلام علی الحقیقة و المجاز، إذ الكلام لا یخلو عنهما أو عن أحدهما.
فنبدأ بالكلام علی الحقیقة، و الكلام فیها من ثلاثة أوجه: الأول:
اشتقاقها. الثانی: حدها. الثالث: أقسامها.
أما الأول فالحقیقة فعیلة بمعنی مفعولة و فی اشتقاقها قولان.
أحدهما: انها مشتقة من حقّق الشی‌ء یحققه اذا أثبته، و الآخر: أنها من حققت الشی‌ء أحقه إذا كنت منه علی یقین.
و أما الثانی: فلها حدان. الأول فی المفردات. و الثانی فی الجمل .. فأما حدها فی المفردات: فهی كل كلمة أرید بها ما وقعت به فی وضع واضع وقوعا لا یسند فیه إلی غیره، كالأسد للحیوان
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 14
المخصوص المعروف .. الثانی حدها فی الجمل: فهو كل جملة وضعتها علی أن الحكم المفاد بها علی ما هو علیه فی العقل، و واقع موقعه مثاله خلق اللّه العالم و أنشأ العالم- فأنشأ- واقعة موقع- خلق.
و أما الثالث فأقسامها ثلاثة: حقیقة لغویة. و حقیقة شرعیة.
و حقیقة عرفیة .. و هی علی قسمین عامة و خاصة. فالعامة كاستعمال لفظ الدابة فی الحمار، و خاصة نحو استعمال لفظ الجوهر فی المتحیز الذی لا ینقسم.
و أما المجاز فالكلام علیه أیضا من خمسة أوجه: الأول: فی المعنی الذی استعملت العرب المجاز من أجله. الثانی: فی حدّه.
الثالث: فی اشتقاقه. الرابع: فی علة النقل. الخامس: فی أقسامه.
أما الأول فإن المعنی الذی استعملت العرب المجاز من أجله میلهم إلی الاتساع فی الكلام، و كثرة معانی الالفاظ لیكثر الالتذاذ بها فإن كل معنی للنفس به لذة، و لها إلی فهمه ارتیاح و صبوة، و كلما دقّ المعنی رقّ مشروبه عندها وراق فی الكلام انخراطه، و لذ للقلب ارتشافه، و عظم به اغتباطه، و لهذا كان المجاز عندهم منهلا مورودا عذب الارتشاف، و سبیلا مسلوكا لهم علی سلوكه انعكاف، و لذلك كثر فی كلامهم حتی صار أكثر استعمالا من الحقائق، و خالط بشاشة قلوبهم حتی أتوا منه بكل معنی رائق و لفظ فائق، و اشتدّ باعهم فی إصابة أغراضه فأتوا فیه بالخوارق و زینوا به خطبهم و أشعارهم حتی صارت الحقائق دثارهم، و صار شعارهم.
و أما الثانی: فحدّه علی قسمین: حدّ فی المفردات. و حدّ فی الجمل ..
أما حده فی المفردات فهو كل كلمة أرید بها غیر ما وضعت له فی وضع واضعها .. و قیل: حده استعمال اللفظ الحقیقی فیما وضع له دالا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 15
علیه، ثانیا لتسویته علاقة بین مدلول الحقیقة و المجاز ..
و أما حده فی الجمل: فهو كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه بضرب من التأویل.
و أما الثالث: فاشتقاقه من جاز الشی‌ء یجوزه إذا تعداه و عدل عنه.
فاللفظ إذا عدل به عما یوجبه أصل الوضع فهو مجاز علی معنی أنهم جاوزوا به موضعه الأصلی أو جاوز هو مكانه الذی وضع فیه أوّلا.
و أما الرابع: فالمعنی الذی وقع به النقل شیئان. أحدهما أن یكون المنقول عن معنی وضع اللفظ بازائه أولا من غیر مناسبة و لا علاقة، كالأعلام المنقولة، و بهذا یتمیز عن المشترك. الثانی: أن یكون ذلك النقل لمناسبة بینهما أو علاقة، و لأجل ذلك لا توصف به الأعلام المنقولة، لأنها مجازات مثل تسمیة الرجل بالحجر، فإنه لیس هذا النقل لتعلق بین حقیقة الحجر و بین ذلك الشخص، و أما إذا تحقق الشرطان فإنه یسمی مجازا، و ذلك مثل تسمیة النعمة أو القوة بالید لما بینهما من التعلق فإن النعمة إنما تعطی بالید و القوة إنما تظهر بكمالها فی الید .. و من ذلك أیضا تسمیة المزادة بالراویة، و هی اسم للبعیر الذی یحمل علیه فی الأصل، و مثل ما بین النبت و الغیث و السماء و المطر حیث قالوا: رعینا الغیث یریدون النبت الذی الغیث سبب نشوء عادة، و قالوا أصابتنا السماء، یریدون أصابنا المطر ..
و قال قوم: المجاز لا یصح إلا بنسبة مع علاقة بین مدلول الحقیقة و المجاز، و تلك النسبة متنوعة فإذا قوی التعلق بین محلی الحقیقة و المجاز فهو الظاهر الواضح، و إذا ضعف التعلق إلی حدّ لم تستعمل العرب مثله و لا نظیر له فی المجاز، فهو مجاز التعقید و لا یحمل علیه شی‌ء فی الكتاب و السنة، و لا یوجد مثله فی كلام فصیح. و قد تقع علاقة بین الضعیفة و القویة، فمن العلماء من یتجوز بها لقربها بالنسبة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 16
إلی العلاقة الضعیفة، و منهم من لا یتجوز بها لانحطاطها عن العلاقة القویة، و هذا مذكور فی الكتب المختصة بأصول الفقه.
الخامس: أقسامه و هی كثیرة. الأول: مجاز التعبیر بلفظ المتعلق به عن المتعلق و أقسامه كثیرة .. و قد انتهت عدة ما احتوی علیه الكتاب العزیز الی أربعة و عشرین قسما:
الاول: التجوز بلفظ العلم عن المعلوم كقوله تعالی: وَ لا یُحِیطُونَ بِشَیْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أراد بشی‌ء من معلومه. و كقوله تعالی:
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أی من المعلوم. و كذلك قوله تعالی:
فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّی جاءَهُمُ الْعِلْمُ أی المعلوم.
الثانی: التجوز بلفظ المعلوم عن العلم و سیأتی بیانه و أمثلته.
الثالث: التجوز بلفظ المقدور عن القدرة مثل قولهم: رأینا قدرة اللّه أی مقدور اللّه: و منه قوله تعالی: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ كُلَّ شَیْ‌ءٍ أی مصنوعه.
الرابع: التجوز بلفظ الإرادة عن المراد كقوله تعالی: یُرِیدُونَ أَنْ یُفَرِّقُوا بَیْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ و المعنی و یفرقون بین اللّه و رسله بدلیل أنه قوبل بقولهم و لم یفرقوا بین أحد منهم و لم یقل و یریدون أن یفرقوا بین أحد منهم.
الخامس: التجوز بلفظ المراد عن الارادة كقوله تعالی: وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ معناه و ان أردت الحكم فاحكم بینهم بالعدل و فیه مجاز من وجهین. أحدهما التعبیر بالحكم عن إرادته.
و الآخر التعبیر بالماضی عن المستقبل.
السادس: اطلاق اسم الفعل علی الجزء الأول منه، و علی الجزء الاخیر منه و مثاله قوله تعالی: وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 17
أراد بالرمی المنفی آخر أجزاء الرمی التی وصل التراب به الی أعینهم و بالرمی المثبت شروعه فی الرمی و أخذه فیه، فیكون المعنی: و ما أوصلت التراب إلی أعینهم إذ شرعت فی الرمی و أخذت فیه. و منه قوله صلّی اللّه علیه و سلم: «صلی بی جبریل علیه السلام الظهر حین زالت الشمس» أی شرع فی الصلاة و أخذ فیها. «و صلی بی الظهر فی الیوم الثانی حین صار ظل الشی‌ء مثله» و أراد بذلك آخر أجزاء الصلاة و هو السلام .. و هذا من مجاز التعبیر بلفظ الكل عن البعض، و كذلك نظائره، و یصحح هذا ما بین الإرادة و المراد من النسبة و التعلق، و یجوز أن یكون المصحح كون المراد مسببا عن الارادة، فیكون تجوزا باسم المسبب عن السبب بخلاف التعبیر بالمعلوم عن العلم فإنه لیس مسببا عنه و لا مؤثرا فیه.
السابع: التجوز بلفظ الأمل عن المأمول، و ذلك فی قوله تعالی:
وَ الْباقِیاتُ الصَّالِحاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَیْرٌ أَمَلًا أی و خیر مأمولا.
الثامن: التجوز بلفظ الوعد و الوعید عن الموعود من ثواب و عقاب و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِیهِ و مثله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِیًّا أی موعوده.
التاسع: إطلاق العهد و العقد علی الملتزم منهما، و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و قوله تعالی: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ و قوله تعالی: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِی عبّر بهذه العهود كلها عن موجبها و مقتضاها و هو الذی التزم بها.
العاشر: اطلاق اسم البشری علی المبشر به و هو فی القرآن كثیر.
من ذلك قوله تعالی: بُشْراكُمُ الْیَوْمَ جَنَّاتٌ و قال أبو علی: التقدیر بشراكم الیوم دخول جنات أو خلود جنات، لأن البشری مصدر،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 18
و الجنات جرم، فلا یخبر بالجرم عن المعنی.
و قال الشیخ الإمام عز الدین بن عبد السلام: لا حاجة إلی هذا التعسف لأن البشری لیست عین الدخول، و لا عین الخلود، كما أنها لیست عین الجنات، و لا بد من تأویله علی كلا القولین بما ذكرناه، و إلا كان خلفا لأن البشری قول، و لا یجوز أن یخبر عن القول بأنه جرم، و لا بأنه دخول و لا خلود.
الحادی عشر: اطلاق اسم القول علی المقول فیه و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما یَقُولُونَ و منه قوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالی عَمَّا یَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِیراً معناه وجب علیهم العذاب المقول فیه. و منه قوله تعالی: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أی من مقولهم و هو الأدرة.
الثانی عشر: اطلاق اسم النبأ عن المنبأ عنه و هو فی القرآن كثیر.
من ذلك قوله تعالی: فَسَوْفَ یَأْتِیهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ یَسْتَهْزِؤُنَ.
الثالث عشر: اطلاق الاسم علی المسمی، و هو فی القرآن كثیر.
من ذلك قوله تعالی: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّیْتُمُوها معناه ما تعبدون من دونه إلا مسمیات. و منه قوله تعالی: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَی أی سبح ربك الأعلی، و لذلك نقل عن الصحابة رضی اللّه عنهم أنهم كانوا اذا قرءوها قالوا: سبحان ربی الأعلی. و قال علیه الصلاة و السلام: «اجعلوها فی سجودكم» و منه قوله صلّی اللّه علیه و سلم: «بسم اللّه الذی لا یضرّ مع اسمه شی‌ء فی الأرض و لا فی السماء».
و من جعل الاسم هو المسمی فی قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ كان التقدیر فیه أقرأ باللّه أی بمعونته و بتوفیقه، و من جعله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 19
التسمیة كان التقدیر أتبرك بذكر اسم اللّه، و بهذا یرد علی من قدّر ابتدائی، أو بدأت باسم اللّه، إذ لا وجه للتبریك علی بعض الفعل دون سائره، و لا لنسبة ابتداء الفعل إلی التوفیق دون سائره، لأن الحاجة داعیة الی التبرّك و التوفیق فی جمیع الفعل دون انتهائه و ابتدائه.
الرابع عشر: اطلاق اسم الكلمة علی المتكلم به، و منه فی القرآن كثیر من ذلك قوله تعالی: وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أی لا مبدل لعذاب اللّه، أو لا مبدل لمقتضی عذاب اللّه، و منه قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ تجوز بالكلمة عن المسیح لكونه تكوّن بها من غیر أب بدلیل قوله تعالی: وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ و لا تنصف الكلمة بذلك، و أما قوله اسمه المسیح فإنّ الضمیر فیه عائد إلی مدلول الكلمة، و المراد بالاسم المسمی فالمعنی المسمی المبشر به المسیح ابن مریم.
الخامس عشر: اطلاق اسم الیمین علی المحلوف و هو فی القرآن فی موضعین أحدهما قوله تعالی: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَیْمانِكُمْ أی و لا تجعلوا قسم اللّه أو یمین اللّه مانعا لما تحلفون علیه من البر و التقوی بالصلاح بین الناس «1».
السادس عشر: اطلاق اسم الحكم علی المحكوم به و ذلك قوله تعالی: إِنَّ رَبَّكَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ بِحُكْمِهِ أی بما یحكم به لكل واحد منهم من ثواب و عقاب فتجوز بالحكم عن متعلقه و هو المحكوم به، و كذلك التعبیر بلفظ القضاء عن المقضی به فی قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «أعوذ بك من سوء القضاء» أی من سوء ما قضیت به، إذ لا
______________________________
(1) سقط من الاصل ذكر الموضع الثانی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 20
تصح الاستعاذة من قضاء اللّه، لأنه صفة قدیمة له لا یمكن تبدیلها و لا تغییرها، و مثله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أی فاصبر لما حكم به علیك، و كذلك قول الداعی: اللهم رضنی بقضائك، أی بما قضیته لی أو علیّ من غیر معصیة، فإن المعاصی مقضیة أیضا، و قد أمرنا اللّه تعالی بكراهتها فنمتثل أمر اللّه تعالی فی كراهتها و إن وقعت.
السابع عشر: التجوز بلفظ العزم علی المعزوم علیه و هو كثیر فی القرآن، و منه قوله تعالی: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أی ان ذلك الصبر و الغفر مما یعزم علیه من الأمور، و منه قوله تعالی: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ تجوز بالعزم عن المعزوم علیه لتعلقه به و معناه، و لا تعقدوا عقدة النكاح، أو یكون التقدیر و لا تعزموا علی تنجیز عقدة النكاح.
الثامن عشر: التجوز بلفظ الهوی عن المهوی، و هو فی القرآن العظیم فی موضعین أحدهما قوله تعالی: وَ نَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوی معناه و نهی النفس عما تهواه من المعاصی، و لا یصح نهیها عن هواها، و هو میلها لأنه تكلیف ما لا یطاق إلا أن تقدر حذف مضاف معناه و نهی النفس عن اتباع الهوی، فیكون من مجاز الحذف، و منه قوله تعالی:
أَ رَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ یحتمل أن یرید به بهواه لانهم كانوا یعبدون الصنم، فإن استحسنوا غیره عبدوه و تركوا الأول، و یحتمل أن یكون المراد به مجاز التشبیه، فإن الانسان إذا طاوع هواه فیما یأتیه و یتركه فقد نزل الهوی منزلة المعبود المطاع.
التاسع عشر: اطلاق اسم الخشیة علی المخشیّ و هو فی القرآن العزیز فی قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ هُمْ مِنْ خَشْیَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ معناه هم من عقوبة ربهم خائفون.
العشرون: اطلاق اسم الحب علی المحبوب و ذلك قوله تعالی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 21
إِنِّی أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّی معناه أحببت محبوب الخیر عن ذكر ربی.
الحادی و العشرون: اطلاق اسم الظن علی المظنون و هو فی القرآن العظیم فی موضعین. أحدهما قوله تعالی: وَ ما ظَنُّ الَّذِینَ یَفْتَرُونَ عَلَی اللَّهِ الْكَذِبَ یَوْمَ الْقِیامَةِ معناه أی شی‌ء مظنونهم أ هو الهلاك أو النجاة. الثانی قوله تعالی: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِینَ كَفَرُوا معناه ذلك الخلق الباطل مظنون الذین كفروا. و أما قوله تعالی: اجْتَنِبُوا كَثِیراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فیجوز أن یكون من مجاز الحذف تقدیره اجتنبوا كثیرا من اتباع الظن إن اتباع الظن ذنب، و یجوز أن یكون تجوز بالظن عن المظنون و هو أمره باجتناب فعل وقع منهم.
الثانی و العشرون: اطلاق اسم الیقین علی المتیقن، و هو فی القرآن العظیم فی موضعین. أحدهما قوله تعالی: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّی یَأْتِیَكَ الْیَقِینُ معناه و اعبد ربك حتی یأتیك الموت لكل أحد. و منه قوله تعالی: وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ حَتَّی أَتانَا الْیَقِینُ معناه: حتی أتانا الموت المتیقن لكل أحد.
الثالث و العشرون: اطلاق اسم الشهوة علی المشتهی، و هو فی القرآن العظیم فی موضعین. أحدهما قوله تعالی: زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أی حب المشتهیات بدلیل أنه قال: مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِینَ الثانی قوله: إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَنْ تَشِیعَ الْفاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا إن الذین یشتهون الفاحشة فی أعراض الذین آمنوا لهم عذاب ألیم فی الدنیا و الآخرة، و لذلك أوجب علیهم فی الدنیا الحد، و فی الآخرة العذاب و لا یتعلق الحد بمجرد حب الاشاعة.
الرابع و العشرون إطلاق اسم الحاجة علی المحتاج إلیه، و هو فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 22
القرآن العظیم كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَیْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ یُغْنِی عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَیْ‌ءٍ إِلَّا حاجَةً فِی نَفْسِ یَعْقُوبَ قَضاها معناه ما كان دخولهم یدفع عنهم من قضاء اللّه و قدره شیئا، و لكن طلب حاجة فی نفس یعقوب قضاها، و یحتمل و لكن حاجة فی نفس یعقوب قضی متعلقها، لأن الحاجة الحقیقیة التی هی الافتقاد لا تقضی، و إنما یقضی متعلقها الذی هو المحتاج الیه، و منه: وَ لا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا معناه: و لا یجدون فی قلوبهم تمنی شی‌ء یحتاجون إلیه مما أعطیه المهاجرون .. و هذه الأقسام كلها من مجاز التعبیر بلفظ المتعلق به، أو من مجاز التعبیر بلفظ المتعلق به عن المتعلق و مصحح المجاز فیه ما بینهما من النسبة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 23

القسم الثانی اطلاق اسم السبب علی المسبب و هو أربعة أقسام:

القسم الأول: قوله تعالی: فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْكُمْ سمی عقوبة الاعتداء اعتداء لأنه المسبب عن الاعتداء، و منه قوله تعالی: وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها تجوز بلفظ الجنایة عن القصاص، فإنه مسبب عنها، و التقدیر جزاء جنایة قبیحة عقوبة قبیحة مثلها فی القبح، و إن عبرت بالسیئة عما ساء أی أحزن لم یكن من هذا الباب، لأن الإساءة تحزن فی الحقیقة كالجنایة. و منه قوله تعالی: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سبب لها .. و یحتمل أن یكون مكر اللّه حقیقیا، لأن المكر هو التدبیر فیما یضر الخصم خفیة، و هذا متحقق من اللّه تعالی لاستدراجه ایاهم بما أجری علیهم من نعمه مع ما أعد لهم من نقمه.
الثانی: اطلاق اسم الكتابة علی الحفظ فإن الكتابة سبب لحفظ المكتوب، و هو فی القرآن العظیم فی موضعین. أحدهما قوله تعالی:
سَنَكْتُبُ ما قالُوا أی سنحفظه و لا ننساه حتی نجازیهم به. و الآخر قوله تعالی: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِیاءَ أی نحفظه علیهم فإن الملائكة قد كتبوا ذلك لما قالوا، و قتلوا الأنبیاء فاستعمل اللفظ المستقبل فی حفظه دون كتابته، (و أما) قوله تعالی: أُولئِكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمانَ فإنه تجوز بالكتابة عن الثبوت و الدوام، فإن الكتابة مستمرّة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 24
باقیة فی العادة، (و أما) قوله تعالی: إِنَّ الْمُنافِقِینَ یُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ففیه مذهبان. أحدهما: أنه من مجاز الحذف تقدیره إن المنافقین یخادعون رسول اللّه، و اللّه خادعهم، فیكون خداعهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم حقیقیا. و أما خدع اللّه إیاهم، فیجوز أن یكون من مجاز التعبیر بلفظ السبب عن المسبب، و یجوز أن یكون من مجاز التشبیه معناه أنه عاملهم معاملة المخادع بما أخفاه عنهم من إرادة إضرارهم و إهلاكهم، و یجوز ان یكون حقیقة بما ذكرناه فی المكر، و یتأتی أن یكون مخادعتهم للّه من مجاز التشبیه بمعنی أنهم یعاملونه معاملة المخادع و یكون خدعهم من مجاز المعاملة، و یجوز أن یكون من مجاز التعبیر بلفظ السبب عن المسبب، فیكون من مجاز المجاز فإن مخادعتهم مجازیة تجوز بها عن شبهها و كان اطلاق اللفظ من مجاز التشبیه.
الثالث: اطلاق اسم السمع علی القبول و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: ما كانُوا یَسْتَطِیعُونَ السَّمْعَ معناه ما كانوا یستطیعون قبول ذلك و العمل به، لأن قبول الشی‌ء مرتب علی استماعه و مسبب عنه، و یجوز أن یكون نفی السمع لانتفاء فائدته فیصیر كقولهم أنهم لا أیمان لهم أی لا وفاء ایمان لهم ... و منه قول الشاعر:
و ان حلفت لا ینقض النأی عهدهافلیس لمخضوب البنان یمین معناه: لیس لمخضوب البنان وفاء یمین.
الرابع: اطلاق اسم الایمان علی ما نشأ عنه من الطاعة و هو فی القرآن كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: وَ ما كانَ اللَّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَكُمْ معناه: ما كان اللّه لیضیع أجر صلاتكم إلی الصخرة قبل النسخ. و منه قوله تعالی: أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ معناه أ فتعملون ببعض التوراة و هو فداء الأساری فتجوز بالایمان عن العمل بما یوافق الكتاب، لأنه مسبب عن الایمان و تتركون العمل ببعض و هو قتل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 25
اخوانكم و اخراجهم من دیارهم. و منه قوله صلّی اللّه علیه و سلّم:
«الایمان بضع و سبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا اللّه و أدناها إماطة الأذی عن الطریق» جعل القول و إماطة الأذی عن الطریق إیمانا لأنهما مسببان عن الایمان.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 26

القسم الثالث اطلاق اسم المسبب علی السبب و هو ثمانیة أقسام:

القسم الأول: اطلاق اسم العقوبة علی الإساءة و الجنایة. و منه قوله تعالی: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ معناه و إن أردتم معاقبة مسی‌ء فعاقبوه بمثل ما بدأكم به من الإساءة فقوله- و ان عاقبتم- من مجاز التعبیر بلفظ الفعل عن ارادته و قوله- بمثل ما عوقبتم به- من مجاز التعبیر بلفظ المسبب عن السبب و قوله- فعاقبوا- حقیقة اكتنفها المجازان. و كذلك قوله: ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِیَ عَلَیْهِ لَیَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فعاقب حقیقة و عوقب به من مجاز تسمیة السبب باسم المسبب. و من هذا النوع قول العرب: كما تدین تدان معناه: كما تفعل تجزی لأن الدین هو الجزاء فتجوّز به عن الجنایة لأنه مسبب عنها .. و كذلك قول الشاعر:
و لم یبق سوی العدوان دنّاهم كما دانوا معناه: جزیناهم بما فعلوا فدناهم حقیقة و دانوا مجاز.
القسم الثانی: اطلاق الأكل علی الأخذ لمّا كان الأكل مسببا عن الأخذ. و منه قوله تعالی: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْباطِلِ معناه لا تأخذوا أموالكم بالسبب الباطل كالقمار و نحوه.
القسم الثالث: اطلاق اسم الغلبة علی المقاتلة التی هی مسبّب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 27
عنها. و منه قوله تعالی: إِنْ یَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ عبر بلفظ الغلبة عن المقاتلة، لأن الغلبة مسببة عن المقاتلة.
الرابع: اطلاق اسم الرجز علی عبادة الأصنام. و منه قوله تعالی:
وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ تجوّز بالرجز و هو العذاب الشدید عن عبادة الأصنام، لأن العذاب مسبب عنها (و أما) قوله تعالی: وَ یُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ فهو من مجاز التعبیر بلفظ المسبب عن سبب سببه، لأن وساوس الشیطان سبب لمعصیة الرحمن، و معصیة الرحمن سبب لعذاب الدیان، فبان أن الوسوسة سبب للمعصیة، و المعصیة سبب للعذاب، و یجوز أن تجعل الوسوسة نفسها رجزا لمشقتها علی أهل الایمان، و كلما اشتدت مشقته علی النفوس فهو رجز .. قال أبو عبید الرجز و الرجس:
هما العذاب الشدید. و كذلك ما أشبهه.
الخامس: اطلاق اسم المغفرة علی التوبة. و منه قوله تعالی:
وَ اللَّهُ یَدْعُوا إِلَی الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ تجوّز باسم المغفرة عن التوبة.
السادس: اطلاق اسم الكبریاء علی الملك لأنها مسببة عن الملك، و منه قوله تعالی: وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِیاءُ فِی الْأَرْضِ.
السابع: اطلق اسم القوة علی السلاح، لأن القوّة علی القتال تكون عنها. و منه قوله تعالی: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ لأن القوة علی قتالهم مسببة عن الأسلحة فسماها باسم مسببها، أو یكون ذلك من مجاز الحذف تقدیره و أعدوا لهم ما استطعتم من أسباب قوة أو من أدوات قوة.
الثامن: اطلاق اسم الاعطاء و الإیتاء علی الالتزام فمن ذلك قوله تعالی: فَلا جُناحَ عَلَیْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَیْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ معناه اذا سلمتم ما التزمتموه بالمعروف لمّا كان التسلیم مسببا عن الالتزام عبر به عنه. و من ذلك قوله تعالی: وَ لا جُناحَ عَلَیْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَیْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أی اذا التزمتم لهن مهورهن .. و یحتمل أن یكون
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 28
من مجاز الحذف تقدیره اذا آتیتم أهلهن مهورهن و لا یدلّ قوله فانكحوهن بإذن أهلهن علی صحة النكاح بغیر ولیّ، لأنه لم یذكر المأذون له، و یجوز أن یكون المراد الوكیل، و یجوز و یحتمل أن تكون المرأة و حمله علی الوكیل أولی، لأن الغالب فی الأنكحة أنه یتولی ذلك الرجال دون النساء، فیجب الحمل علی الغالب لأن مباشرة المرأة النكاح فی غایة الندور، فلا یجوز حمل الكلام علیه اذ لا یوجد لمثل هذا نظیر فی كلام العرب من أنهم أرادوا بیان شی‌ء و الارشاد الی مصلحة فیبینوه بأن أحواله مع الاستغناء عنه، و یهملوا الأغلب مع مسیس الحاجة إلیه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 29

القسم الرابع اطلاق اسم الفعل علی غیر فاعله لمّا كان سببا له و هو أربعة أقسام:

الأول: نسبة الفعل إلی من كان سببا له. من ذلك قوله تعالی:
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ و هو من عند اللّه علی الحقیقة، و لكنه نسب ما أصابهم من قتل اخوتهم الی سببه. و منه قوله تعالی: فَلِأَنْفُسِهِمْ یَمْهَدُونَ و الماهد هو اللّه علی الحقیقة، و لكنه نسب الیهم تمهید المرقد لتسببهم الیه بالعمل الصالح.
الثانی: اطلاق نسبة الفعل علی سبب سببه و هو فی القرآن كثیر.
و منه قوله تعالی: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِی النَّارِ نسبوا صلیّ النار إلی سبب سببه لأن الكبراء أمروهم و هم امتثلوه و المقدّم علی الحقیقة هو اللّه تعالی، و سبب كفرهم أمر رؤسائهم ایاهم بالكفر.
و منه: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِیهِ و منه قوله تعالی: كَما أَخْرَجَ أَبَوَیْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ و منه: فَلا یُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقی المخرج و النازع علی الحقیقة هو اللّه تعالی.
الثالث: نسبة الفعل الی الآمر به، و هو فی القرآن كثیر. منه قوله تعالی: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما و منه: الزَّانِیَةُ وَ الزَّانِی فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما و منه قوله تعالی: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 30
جَلْدَةً فان كان هذا أمرا للولاة فهو أمر بالأمر باقامة الحدود، و ان كان أمرا لمستوفی الحقوق أو مباشرها فهو حقیقة (فأما) قوله: رجم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم ماعزا و الغامدیة. و قوله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت یدها. فكل ذلك من باب نسبة الفعل الی الآمر به. و من ذلك قوله تعالی: وَ نادی فِرْعَوْنُ فِی قَوْمِهِ أی أمر من ینادی فی قومه.
الرابع: نسبة الفعل إلی الآذن فیه و هو فی القرآن كثیر. و من ذلك قوله تعالی: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً الآخذ علی الحقیقة هو الولیّ، و المرأة الآذنة فیه، و هذا أخذ مجازی و نسبته الیهن مجازیة أیضا كما ذكرناه .. و قد اختلف فی المیثاق فقیل: إنه العقد، و قیل: انه قول الولیّ زوّجتك علی ما أمر اللّه به من إمساك بمعروف أو تسریح بإحسان. و منه قوله تعالی: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ یَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ و قوله تعالی: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّی تَنْكِحَ زَوْجاً غَیْرَهُ نسب النكاح الیهن لإذنهن فیه و هذا علی قول من قال ان المرأة العاقلة البالغة الثیب لا تنكح نفسها. و أما علی قول من قال انها تنكح نفسها فهو حقیقة فیهن مجاز فیما سواهن.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 31

القسم الخامس الأخبار عن الجماعة بما یتعلق ببعضهم،

و فی خطابهم بما یتعلق ببعضهم و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ معناه ثم اتخذ العجل بعض أسلافكم فإن جمیع الخلف و السلف لم یتخذوا العجل إلها، و إنما وجد من بعضهم فصار هذا كقول امرئ القیس:
فإن تقتلونا نقتّلكم و إن‌تقصدوا لدم نقصد معناه: فإن قتلتم بعضنا نقتّلكم إذ لا یتصوّر أن یقتلوهم بعد استیعاب جمیعهم بالقتل، و هذا الباب كله من مجاز الحذف، و له قاعدة یتفرع علیها، و هی إن كان البعض واحدا كان التقدیر و إذ فعل أحدكم.
و مثاله قوله تعالی: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً و ان كان البعض أكثر من واحد كان التقدیر، و إذا فعل بعضكم. و مثاله قوله تعالی: وَ إِذْ قُلْتُمْ یا مُوسی لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّی نَرَی اللَّهَ جَهْرَةً و كان القائلون لذلك سبعین، و من زعم أنه نسب الفعل إلیهم لأنهم رضوا به لا یستقیم قوله لأنا نعلم أنهم لم یتفقوا علی الرضی فی قتل النفس و لا باتخاذ العجل و لا بقولهم- لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّی نَرَی اللَّهَ جَهْرَةً- و لا بقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلی طَعامٍ واحِدٍ و أیضا فان نسبة الفعل الی الراضی به مجاز و إلی فاعله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 32
حقیقة فإذا حمل- علی- علیهما كان حملا علی حقیقة غالبة و مجاز مغلوب، و ذلك لا یجوز.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 33

القسم السادس اطلاق اسم البعض علی الكل و هو سبعة عشر قسما:

الأول: التعبیر بالقیام عن الصلاة. و من ذلك قوله تعالی: قُمِ اللَّیْلَ إِلَّا قَلِیلًا أی صلّ اللیل إلا قلیلا. و قوله تعالی: لا تَقُمْ فِیهِ أَبَداً أی لا تصلّ فیه أبدا.
الثانی: التعبیر بالركوع عن الصلاة و هو فی قوله تعالی:
وَ ارْكَعِی مَعَ الرَّاكِعِینَ أی صلی مع المصلین. و قوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا یَرْكَعُونَ أی و إذا قیل لهم صلوا لا یصلون.
الثالث: التعبیر عنها بالسجود. و ذلك فی قوله تعالی: وَ مِنَ اللَّیْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أی فصلّ له. و منه قوله تعالی: فَإِذا سَجَدُوا فَلْیَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أی فاذا صلوا فلیكونوا من ورائكم. و منه قوله تعالی:
یَتْلُونَ آیاتِ اللَّهِ آناءَ اللَّیْلِ وَ هُمْ یَسْجُدُونَ أی و هم یصلون لأن التلاوة منهیّ عنها فی السجود الحقیقی فلا یصح المدح فیما نهی عنه.
الرابع: التعبیر عنها بالقراءة فی قوله تعالی: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ و فی قوله: فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.
الخامس: التعبیر عنها بالتسبیح فی قوله: وَ سَبِّحْهُ لَیْلًا طَوِیلًا و فی قوله: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ و فی قوله: وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِیلًا و أمثاله فی القرآن كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 34
السادس: التعبیر عنها بالذكر فی قوله: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِیلًا و فی قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ معناه فإذا أمنتم فصلوا للّه.
السابع: التعبیر عنها بالاستغفار فی قوله وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ و حمله بعضهم علی الحقیقة.
الثامن: التعبیر بالذقن عن الوجه فی قوله تعالی: یَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً و فی قوله: یَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ یَبْكُونَ أی للوجوه.
التاسع: التعبیر بالأنف عن الوجه فی قوله تعالی: سَنَسِمُهُ عَلَی الْخُرْطُومِ:
العاشر: التعبیر بالرقبة عن الجملة فی قوله تعالی: فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ و فی قوله: وَ فِی الرِّقابِ و فی قوله: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِینَ فإن هذه الأفعال لا تختصّ بالرقاب بل تعمّ الأجساد و كذلك ما أشبهه.
الحادی عشر: التعبیر بالیدین عن الجملة و هو فی القرآن كثیر.
من ذلك قوله تعالی: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ یَداكَ.
الثانی عشر: التعبیر بالیمین عن الجملة. و منه قوله تعالی:
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْیَمِینِ.
الثالث عشر: التعبیر بالعضد عن الجملة فی قوله تعالی: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِیكَ.
الرابع عشر: التعبیر بالأصابع عن الكف و الأرجل كقوله تعالی:
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
الخامس عشر: التعبیر بالوجه عن الجسد. و منه قوله عز و جل:
وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ و منه قوله تعالی: وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 35
عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلی ناراً حامِیَةً عبر بالوجوه عن الأجساد لأن العمل و النصب صفتان للأجساد.
السادس عشر: التعبیر بالمسجد الحرام عن الحرم كله فی قوله تعالی: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (و یجوز) أن یكون من مجاز الحذف تقدیره فلا یقربوا حرم المسجد الحرام.
السابع عشر: التعبیر بمكة عن الحرم كله فی قوله علیه الصلاة و السلام: «إنّ اللّه حرّم مكّة یوم خلق السموات و الأرض لا ینفّر صیدها و لا یعضد شجرها». و معلوم أن البلد نفسه لا صید فیه مباح و لا شجر أیضا (و أما) قوله تعالی: ثُمَّ مَحِلُّها فإنه تجوّز بالبیت العتیق عن الحرم كله إذ لا یجوز النحر فیما اتصل بالبیت من المسجد المحیط (و یجوز) أن یكون من مجاز الحذف تقدیره، ثم محلها إلی حرم البیت العتیق.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 36

القسم السابع اطلاق اسم الكل علی البعض و هو أحد عشر قسما

الأول: قوله تعالی: وَ إِذا رَأَیْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ و معلوم انه لم یر جملتهم و إنما دائر وجوههم و ما یبدأ منهم.
الثانی: قوله تعالی: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً.
الثالث: قوله تعالی: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ علی قول من قال استیعاب مسح الرأس لیس بواجب.
الرابع: قوله تعالی: یَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ و انما جعلوا بعض أناملهم.
الخامس: قوله تعالی: ادْخُلُوا مِصْرَ و معلوم أنهم لم یستوعبوها.
السادس: قولهم: «خرجت من المسجد» و مثله فی القرآن كثیر.
السابع: وصف البعض بوصف الكل و هو فی قوله تعالی: یَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْیُنِ.
الثامن: قوله تعالی: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِیَةِ ناصِیَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ الخطأ صفة للكل فوصفت به الناصیة (و أما) قوله- كاذبة- فالكاذب علی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 37
الحقیقة هو اللسان و نسبة الكذب إلی الإنسان من مجاز وصفه بصفة بعضه و تجوز عن هذا المجاز بأن وصفت به الناصیة فیكون مجازا عن مجاز.
التاسع: نسبة الظن إلی الوجوه فی قوله تعالی: تَظُنُّ أَنْ یُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ فإن الظن وصف للقلوب علی الحقیقة، و یضاف إلی الأجساد علی التجوز فیكون مجازا عن مجاز.
العاشر: وصف الوجوه بالخشوع فإن محل الخشوع القلوب، ثم توصف به الجملة، ثم توصف الوجوه بصفة الجملة.
الحادی عشر: وصفها بالرضی فی قوله تعالی: لِسَعْیِها راضِیَةٌ وصف لها بصفة القلوب و هذا كله من مجاز القلوب.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 38

القسم الثامن فی التجوز بوصف الكل بصفة البعض و هو أربعة أقسام:

الأول: من ذلك قوله تعالی: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ و الوجل الخوف و محله القلب و یدل علیه قوله تعالی: وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِینَ الَّذِینَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
الثانی: قوله تعالی: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَیْهِمْ لَوَلَّیْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً و الرعب انما یملأ القلوب فنسب إلی الأجساد و وصف القلوب بالامتلاء مجاز أیضا.
الثالث: قولك زید عالم و جاهل و راغب و خائف و آمن و متفكر و شاك و متذكر و عاقل و لین و قاس و قانع فهذه كلها من أوصاف القلوب، و قد وصفت بها الجملة.
الرابع: قوله تعالی: كِتابٌ فُصِّلَتْ آیاتُهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ بَشِیراً وَ نَذِیراً وصف القرآن بالبشارة و النذارة و كلاهما بعض من أبعاضه لاشتماله علی الأمر و النهی، و الحدود و الحلال و الحرام و سائر الأحكام و نسبة البشارة و النذارة إلیه مجازیة أیضا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 39

القسم التاسع اطلاق اسم الفعل علی مقاربه و مساوقه و هو قسمان:

الأول: قوله تعالی وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ معناه و إذا طلقتم النساء فقاربن انقضاء عددهن و شارفنه فأمسكوهن بمعروف.
الثانی: قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً معناه و الذین یقاربون الوفاة و ترك الأزواج و یشارفونها .. و كذلك ما أشبهه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 40

القسم العاشر اطلاق اسم الشی‌ء علی ما كان علیه و هو قسمان:

الأول: من ذلك قوله تعالی: وَ آتُوا الْیَتامی أَمْوالَهُمْ معناه الذین كانوا یتامی إذ لا یتم بعد البلوغ.
الثانی: قوله تعالی: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ یَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ معناه:
الذین كانوا أزوجهن لأنها نزلت فی معقل بن یسار و أخته لما حلف أنه لا یزوجها من زوجها عبد اللّه بن رواحة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 41

القسم الحادی عشر اطلاق اسم الشی‌ء بما یؤول الیه و هو قسمان:

الأول: من ذلك قوله تعالی: كُتِبَ عَلَیْكُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی أی فیمن یقتل من القتلی.
الثانی: قوله تعالی: إِنِّی أَرانِی أَعْصِرُ خَمْراً أی أعصر عنبا .. و من ذلك قوله تعالی: وَ لا یَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 42

القسم الثانی عشر اطلاق اسم المتوهم علی المحقق و هو خمسة أقسام:

الأول: من ذلك قوله تعالی: یَرَوْنَهُمْ مِثْلَیْهِمْ رَأْیَ الْعَیْنِ أی فی ظنكم و حسبانكم.
و الثانی: قوله تعالی: وَ أَرْسَلْناهُ إِلی مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ أی فی ظن الناظر الیهم و حسبانه.
الثالث: قوله تعالی: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّی عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِیمِ و لم یصر كالعرجون القدیم إلا فی الحسبان و الظن و رأی العین .. و كذلك تقدیره منازل إنما هی منازل من رأی العین فإن القمر فی الفلك الأول و المنازل فی الفلك الثامن، و لا یتصور نزوله فی شی‌ء منها و انما یقع ذلك فی نظر الناظرین و حسبان الظانین.
الرابع: قوله تعالی: لَا الشَّمْسُ یَنْبَغِی لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّیْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِی فَلَكٍ یَسْبَحُونَ أی یسبحون فی رأی العین فإن الناظر إلی الفلك یعتقده ساكنا و الكواكب جاریة فیه و لیس كذلك.
الخامس: قوله تعالی: فَكانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی أی كان قاب قوسین أو أدنی فی ظن رائیه و حسبانه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 43

القسم الثالث عشر اطلاق اسم الشی‌ء الذی یظنه المعتقد و الأمر علی خلافه و هو ستة أقسام:

الأول: من ذلك قوله تعالی: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً ذكر ذلك بالنسبة إلی ظنهم و زعمهم إذ لیس له ضد و لا ند.
الثانی: قوله تعالی: أَیْنَ شُرَكائِیَ و لیس هذا إثباتا للشركاء بل هو یتنزل علی قول الخصم معناه أین شركائی بزعمكم. و قوله صلّی اللّه علیه و سلّم حكایة عن ربه: «من عمل عملا أشرك فیه غیری تركته لشریكی» معناه تركته لشریكی بزعمه.
الثالث: قوله تعالی: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِی أُرْسِلَ إِلَیْكُمْ لَمَجْنُونٌ لم یقرّ فرعون برسالة موسی علیه السلام، بل المعنی بزعمه أنه رسول.
الرابع: قوله عز و جل: یا أَیُّهَا الَّذِی نُزِّلَ عَلَیْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لیس هذا إقرارا بتنزیل الذكر و إنما المعنی یا أیها الذی نزل علیه الذكر بزعمه.
الخامس: قوله تعالی «1»
______________________________
(1) سقط من الأصل ذكر الآیة و القسم السادس.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 44

القسم الرابع عشر التضمین: و هو أن یضمن اسما معنی اسم لافادة معنی الاسمین فتعدیه تعدیته فی بعض المواطن و هو أربعة أقسام:

الأول: قوله تعالی: حَقِیقٌ عَلی أَنْ لا أَقُولَ عَلَی اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ ضمن حقیقا معنی حریص لیفید علیه أنه محقوق یقول الحق و حریص علیه.
الثانی: من التضمین أیضا أن تضمّن فعلا معنی فعل آخر لافادة معنی فعلین و تعدّیه أیضا فی بعض المواطن و هو فی القرآن كثیر. منه قوله تعالی: لا تُشْرِكْ بِی شَیْئاً ضمن لا تشرك معنی لا تعدل- و العدل- التسویة أی لا تسوی باللّه شیئا فی العبادة و المحبة فإنهم عبدوا الأصنام كعبادة اللّه و حبّوها كحب اللّه، و لذلك قال الذین فی النار:
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ إِذْ نُسَوِّیكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِینَ و ما سوّوهم به إلا فی العبادة و المحبة دون أوصاف الكمال و نعوت الجمال و الجلال.
الثالث: قوله عز و جل: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلی قَلْبِها ضمن لتبدی به معنی لتخبر به أو لتعلم لیفید الاظهار معنی الإخبار لأن الخبر قد یقع سرا غیر ظاهر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 45
الرابع: قوله تعالی: عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ ضمن یشرب معنی یروی أو معنی یلتذ لیفید الشرب و الریّ أو الشرب و الالتذاذ جمیعا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 46

القسم الخامس عشر فی مجاز اللزوم و هو ثمانیة تحت كل قسم أقسام قد بیناها فیه:

الأول: التعبیر بالإذن عن المشیئة لان الغالب أن الإذن فی الشی‌ء لا یقع إلا بمشیئة الآذن و اختیاره الملازمة الغالبة مصححة للمجاز. و من ذلك قوله تعالی: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أی إلا بمشیئة اللّه .. و یجوز أن یراد فی هذا بالإذن أمر التكوین و المعنی:
و ما كان لنفس أن تموت إلا بقول اللّه موتی. و نظیره: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْیاهُمْ فحذف تقدیره فقال لهم اللّه موتوا فماتوا لدلالة قوله- ثم أحیاهم- علیه. و مثله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أی بمشیئة اللّه أو بأمر التكوین فإن ملازمة المشیئة للأمر غالبا كملازمة مشیئة المرید غالبا.
الثانی: التعبیر بالإذن عن التیسیر و التسهیل و هو فی قوله تعالی:
وَ اللَّهُ یَدْعُوا إِلَی الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ أی بتسهیله و تیسیره إذ لا یحسن أن یقال دعوته باذنی و لا قمت و قعدت باذنی هذا قول الزمخشری .. و یجوز أن یراد بالإذن هاهنا الأمر أی یدعوكم إلی الجنة و المغفرة بأمره.
الثالث: تسمیة المسافر بابن السبیل. و ذلك فی قوله تعالی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 47
وَ ابْنَ السَّبِیلِ لملازمته السبیل و هو الطریق كما یلازم الولد أمه.
و ذلك فی قوله تعالی: وَ ابْنَ السَّبِیلِ لملازمته السبیل و هو الطریق كما یلازم الولد أمه. و ذلك قیل للطیر ابن الماء لملازمته للماء.
الرابع: نفی الشی‌ء لانتفاء ثمرته و فائدته للزومها عنه غالبا فی مثل قوله تعالی: كَیْفَ یَكُونُ لِلْمُشْرِكِینَ عَهْدٌ أی وفاء عهد و إتمام عهد فنفی العهد لانتفاء ثمرته و هو الوفاء و الاتمام.
و منه قوله تعالی: وَ إِنْ نَكَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِی دِینِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ نفی الایمان بعد اثباتها لانتفاء ثمرتها و فائدتها و هو البر و الوفاء .. و یجوز أن یكون من مجاز الحذف تقدیره انهم لا وفاء أیمان لهم.
الخامس: اطلاق اسم الریب علی الشك لملازمة الشك القلق و الاضطراب فإن حقیقة الریب قلق النفس بدلیل قوله: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَیْبَ الْمَنُونِ أی مقلقات الدهور. و بدلیل قوله علیه الصلاة و السلام فی الظبی الحاقف لا یریبه أحد، و قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «ان فاطمة بضعة منی یریبنی ما یریبها». و منه قول أبی ذؤیب الهذلی:
أ من المنون و ریبها تتوجع السادس: التعبیر بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المنیّ و هو ملازم للجماع غالبا لكنه خص بالزناء إذ لا غرض فیه سوی صبّ المنی بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد و التعاضد و التناصر بالأختان و الأصهار و الأولاد و الأحفاد. و مثاله قوله تعالی: مُحْصِنِینَ غَیْرَ مُسافِحِینَ أی غیر مزانین. و قوله تعالی: مُحْصَناتٍ غَیْرَ مُسافِحاتٍ أی غیر مزانیات.
السابع: اطلاق اسم المحل علی الحالّ فیه لما بینهما من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 48
الملازمة الغالبة كالتعبیر بالید عن القدرة و الاستیلاء و بالعین عن الادراك و بالصدر عن القلب و بالقلب عن العقل و بالافواه عن الألسن و بالألسن عن اللغات و بالقریة عن قاطنیها و بالساحة عن نازلیها و بالنادی و الندیّ عن أهلها، و بالغائط و هو المكان المنخفض عما یخرج من الانسان لانهم كانوا فی الغالب یقضون الحاجة فی الأماكن المنخفضة تسترا عن الناس (أما) التعبیر بالید عن القدرة فهو فی القرآن كثیر من ذلك قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِمَنْ فِی أَیْدِیكُمْ مِنَ الْأَسْری و قوله تعالی: تَبارَكَ الَّذِی بِیَدِهِ الْمُلْكُ و اما التعبیر بالعین عن الإدراك فهو فی قوله تعالی: أَمْ لَهُمْ أَعْیُنٌ یُبْصِرُونَ بِها أی یبصرون بإدراكها أو بنورها (و أما) التعبیر بالصدر عن القلب فهو فی القرآن كثیر. من قوله تعالی: فَلا یَكُنْ فِی صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أی فی قلبك. و منه قوله تعالی: وَ ما تُخْفِی صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.
(و أما) بالقلب عن العقل فهو فی القرآن فی موضعین: أحدهما قوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِكَ لَذِكْری لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ و الثانی فی قوله تعالی:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها أی لهم عقول لا یفقهون بها .. و یجوز أن یكون من مجاز الحذف تقدیره لهم قلوب لا یفقهون بعقولها كما فی قوله:
وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أی لا یسمعون بأسماعها أو بادراكها (و أما) التعبیر بالأفواه عن الألسن فهو فی قوله تعالی: مِنَ الَّذِینَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أی بألسنتهم لأن القول إنما یكون باللسان و منه قوله تعالی: یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ (و أما) التعبیر بالألسن عن اللغات فهو فی القرآن كثیر من ذلك قوله تعالی: فَإِنَّما یَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أی بلغتك و منه قوله تعالی: بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ أی بكلام عربی مبین (و أما) التعبیر بالساحة عن نازلیها ففی قوله تعالی: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِینَ معناه فإذا نزل بهم (و أما) التعبیر بالقریة عن قاطنیها ففی قوله تعالی: وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی كُنَّا فِیها (و أما) التعبیر بالنادی عن أهله ففی قوله تعالی: فَلْیَدْعُ نادِیَهُ (و أما) التعبیر بالندی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 49
عن أهله ففی قوله: أَیُّ الْفَرِیقَیْنِ خَیْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِیًّا أی أحسن أهل مجلس (و أما) التعبیر بالغائط و هو المكان المنخفض عما یخرج من الانسان ففی قوله تعالی: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ و من مجاز الملازمة و هو التعبیر بالارادة عن المقاربة لأن من أراد شیئا قربت مواقعته إیاه غالبا و هو فی قوله تعالی: فَوَجَدا فِیها جِداراً یُرِیدُ أَنْ یَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أی قارب الانقضاض. و منه قول الشاعر:
یرید الرّمح صدر أبی ریاح‌و یرغب عن دماء بنی عقیل (و منه) التعبیر بالكلام عن الغضب لأن الهجران و ترك الكلام یلزمان الغضب غالبا و هو فی القرآن العظیم فی موضعین. أحدهما قوله تعالی: وَ لا یُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ لا یُزَكِّیهِمْ و الآخر قوله تعالی:
وَ لا یُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا یَنْظُرُ إِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ (و منه) التجوز بالایاس عن العلم لأن الإیاس من نقیض المعلوم ملازم للعلم غیر منقلب عنه. و من ذلك قوله تعالی: أَ فَلَمْ یَیْأَسِ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ لَوْ یَشاءُ اللَّهُ لَهَدَی النَّاسَ جَمِیعاً (و منه) التعبیر بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بامرأته انه یطأها لیلة عرسها. و مثاله قوله تعالی: وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِی فِی حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِی دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَیْكُمْ و منه وصف الزمان بصفة ما یشتمل علیه و یقع فیه و هو القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: فَذلِكَ یَوْمَئِذٍ یَوْمٌ عَسِیرٌ وصفه بالعسر، و العسر صفة للأهوال الواقعة فی ذلك الیوم و منه یومئذ قوله تعالی: فَیَأْخُذَكُمْ عَذابُ یَوْمٍ عَظِیمٍ وصف الیوم بالعظم و هو صفة للعذاب الواقع فیه .. و أما قوله تعالی:
یَأْتِیَهُمْ عَذابُ یَوْمٍ عَقِیمٍ فانه مجاز تشبیه شبه الیوم فی انقطاع خیره بانقطاع ولادة العقیم. و منه قوله تعالی: وَ قالَ هذا یَوْمٌ عَصِیبٌ وصفه بكونه عصیبا و هو صفة للشر الذی یقع فیه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 50

القسم السادس عشر التجوز بالمجاز عن المجاز:

و هو أن یجعل المجاز المأخوذ عن الحقیقة بمثابة الحقیقة بالنسبة الی مجاز آخر فیتجوز بالمجاز الأول عن الثانی بعلاقة بینه و بین الثانی.
مثال ذلك قوله تعالی: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، فإنه مجاز عن مجاز فإن الوطء تجوز عنه بالسر لأنه لا یقع غالبا إلا فی السر، فلما لازم السر فی الغالب سمی سرا و تجوز بالسر عن العقد، لأنه سبب فیه، فالمصحح للمجاز الأول الملازمة، و المصحح للمجاز الثانی التعبیر باسم المسبب الذی هو السر عن العقد الذی هو سبب كما سمی عقد النكاح نكاحا، لكونه سببا فی النكاح، و كذلك سمی العقد سرا لأنه سبب فی السر الذی هو النكاح، فهذا مجاز عن مجاز مع اختلاف المصحح فمعنی قوله- و لكن لا تواعدوهن سرا- لا تواعدوهن عقد نكاح و كذلك قوله: وَ مَنْ یَكْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال مجاهد: و من یكفر بلا إله الا اللّه فقد حبط عمله فإن حمل قوله علی ظاهره كان هذا من مجاز المجاز لأن قول لا إله الا اللّه مجاز عن تصدیق القلب بمدلول هذا اللفظ و التعبیر بلا إله الا اللّه عن الوحدانیة من مجاز التعبیر بالقول عن المقول فیه، و الأول من مجاز التعبیر بلفظ السبب عن المسبب، لأن توحید اللسان مسبب عن توحید الجنان.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 51

القسم السابع عشر التجوز فی الاسماء و هو علی سبعة أقسام:

الأول: اطلاق اسم الأسد علی الشجاع.
الثانی: التجوز بالبحر عن الجواد.
الثالث: اطلاق اسم الفوز و الحیاة علی الایمان و العرفان.
الرابع: اطلاق اسم الظلمة و الموت علی الجهل و الضلال.
الخامس: اطلاق اسم السراج و النور علی الهادی.
السادس: اطلاق اسم الحطب علی النمیمة بإثارتها نار الحقد و الغضب.
السابع: اطلاق اسم الانسان علی تمثاله و كذلك الحیوان و البلدان و قد تقدم جمیع أمثلة ذلك إلا الحطب المعبر به عن النمیمة فانه فی قوله تعالی: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 52

القسم الثامن عشر التجوز فی الافعال و هو علی عشرة أقسام و تحت كل قسم منها أقسام:

الأول: التجوز بالماضی عن المستقبل تشبیها له فی التحقیق، و العرب تفعل ذلك لفائدة و هو أن الفعل الماضی اذا أخبر به عن المضارع الذی لم یوجد بعد كان أبلغ و آكد و أعظم موقعا و أفخم بیانا، لأن الفعل الماضی یعطی من المعنی أنه قد كان وجد و صار من الأمور المقطوعة بكونها و حدوثها. و منه قوله تعالی: وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِینَ فإنه إنما قال- ففزع- بلفظ الماضی بعد قوله- ینفخ- و هو مستقبل للاشعار بتحقق الفزع و ثبوته و أنه كائن لا محالة واقع علی أهل السموات و الارض، لأن الفعل الماضی یدل علی وجود الفعل بكونه مقطوعا به. و من هذا الجنس قوله تعالی: وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِیعاً فبرزوا بمعنی یبرزون یوم القیامة و انما جی‌ء به بلفظ الماضی لان ما أخبر اللّه به لصدقه و صحته فإنه قد كان و وجد. و مثل ذلك قوله عز اسمه: أَتی أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فأتی هاهنا بمعنی یأتی و إنما حسن فیه لفظ الماضی لصدق إثبات الأمر و دخوله فی جملة ما لا بد من حدوثه و وقوعه فصار یأتی بمنزلة أتی و مضی. و كذلك قوله تعالی: وَ یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَی الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً فإنه انما قال-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 53
و حشرناهم- ماضیا بعد- نسیّر. و تری- و هما مستقبلان للدلالة علی أن حشرهم قبل التسییر و البروز لیعاینوا تلك الاهوال كأنه قال و حشرناهم قبل ذلك و هو فی القرآن العظیم كثیر.
قال الشیخ الامام عز الدین بن عبد السلام فی كتابه المعروف بالمجاز أكثر ما یكون هذا فی الشروط و أجوبتها و قد یجی‌ء فی غیرها.
مثاله فی غیر الشرط قوله تعالی: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ و منه وَ نادی أَصْحابُ الْأَعْرافِ و منه وَ نادی أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ و منه وَ نادَوْا یا مالِكُ و منه: وَ قالَ قَرِینُهُ هذا ما لَدَیَّ عَتِیدٌ و منه: وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ. و منه: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِینَ ناراً. و منه: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی هَدانا لِهذا و أمثاله فی القرآن كثیر (و أما) مثاله فی الشرط فقوله تعالی: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا معناه و إن تكونوا فی ریب. و منه: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَیْرٌ لَكُمْ معناه و إن تتوبوا فهو خیر لكم. و منه: فَإِنْ كُنْتَ فِی شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَیْكَ معناه فإن تك فی شك. و منه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَیْهِ تَوَكَّلُوا معناه إن تكونوا مؤمنین باللّه فعلیه توكلوا (و أما) فی جواب الشرط فقوله تعالی:
الَّذِینَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ. و منه: وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا معناه و إن تعودوا الی قتال محمد عدنا الی نصره و الشرط لا یكون إلا مستقبلا، و المرتب علی المستقبل مستقبل لا محالة، و هذا من مجاز التشبیه شبه المستقبل فی الحقیقة و ثبوته بالماضی الذی دخل فی الوجود بحیث لا یمكن رفعه.
الثانی: التعبیر بالمستقبل عن الماضی و هو فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّیاطِینُ عَلی مُلْكِ سُلَیْمانَ. و منه: فَفَرِیقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِیقاً تَقْتُلُونَ معناه و فریقا قتلتم ..
و یجوز أن یكون القول فی هاتین الآیتین حكایة حال ماضیة مثله فی قوله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 54
تعالی: تُرِیدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ یَعْبُدُ آباؤُنا و كما فی قوله تعالی: ما یَعْبُدُونَ إِلَّا كَما یَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ. و منه قوله تعالی:
وَ كانُوا یُصِرُّونَ عَلَی الْحِنْثِ الْعَظِیمِ و منه: وَ قَدْ كانُوا یُدْعَوْنَ إِلَی السُّجُودِ و منه: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِی أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِ معناه و إذ قلت و هو فی القرآن كثیر (و انما) قصدت العرب بالاخبار عن الفعل الماضی بالمستقبل لأن الاخبار بالفعل المضارع اذا أتی به فی حالة الاخبار عن وجود كان ذلك أبلغ من الاخبار بالفعل الماضی، و ذلك لأن الفعل المضارع یوضح الحال التی یقع فیها و یستحضر تلك الصورة حتی كأن السامع یشاهدها، و لیس كذلك الفعل الماضی و الفرق بینه، و بین القسم الذی قبله هو أن الفعل الماضی یخبر به عن المضارع اذا كان الفعل المضارع من الاشیاء الهائلة التی لم توجد، و الأمور المتعاظمة التی لم تحدث فتجعل عند ذلك فیما قد كان و وجد و وقع الفراغ من كونه و حدوثه، و أما الفعل المضارع اذا أخبر به عن الماضی، فإن الغرض بذلك تبیین هیئة الفعل و استحضار صورته لیكون السماع كأنه یعاینها و یشاهدها.
الثالث: التجوز بلفظ الخبر عن الأمر و هو فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ كامِلَیْنِ و منه قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و منه قوله تعالی: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ معناه آمنوا باللّه و رسوله و جاهدوا فی سبیل اللّه بأموالكم و انفسكم و لذلك أجیب بالجزم فی قوله: یَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ یُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ و لا یصح أن یكون جوابا للاستفهام فی قوله- هل أدلكم- لأن المغفرة و إدخال الجنات لا یترتب علی مجرد الدلالة، و هذا من مجاز التشبیه شبه الطلب فی تأكیده بخبر الصادق الذی لا بد من وقوعه، و اذا شبه بالخبر الماضی كان آكد، و كذلك الدعاء و الأمر و النهی بالخبر الماضی اذا أرید
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 55
تأكید ما عبر عنها بالخبر المستقبل، فإن بالغت فی التأكید تجوزت عنها بالخبر الماضی.
الرابع: التجوز بلفظ الخبر عن الدعاء و هو فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «یرحم اللّه أخی لوطا لقد كان یأوی إلی ركن شدید» و من ذلك تشمیت العاطس یرحمك اللّه، و فی اجابته یهدیكم اللّه و یصلح بالكم .. المعنی اللهم ارحمه اللهم اهدهم.
الخامس: التجوز بلفظ الخبر عن النهی و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ معناه و لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه. و منه قوله تعالی: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ معناه لا تعبدون الا اللّه. و منه قوله تعالی: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِیارِكُمْ.
السادس: التجوز بلفظ الأمر عن الخبر توكیدا للخبر لأن الامر للایجاب فیشبه الخبر به فی ایجابه و هو فی القرآن فی موضعین قوله تعالی: قُلْ مَنْ كانَ فِی الضَّلالَةِ فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا تقدیره قل من كان فی الضلالة یمدد له الرحمن مدا أو مد له الرحمن مدا.
الثانی: اتَّبِعُوا سَبِیلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطایاكُمْ.
السابع: التجوز بجواب الشرط عن الأمر و هو فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: إِنْ یَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ معناه عند الجمهور فلیغلبوا مائتین. و منه: وَ إِنْ یَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً معناه فلیغلبوا ألفا و منه: فَإِنْ یَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ معناه فلیغلبوا مائتین وَ إِنْ یَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ معناه فلیغلبوا ألفین و المراد به التأكید، لأنه خبر تجوز به عن الطلب.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 56
الثامن: التجوز بلفظ النهی عن أشیاء لیست مرادة بالنهی و انما المراد بها ما یقاربها أو یلازمها، أو تكون مسببة عنه، و هو فی القرآن العظیم كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: وَ ذَرُوا الْبَیْعَ نهی عن البیع فی اللفظ و هو مباح و أراد ما یلزم عنه من ترك الواجب. و منه قوله تعالی:
وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ النهی عن الموت نفسه لا یصح، لأنه ینافی التكلیف، لكنه تجوز به عما یقارنه من الكفر فكأنه قال و لا تكفروا عند موتكم. و منه قولهم: لا أرینّك هاهنا معناه لا تحضرن فأراك فتجوز برؤیته عن سببها و هو الحضور. و منه نهیه صلّی اللّه علیه و سلّم عن البیع علی بیع الأخ، لیس النهی عن نفس البیع، لأنه مجتمع بشرائط الصحة إنما النهی عن أذیة الأخ المقترنة بالبیع. و منه النهی عن الخطبة علی خبطة الأخ لیس النهی عن الخطبة نفسها، و إنما النهی عما یلزمها من تأذی الخاطب.
التاسع: التجوز بالنهی لمن لا یصح نهیه و المراد به من یصح نهیه و هو فی القرآن كثیر. فمنه قوله تعالی: وَ لا تَعْدُ عَیْناكَ عَنْهُمْ النهی فی اللفظ للعینین و المراد بذلك ذو العینین أی لا تنظر إلی غیرهم.
و منه: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ النهی فی اللفظ للأموال و الأولاد و فی المعنی لذوی الأموال و الأولاد. و منه: لا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِینَ كَفَرُوا فِی الْبِلادِ النهی فی اللفظ للتقلب و المراد به النهی عن الاغترار بالتقلب. و منه قوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَیاةُ الدُّنْیا النهی فی اللفظ للحیاة الدنیا و المراد به نهی المخاطبین عن الاغترار بها. و منه قوله تعالی: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ النهی فی اللفظ للأموال و الأولاد و فی المعنی نهی المخاطبین عن الاعجاب بهما.
و منه قوله تعالی: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللَّهِ النهی للرأفة فی اللفظ و للمخاطبین فی المعنی. و منه قوله تعالی: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً النهی لضمیر الفتنة فی اللفظ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 57
و للمخاطبین فی المعنی لا تتعرضن لاصابة الفتنة ایاكم لسبب تقریرها و ترك نكیرها و التقدیر و اتقوا تقدیر فتنة لا تصیبن عقوبتها أو شؤمها، أو و بالها الذین ظلموا منكم خاصة.
العاشر: التجوز بنهی من یصح نهیه و المنهی فی الحقیقة غیره، و هو فی القرآن العظیم كثیر. منه قوله تعالی: وَ لا یَصُدُّنَّكَ عَنْ آیاتِ اللَّهِ معناه و لا تصدن عن آیات اللّه بسبب صدهم إیاك. و منه: فَلا یَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا یُؤْمِنُ بِها معناه فلا تصدن عنها. و منه قوله تعالی: وَ لا یَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِینَ لا یُوقِنُونَ معناه و لا تخفن.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 58

القسم التاسع عشر التجوز بالحروف بعضها عن بعض و هو عشرة أقسام:

الاول:- هل- یتجوز بها عن الأمر و النفی و التقدیر و هو فی القرآن العظیم كثیر .. أما التجوز بها عن الامر ففی مواضع. منها قوله تعالی: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ معناه أسلموا. و منه قوله تعالی: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ معناه فانتهوا .. أما التجوز بها فی النفی فهو فی مواضع.
منها قوله تعالی: فَهَلْ تَری لَهُمْ مِنْ باقِیَةٍ و قوله تعالی: فَهَلْ یُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ معناه فما تری لهم من باقیة فلا یهلك إلا القوم الفاسقون. و قوله تعالی: هَلْ یَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ یَأْتِیَهُمُ اللَّهُ فِی ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ معناه ما ینظرون الا أن یأتیهم اللّه فی ظلل و مثل هذا فی القرآن كثیر. و أما قوله تعالی: هَلْ مِنْ مَزِیدٍ فقیل إنه نفی الاستزادة معناه لا مزید فیّ، و قیل انه طلب لها معناه زدنی .. و أما التجوز بها فی التقریر فهو فی القرآن العظیم فی آیتین. احداهما قوله تعالی: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا الثانیة فی قوله تعالی:
هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَیْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِی ما رَزَقْناكُمْ.
الثانی:- همزة الاستفهام- و یتجوّز بها عن النفی و عن الأمر و الایجاب و التقریر و التوبیخ .. أما التجوز بها عن النفی ففی القرآن العظیم منه كثیر. من ذلك قوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّی یَكُونُوا مُؤْمِنِینَ معناه لست مكره الناس حتی یكونوا مؤمنین. و قوله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 59
تعالی: أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِی النَّارِ معناه لست منقذ من فی النار.
و قوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِی الْعُمْیَ معناه لست مسمع الأصمّ، و لا هادی الأعمی، و مثله فی القرآن كثیر .. و أما التجوز بها فی الایجاب فهو فی القرآن كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: أَ لَیْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ معناه الوعد بكفایة العباد. و قوله: أَ لَیْسَ اللَّهُ بِعَزِیزٍ ذِی انْتِقامٍ و قوله تعالی: أَ لَیْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یُحْیِیَ الْمَوْتی ..
و منها قول جریر:
أ لستم خیر من ركب المطایاو أندی العالمین بطون راح و قول الآخر:
أ لست أری النجم الذی هو طالع‌علیها و هذا للمحبین نافع و أما التجوز بها فی التقریر فهو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ و قوله تعالی: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ و قوله تعالی: آلذَّكَرَیْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَیَیْنِ .. و أما التجوز بها فی التوبیخ فهو فی القرآن كثیر.
فمن ذلك قوله تعالی: أَ فَغَیْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ و قوله تعالی: أَ تَقُولُونَ عَلَی اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ و قوله تعالی: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و قوله تعالی: أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
الثالث: التجوز- بفی- و له حقیقة تتحقق فی قسمین: أحدهما:
احتواء جرم علی جرم كقوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِی النَّارِ و قوله تعالی: وَ هُمْ فِی الْغُرُفاتِ آمِنُونَ الثانی: احتواء جرم علی معنی كقوله تعالی: فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و قوله تعالی: وَ یَقُولُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا یُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ و كقوله: إِنْ فِی صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 60
بِبالِغِیهِ و أمثاله فی القرآن كثیر .. و أما التجوز بها فهو أنواع. الأول: أن یجعل المعنی ظرفا لتعلقه بمعنی آخر و ذلك قوله تعالی: وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ و هو طاعته و اجتناب معصیته أو القتال فی سبیله ظرفا لتعلق الجهاد، و الجهاد قائم بالمجاهد. و من ذلك قوله تعالی: لا رَیْبَ فِیهِ و من ذلك قوله تعالی: وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِیَةٌ لا رَیْبَ فِیها جعل الساعة و الكتاب ظرفین لتعلق الریب لا لنفس الریب، فإن الریب حال فی المرتاب، و منه قوله تعالی: وَ یَسْتَفْتُونَكَ فِی النِّساءِ أی فی توریثهن جعل التوریث محلا لتعلق الاستفتاء، ثم قال:
قُلِ اللَّهُ یُفْتِیكُمْ فِیهِنَ أی فی توریثهن فجعل التوریث محلا لتعلق بیان الفتیا و هو قول المفتی. و منه قوله تعالی: فَهَدَی اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ جعل الحق محلا لتعلق الاختلاف قائم بالمختلفین. و منه قوله تعالی: فَادَّارَأْتُمْ فِیها أی فادّارأتم فی قتلها فجعل القتل محلا لتعلق الدرء. و منه قوله تعالی: فَذلِكُنَّ الَّذِی لُمْتُنَّنِی فِیهِ جعل حبه أو مراودته ظرفا لتعلق لومهن لا لنفس اللوم، فإن لومهن قائم بهن ..
الثانی: التجوز بها عن الباء التی للسبب و هی فی القرآن العظیم كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: وَ لَیْسَ عَلَیْكُمْ جُناحٌ فِیما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أی بسبب ما أخطأتم. و منه قوله تعالی: وَ قاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أی بسبب نصرة سبیل. و كذلك الحب فی اللّه و البغض فی اللّه أی بسبب تعظیم اللّه، و له نظائر كثیرة و لما كان المسبب متعلقا بالسبب جعل السبب ظرفا لتعلق المسبب ..
الثالث من التجوز به و هو أن یجعل الجرم محلا لتعلق المعنی، و هو فی القرآن المجید كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ یَتَفَكَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جعل الأجرام محلا لتعلق الفكر لا لنفس الفكر فإن الفكر قائم بالتفكر. و منه قوله تعالی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 61
أَ وَ لَمْ یَنْظُرُوا فِی مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَیْ‌ءٍ جعل السموات و الارض و المخلوقات كلها محلا لتعلق النظر لا لنفس النظر لا لنفس النظر فان الناظر قائم بالنظر حالّ فیه. و منه قوله تعالی: أَ وَ لَمْ یَتَفَكَّرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ.
الرابع: من التجوز به أن یجعل المعنی محلا للجرم و هو عكس الأول فتجوز به عن كثرة ما جعل ظرفا مجازا لما كان الحاوی أعظم من المحوی شبه به ما توالی أو كثر من المعانی، و منه فی القرآن شی‌ء كثیر. من ذلك قوله تعالی: إِنَّا لَنَراكَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ و منه:
صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِی الظُّلُماتِ أی صم و بكم فی الضلالات. و منه قوله تعالی: فَهُمْ فِی رَیْبِهِمْ یَتَرَدَّدُونَ و منه قوله تعالی: أَلا إِنَّهُمْ فِی مِرْیَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ و أما قوله تعالی: إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنَّاتٍ وَ نَعِیمٍ، فِی جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ. فِی جَنَّاتٍ وَ عُیُونٍ وَ فَواكِهَ فمن جمع بین الحقیقة و المجاز جعل- فی- بالنسبة الی الجنان ظرفا حقیقیا و بالنسبة إلی العیون و النهر و النعیم ظرفا مجازا، و من لم یجمع بینهم یقدر ان المتقین فی جنات و فی نعیم و فی عیون. و فی نهر فیكون فی الثانیة مجازا محضا مشبعا بكثرة النعیم و الانهار و العیون و الفواكه، و یدع الأولی علی حقیقتها، و لك أن تجعل الجمیع مجازا علی حذف لذات تقدیره إن المتقین فی لذات جنات و نعیم، و فی لذات جنات و عیون، و فی لذات جنات و نهر، و فی لذات و فواكه أو تقدر ان المتقین فی نعیم جنات و عیون و فواكه أو ما أشبهه، و لا تقدر مثل هذا فی قوله- فی جنات و نعیم- اذ یبقی التقدیر، و فی نعیم نعیم و هو سمج لا یقدر مثله فی كتاب اللّه.
و أما قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ فظاهره عند من جمع بین الحقیقة و المجاز لحكمه فیمن یعقل علی السجود المعهود، و فیما لا یعقل علی الانقیاد للقدرة و الارادة، و أما قوله تعالی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 62
أَ فِی اللَّهِ شَكٌ فالتقدیر فیه أ فی وحدانیة اللّه شك فهو من جعل المعنی ظرفا لتعلق المعنی. و أما قوله تعالی: وَ هُوَ اللَّهُ فِی السَّماواتِ وَ فِی الْأَرْضِ و قوله: كُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ فلیس الظرف هنا متعلق بجوهر و لا عرض، و إنما هذا من مجاز التشبیه عبر بكونه فی السموات و الأرض عن علمه بما فیهن، لأن من حضر مكانا لم یخف علیه ما فیه و أما قوله- كل یوم هو فی شأن- فهو یشبه: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْیَوْمَ فِی شُغُلٍ فاكِهُونَ و كقولهم: أنا فی شغلك و حاجتك و لا یخفی وجه التشبیه فیه ..
الخامس: التجوز- بعلی- و حقیقتها استعلاء جرم علی جرم كقوله تعالی: وَ عَلَی الْأَعْرافِ رِجالٌ و منه قوله تعالی: لِتَسْتَوُوا عَلی ظُهُورِهِ و أما مجازها فعلی قسمین. أحدهما: التجوز عن الثبوت و الاستقرار كقوله تعالی: أُولئِكَ عَلی هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ و قوله تعالی:
قُلْ إِنِّی عَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی و قوله: وَ إِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلی هُدیً و منه قوله تعالی: وَ إِنَّكَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ و هذا أیضا من مجاز التشبیه شبه التمكن من الهدی و الأخلاق العظیمة الشریفة و الثبوت علیها لمن علا دابة یصرّفها كیف شاء ..
الثانی: أن یجعل المعنی علی الجرم تجوزا كقوله تعالی: رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَیْكُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ و كقوله: أُولئِكَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ و الغرض بذلك كثرة الصلاة و الرحمة لأن ما علاك و جللك فقد أحاط بك. و أما قوله تعالی: وَ أَنْزَلْنا عَلَیْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوی فهو من نزول جرم علی جرم و لا بد فیه من حذف تقدیر، و أنزلنا علی أشجاركم أو علی محلتكم. و أما قوله تعالی: فَخَرَجَ عَلی قَوْمِهِ فِی زِینَتِهِ معناه فخرج علی نادی قومه، أو علی محل قومه.
و مثله قوله تعالی اخْرُجْ عَلَیْهِنَ فمعناه اخرج علی مجلسهن أو
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 63
مكانهن.
و مثله قوله تعالی: كُلَّما دَخَلَ عَلَیْها زَكَرِیَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً معناه كلما دخل مكانها أو محرابها.
السادس:- عن- و هی حقیقة فی مجاوزة جرم عن جرم، و تعدیته عنه، ثم یستعمل فی المعانی علی طریق التشبیه كقوله تعالی وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنْكاً شبه انصراف البصیرة عن تأمل ذكره بانصراف المجاوز عما یجاوزه.
و كذلك قوله تعالی: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ إن حمل علی ترك القتال كان المعنی فانصرف عن قتالهم، و إن حمل علی غیره فمعناه تجاوز عن أذیتهم، و فی الحدیث تجاوز عما تعلم المعنی ترك المؤاخذة لأن المتجاوز عن الشی‌ء تارك له، و كذلك قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «إنّ اللّه تجاوز لأمّتی عمّا حدّثت به أنفسها».
السابع: حرف- من- و هی حقیقة فی ابتداء غایة الأمكنة، و یتجوز بها عن ابتداء الغایة فی الأزمنة مثل قوله تعالی: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَی التَّقْوی مِنْ أَوَّلِ یَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِیهِ فاستعملها غایة فی الأزمنة لشبهها بالأماكن، و كذلك تجوز بها عن التعلیل فی مثل قوله تعالی: مِمَّا خَطِیئاتِهِمْ أُغْرِقُوا أی من أجل خطایاهم أغرقوا لأن ابتداء غایة المعلول صادر عن علة، فشبه ذلك بابتداء الغایة بالمكان.
الثامن: حرف- ثم- و یستعمل حقیقة فی تراخی الزمان و المكان، ثم یتجوز بها فی تراخی بعض الرتب عن بعض بالتباعد المعنوی، فشبه التراخی المعنوی بالتراخی الزمانی و المكان، و هو فی القرآن العظیم كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا فجاء- بثم- للتراخی الذی بین الایمان و العمل الصالح، فإن الایمان أفضل من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 64
جمیع أعمال الانسان، فهو متراخ فی الفضل عن فك الرقاب، و إطعام السغبان، فهو مؤخر فی اللفظ مقدم فی الفضیلة و الرتبة، علی تباعد و تراخ، یدل علی ذلك أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لما سئل أی الأعمال أفضل؟ قال: «الإیمان باللّه. قال ثم ما ذا؟ قال: برّ الوالدین قال: ثم ما ذا؟ قال: الجهاد فی سبیل اللّه» و یدلّ أن- ثم- هاهنا لتراخی الرتب لا لتراخی الزمان لأن الإیمان شرط فی اعتبار فك الرقاب و إطعام السغابی، فلا یجوز أن یتقدم المشروط علی شرط .. و منه قال الشاعر.
إنّ من ساد ثم ساد أبوه
جاء بثم لتراخ بین السؤددین من الفضل.
و منه قوله تعالی: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ علی قول بعضهم قال جی‌ء بثم لتفاوت ما بین نعمة التصویر و نعمة السجود لآدم، قال: فإن إسجاد الملائكة له أكمل إحسان، و أتم إنعام من التصویر. و قدر بعضهم و لقد خلقنا طینتكم، ثم صورناكم فی ظهر أبیكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. و قال بعضهم نسبة الخلق و التصویر إلینا من مجاز نسبة ما یتعلق بالواحد إلی جماعة.
و مثاله قوله عز و جل: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِینَ نسب المعاهدة إلی الجماعة و المراد بها معاهدة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم. و مثل قوله تعالی: أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَیْمانَهُمْ نسب النكث إلی الكل و انما نكث بعضهم. و مثله قوله تعالی: وَ قالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصاری الْمَسِیحُ ابْنُ اللَّهِ و لم تقل الیهود كلها ذلك، و كذلك النصاری، لأن بعضهم قال ذلك و بعضهم قال: هو اللّه، و بعضهم قال هو ثالث ثلاثة، و قال بعضهم هو عبد اللّه و رسوله، فنسب إلی الفریقین ما وجد من بعضهم. و مثله قول
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 65
امرئ القیس:
فإن تقتلونا نقتلكم
و أمّا: من یقول إن- ثم- تستعمل فی تراخی بعض الأخبار عن بعض، فلا یستقیم فی هذه الآیة و لا فی قول الشاعر:
إنّ من ساد ثم ساد أبوه
لأنّا نعلم أن اللّه تعالی ما راخی بین الأخبار فی قوله- و لقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم- و كذلك قول الشاعر- إن من ساد ثم ساد أبوه- یعلم أنه لم یقل- إن من ساد ثم- وقف زمانا طویلا متراخیا ثم قال- ساد أبوه- و ان استعمالها فی تراخی الأخبار بعید فی استعمال العرب لأن التراخی الموجود فی كلامهم إنما یقع فی مداولات الألفاظ لا بین أنفس الألفاظ، و هذا انما یصح استعماله فی مقالات للأخبار فیها تعاقب إن ثبت أنه قول من یعتمد علی قوله فی هذا الشأن.
التاسع: حرف- الباء- قال سیبویه: هی للإلصاق و الاختلاط و الالصاق أضرب. أحدها: حقیقیّ و هو إلصاق جرم بجرم كقولك:
ألصقت القوس بالغراء و الخشبة بالجدار. و الثانی: مجاز إلصاق المعنی بجرم كقولك لطفت بزید، و رأفت بعمرو، فكأنك ألصقت اللطف و الرأفة به لتعلقهما به، و كقولك مررت بزید، و لا بد فیه من حذف تقدیره مررت بمكان زید أو بمحل زید، و هو من مجازات التشبیه كأنك ألصقت المرور بالمكان.
الثالث: إلصاق المعنی بالمعنی كقوله تعالی: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ أی النفس مقتولة بقتل النفس و العین مفقوءة بفق‌ء العین، أتی بالباء لیكون المسبب و هو القصاص منسوبا إلی الجنایة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 66
نسبة التشبیه، و هو جار فی جمیع الأسباب.
العاشر: حرفان و هما- لعل و عسی- و هما مجاز تشبیه أو تسبب و حقیقتهما الترجی و التوقع، فاللّه سبحانه تعالی و تنزه أن یوصف بحقیقتهما، بل یصح حملهما علی مجاز التشبیه و التسبب. أما مجاز التشبیه فلأن معاملته بالأمر و النهی و الوعد و الوعید مشبه بمعاملة ملك عامل عبیده بذلك علی رجاء إجابتهم، فإن كل من سمع الملك یأمر و ینهی، و یعد و یوعد یرجو اجابة المأمول و اثابته لا سیما إذا كان ذلك الملك كریما صدوقا لا یخلف المیعاد.
(و أما) مجاز التسبب فلأن رجاء الإجابة و ما یترتب علیها من الفلاح مسبب عن لین الخطاب، و حسن الترغیب و الترهیب، فكذلك أمر الرب و نهیه مع وعده و ایعاده یوجبان لكل من سمعهما خوفا و رجاء لا یوجد مثلهما فی حق غیره. و یحقق ذلك أن الكلام المنفّر لا یتوقع منه اجابة و لا إنابة، و الكلام اللین المرغب یتوقع كل من سمعه الإجابة و الانابة، فلذلك قیل لموسی و هارون علیهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَكَّرُ أَوْ یَخْشی لما كان القول اللین سببا للتذكر و الخشیة أمرهما به لتقوم علیه الحجة، فهذا الرجاء المتعلق بكلامه. و أما الرجاء المتعلق بأفعاله فكما فی قوله سبحانه: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لما ذكر هذه النعم الجسام التی لا یتصور وجودها من غیره أردفها بقوله- لعلكم تشكرون- من جهة أن الشكر مرجو من المنعم علیه متوقع منه، و لا سیما عند هذه النعم لأنه عاملهم بهذه النعم معاملة الراجی كما عاملهم بالفتن معاملة الفاتن، فوصفه نفسه بكونه راجیا كوصفه نفسه بكونه فاتنا و كذلك نظائره.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 67

القسم العشرون من أقسام المجاز الاستعارة،

اشارة

و هی علی أربعة أقسام:
و قیل: علی قسمین و قیل: علی سبعة أقسام.
و قد بیناها فی الوجه الثالث من الكلام علیها اعلم وفقنا اللّه و إیاك أن اللفظ إذا استعمل فیما وضع له فهو حقیقة. و ان استعمل فی غیر ما وضع له، فإن لم یكن لمناسبة بینه و بین ما وضع له، فهو الموكل «1» و ان كان لمناسبة بینهما فإن حسن فیه أدلة التشبیه فهو مجاز التشبیه، و ان لم یحسن فیه إظهار أداة التشبیه فهو الاستعارة ..
و إذا تقرر هذا فالكلام فی الاستعارة علی وجوه:
الأول هل هی من أنواع المجاز أم لا؟ .. الثانی فی حدها ..
الثالث فی أقسامها .. الرابع فی اشتقاقها .. الخامس فیما تتهیأ به الاستعارة و ما لا تتهیأ .. السادس فی الاستعارة التخییلیة .. السابع فی الاستعارة المجردة .. الثامن فی الاستعارة المرشحة .. التاسع فی الاستعارة الحسنة .. العاشر فی الاستعارة القبیحة .. الحادی عشر فی بیان ما یظن أنه استعارة و لیس باستعارة .. الثانی عشر فی الاستعارة بالكنایة .. الثالث عشر فیما تتنزل به الاستعارة منزلة الحقیقة.
______________________________
(1) كذا فی الأصل و كتب بهامشه لعله المنقول فلیحرر
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 68
أما الأول: فقد اختار الإمام فخر الدین رحمه اللّه أن الاستعارة لیست من المجاز لعدم النقل، و جمهور علماء هذا الشأن عدوها من المجاز لاستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له.
و أما الثانی: فقد اختلفت عبارات علماء هذا الشأن فی حدها فقال علی بن عیسی: الاستعارة استعمال العبارة لغیر ما وضعت له فی أصل اللغة، و قد أبطل الإمام فخر الدین ما قاله ابن عیسی فی حد الاستعارة من وجوه أربعة. الأول: أنه یلزم أن یكون كل مجاز لغوی استعارة.
الثانی یلزم أن تكون الاعلام المنقولة من باب المجاز. الثالث:
استعمال اللفظ فی غیر معناه للجهل بذلك. الرابع: أنه یتناول الاستعارة التخییلیة علی ما سیأتی ..
و قال قوم الاستعارة جعل الشی‌ء الشی‌ء أو جعل الشی‌ء للشی‌ء لأجل المبالغة فی التشبیه. فالأول: كما تقول لقیت أسدا، و تعنی الشجاع فقد جعلت الشجاع أسدا فهذا جعل الشی‌ء الشی‌ء. و الثانی كقول الشاعر:
إذ أصبحت بید الشمال زمامها و سیأتی .. و قال المتقدمون من أرباب الصناعة و الاستدلال بالشی‌ء المحسوس علی المعنی المعقول. و هذا هو أحد أنواع الاستعارة، فإن الاستعارة علی أقسام و سیأتی بیانه .. و قال قوم: الاستعارة ادعاء معنی الحقیقة فی الشی‌ء للمبالغة فی التشبیه مع طرح المشبه .. و قال الامام فخر الدین رحمه اللّه الاستعارة: ذكر الشی‌ء باسم غیره و إثبات ما لغیره له لأجل المبالغة فی التشبیه.
فقوله- ذكر الشی‌ء باسم غیره- احترازا عما إذا صرّح بذكر المشبه كقولك: زید أسد فإنك ما ذكرت زیدا باسم الأسد بل ذكرته باسمه الخاص فلا جرم أن ذلك لم یكن استعارة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 69
و أما قوله- و إثبات ما لغیره له- ذكره لتدخل فیه الاستعارة التخییلیة. و قوله- لأجل المبالغة فی التشبیه- ذكره لتتمیز به عن المجاز.
و أما الثالث: فقد اختلفت عبارات أرباب هذه الصناعة فی أقسامها فقال قوم: أقسامها أربعة. الأول: أن یكون المستعار، و المستعار منه محسوسین. الثانی: أن یكونا معقولین. الثالث: أن یكون المستعار معقولا و المستعار منه محسوسا. الرابع: أن یكون علی العكس ..
أما استعارة المحسوس للمحسوس فهی علی قسمین أحدهما: أن یكون الاشتراك فی الذات و الاختلاف فی الصفات، و الثانی أن یكون العكس. فمثال الأول أن یكونا حقیقتان تتفاوت إحداهما فی الفضیلة أو النقص و القوة و الضعف، فینقل اللفظ الموضوع للأكمل فی ذلك النوع إلی الأنقص. مثاله: استعارة الطیران للعدو، فانهما یشتركان فی الحقیقة، و هی الحركة المكانیة إلا أن الطیران أسرع من العدو، فلما تساویا فی الحقیقة و اختلفا فی القوة و الضعف فی السرعة لا جرم نقلوا اسم الكامل فی السرعة إلی الناقص فیها فسموا العدو طیرانا.
و قد یقع فی هذا الجنس ما یظن أنه مستعار و لا یكون كذلك و ذلك اذا كانت جهة الاختلاف خارجة عن مفهوم الاسم كقول بعضهم:
و فی یدك السیف الذی امتنعت به‌صفاة الهدی من ان تدقّ فتخرقا فالظاهر ان الخرق حقیقة فی الثوب مجاز فی الصفات، و لكن التحقیق یأباه لأن الشق یستعمل فی الخرق، فیقال شققت الثوب، و الشق عیب فی الثوب، و هذه الملاقاة علی وجه الحقیقة، فلما قام الشق مقام الخرق، وجب أن یقوم الخرق مقام الشق ظاهرا، و إلا لو كان للخرق مفهوم سوی مفهوم الشق، لكان لفظ الخرق مشتركا بینهما و هو خلاف الأصل فثبت أن الخرق و الشق لفظان مترادفان، و لما كان
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 70
الشق حقیقة فی الصفات كان الخرق المرادف له حقیقة أیضا فیه.
نعم لو قلت خرق الحشمة لم یكن من الحقیقة فی شی‌ء لأنه لیس هناك شق فبهذا الطریق عرفنا أن الخرق لیس اسما للتفرق من حیث أنه لا شق هناك كما تقدم خلاف ما تقدم من حیث أن الشق حاصل فی الثوب، بل هذه الخصوصیة خارجة عن مفهوم لفظ الخرق، و لما كانت لفظة الخصوصیة التی بها تتمیز تفرق أجزاء الحجر بعضها من بعض عن تفرق أجزاء الثوب غیر داخلة فی مفهوم الخرق كان استعماله فی الحجر علی طریق الاستعارة، فهذا هو القانون فی هذا الباب بعد أن لا تضایق فی المثال هذا كله إذا كان الاشتراك فی الحقیقة و الاختلاف فی العوارض و الصفات .. و أما إذا كان بالعكس و هو أن یكون الاشتراك فی الصفات و الاختلاف فی الحقیقة فمثل قولهم: رأیت شمسا، و یریدون إنسانا یتهلل وجهه كالشمس، فیشاركه فی الوصف ..
(و أما) القسم الثانی و هو استعارة اسم شی‌ء معقول لشی‌ء معقول، و هذا أیضا إنما یكون فی أمرین یشتركان فی وصف عدمی أو ثبوتی و أحدهما بذلك الوصف أولی، و فیه أكمل فینزل الناقص منزلة الكامل، ثم إن المشتركین إما أن یكونا متعاندین أو لا یكونا، كذلك فإن تعاندا فإما أن یكون التعاند بالثبوت، أو الانتفاء أو بالتضاد.
(مثال) الأول: استعارة اسم المعدوم للموجود، أو الموجود للمعدوم. أما الأول: فعند ما لا یحصل من ذلك الموجود فائدة مطلوبة فیكون ذلك الموجود مشاركا للمعدوم فی عدم الفائدة، لكن المعدوم بذلك أولی، فیستعار لذلك الموجودة اسم المعدوم.
(و أما) الثانی: فعند ما تكون الآثار المطلوبة من الشی‌ء باقیة عند عدم الشی‌ء، فیكون عند ذلك المعدوم مشاركا للموجود بتلك الفوائد، لكن الموجود أولی بذلك، فیستعار لذلك المعدوم اسم الموجود.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 71
و أما إذا كان التعاند بالتضاد حقیقة كان أو ظاهرا فمثاله: تشبیه الجهال بالأموات، لأن المقصود بالحیاة الإدراك و العقل، فإذا عدما فقد عدمت الآثار المطلوبة من الحیاة فتصیر تلك الحیاة مساویة للموت فی عدم الفائدة المطلوبة، و الموت أولی بذلك، فتتنزل الحیاة منزلته.
ثم الضدان إذا كانا متقابلین الأشدّ و الأضعف ففی أحد الطرفین اسم الأزید، و فی الطرف الآخر اسم الأنقص. فشرط مساوئ التشبیه مثلا كل من كان أقلّ علما و أضعف قوّة كان أولی أن یستعار له اسم المیت.
و لما كان الادراك أقدم من الفعل فی كونه خاصیة للانسان لا جرم كان الأقل علما أولی باسم المیت أو الجماد من الأقل قوّة باسم الحیاة، فالاشرف علما أولی بذلك لقوله تعالی: أَ وَ مَنْ كانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْناهُ هذا اذا كانا متقابلین أما إذا لم یكونا كذلك و هو أن یكونا موجودین یشتركان فی وصف من عقول إلا أن ذلك الوصف لأحدهما أولی، فیتنزل الناقص منزلة الكامل مثل قولهم: فلان لقی الموت إذا كان لقی شیئا من الشدائد لأنها مشاركة للموت فی الكراهیة، لكن الموت أولی بها فتتنزل تلك الشدائد منزلة الموت لاشتراكها فی المكروهیة، و علی هذا قوله تعالی: وَ یَأْتِیهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَیِّتٍ.
و أما الثالث: فهو أن یستعار للمعقول اسم المحسوس، و هو كاستعارة الحجة للنور الذی هو محسوس بالبصر، و استعارة العدل للقسطاس المدرك بحاسة العین.
و أما الرابع: فهو استعارة اسم المعقول للمحسوس، و هو غیر جائز إلا علی التأویل الذی نذكره فی باب التشبیه إن شاء اللّه تعالی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 72

فصل [و هذه جملة مما احتوی علیه الكتاب العزیز من أقسام الاستعارة]

و هذه جملة مما احتوی علیه الكتاب العزیز من أقسام الاستعارة و صنوفها نذكرها مفصلة مبینة علی حكم ما تقدم من الأقسام الأربعة، إذ الغرض من هذا الكتاب معرفة ما تضمنه الكتاب العزیز من أنواع البیان و أصناف البدیع و فنون البلاغة، و عیون الفصاحة و أجناس التجنیس .. أما ما جاء فی الكتاب العزیز من استعارة المحسوس للمحسوس فآیات كثیرة. منها قوله تعالی: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْباً إذ المستعار منه النار و المستعار له الشیب و الجامع بینهما الانبساط، و لكنه فی النار یقوی. و فی هذه الآیة ثلاث فوائد أخر غیر الاستعارة.
الفائدة الأولی: أنه سلك فی الآیة طریق ما أسند فیه الشی‌ء الی الشی‌ء و هو لشی‌ء آخر لما بینه و بین الأول من التعلق، فیرفع ذكر ما أسند الیه و یؤتی بالذی الفعل له فی المعنی منصوبا بعده مبینا ان ذلك الإسناد إلی ذلك الأول إنما كان من أجل هذا.
الفائدة الثانیة: بیان ما بینهما من الاتصال كقولهم: طاب زید نفسا، و تصبب عرقا و أشباههما فیما تجد الفعل فیه منقولا عن الشی‌ء إلی ما ذلك الشی‌ء من سببه، فإنّا نعلم أن الاشتعال للشیب فی المعنی و هو للرأس فی اللفظ كما أن طاب للنفس و تصبب للعرق، و إن أسند الی ما أسند إلیه،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 73
و الدلیل علی أن شرف هذه الآیة بسبب ذلك أنّا لو تركنا هذا الطریق و أسندنا الفعل الی الشیب صریحا فقلنا: اشتعل شیب الرأس، أو الشیب فی الرأس لانتفاء ذلك الحسن.
فإن قلت: فما السبب فی إن كان اشتعل إذا استعیر للشیب علی هذا الوجه كان له هذا الفضل. فنقول السبب فیه أن یفید مع لمعان الشیب فی الرأس أنه شمل و شاع و أخذ به من نواحیه و عم بجملته حتی لم یبق من السواد شی‌ء إلا القلیل، فهذه الفائدة لا تحصل إذا قیل اشتعل الشیب فی الناس لا یوجب اللفظ أكثر من ظهور الشیب فیه. و بیانه أنك تقول اشتعل النار فی البیت لا یفید أكثر من اصابتها جانبا. و مثاله من التنزیل قوله تعالی: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُوناً فالتفجیر للعیون فی المعنی، لكنه وقع فی اللفظ علی الأرض لیفید أن الأرض بالكلیة صارت عیونا.
الفائدة الثالثة: تعدیة الرأس بالألف و اللام و إفادة معنی الإضافة من غیر الإضافة، و هو أحد ما أوجب المزیة، و لو قیل و اشتعل رأس لذهب الحسن .. و من هذا الباب قوله تعالی: وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ یَوْمَئِذٍ یَمُوجُ فِی بَعْضٍ أصل الموج حركة الماء فاستعمل فی حركتهم علی سبیل الاستعارة. و قوله عز و جل: وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ للظهور .. و أما استعارة المحسوس للمحسوس لشبه عقلی فكقوله تعالی: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِمُ الرِّیحَ الْعَقِیمَ المستعار له الریح و المستعار منه المرأة العقیم و الجامع بینهما المنع من ظهور النتیجة. و منه قوله تعالی وَ آیَةٌ لَهُمُ اللَّیْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ المستعار له ظهور النهار من ظلمة اللیل، و المستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته، و الجامع أمر عقلی، و هو ترتیب أحدهما علی الآخر. و منه قوله تعالی فَجَعَلْناها حَصِیداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أصل الحصید للنبات و الجامع الهلاك و هو أمر عقلی. و قوله خامِدِینَ أصل الخمود للنار. و منه قوله تعالی وَ إِنَّهُ فِی أُمِّ الْكِتابِ و هو أفصح من أن یقال فی أصل الكتاب ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 74
و أما استعارة المحسوس للمعقول فكقوله تعالی: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَی الْباطِلِ فَیَدْمَغُهُ فالقذف و الدمغ مستعاران. و منه قوله تعالی ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ أَیْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ. و منه قوله تعالی فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. و منه قوله تعالی وَ إِذا رَأَیْتَ الَّذِینَ یَخُوضُونَ فِی آیاتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و كل خوض ذمه اللّه فی القرآن فلفظه مستعار من الخوض فی الماء. و منه قوله تعالی: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ استعارة لبیانه عما أوحی إلیه لظهور ما فی الزجاجة عند انصداعها. و منه قوله تعالی: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْیانَهُ البنیان مستعار و أصله للحیطان. و منه قوله تعالی: وَ یَبْغُونَها عِوَجاً العوج مستعار، و منه قوله تعالی: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ و كل ما فی القرآن من الظلمات و النور مستعار.
و منه قوله تعالی: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً، و منه قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی كُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ الوادی مستعار و كذلك الهیمان، و هو علی غایة الإفصاح. و منه قوله تعالی: قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ جعل للسماوات و الأرض قولا و طاعة. و منه قوله تعالی: وَ لا تَجْعَلْ یَدَكَ مَغْلُولَةً إِلی عُنُقِكَ الآیة ..
و أما استعارة المعقول للمعقول فمنه قوله تعالی: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا استعار الرقاد للموت، و هما أمران معقولان، و الجامع عدم ظهور الأفعال.
و منه قوله تعالی: وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَی الْغَضَبُ و السكوت و الزوال أمران معقولان.
و أما استعارة المعقول للمحسوس فمنه قوله تعالی: إِنَّا لَمَّا طَغَی الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِی الْجارِیَةِ المستعار منه التكبر و المستعار له الماء و الجامع الاستعلاء المضر. و منه قوله تعالی: وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ و العتو هاهنا مستعار. و منه قوله تعالی: تَكادُ تَمَیَّزُ مِنَ الْغَیْظِ فلفظ الغیظ مستعار. و منه قوله تعالی: وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ وَ النَّهارَ آیَتَیْنِ فَمَحَوْنا آیَةَ اللَّیْلِ وَ جَعَلْنا آیَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً و هو أفصح من مضیئة. و منه قوله تعالی حَتَّی تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها هذا الذی اختاره الامام فخر الدین و من قبله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 75
من المحققین .. و قال قوم الاستعارة علی قسمین. الأول أن یعتمد نفس التشبیه، و هو أن یشترك شیئان فی وصف واحد، أحدهما أنقص من الآخر فیعطی الناقص اسم مبالغة فی تحقیق ذلك الوصف له، كقولك: رأیت أسدا، و أنت تعنی رجلا شجاعا، و عنّت لنا ظبیة و أنت تعنی امرأة، و تجی‌ء الأقسام الأربعة و قد تقدمت.
الثانی: أن تعتمد لوازمه و هو عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا انما یثبت بكماله فی المستعار منه بواسطة شی‌ء آخر، فیثبت ذلك الشی‌ء فی المستعار له مبالغة فی إثبات المشترك، و یسمی استعارة تخییلیة كقول لبید:
و غداة ریح قد وزعت و قرّةإذ أصبحت بید الشّمال زمامها استعار- الید- للشمال، و لیس هناك مشار إلیه یمكن أن یجری اسم الید علیه كما أجری الأسد علی الرجل، لكنه خیل إلی نفسه أن الغداة فی تصریف الشمال علی حكم طبیعتها كالانسان المتصرف فی بعیره و زمامه و مقادته فی یده، و تصرف الإنسان إنما یكمل بالید فأثبت لها الید تحقیقا للغرض و حكم الزمام فی الاستعارة للغداة حكم الید فی استعارتها للشمال. و كذلك قول تأبط شرا یصف سیفا:
إذا هزّه فی عظم قرن تهلّلت‌نواجذ أفواه المنایا الضّواحك لما شبه المنایا عند هزه السیف بالمسرور و كمال الفرح و السرور إنما یظهر بالضحك الذی تتهلل فیه النواجذ لا جرم اثبته تحقیقا للوصف المقصود، و إلا فلیس للمنایا ما ینقل الیه اسم النواجذ. و كذلك له فی الحماسة:
سقاه الرّدی سیف اذا سلّ أومضت‌إلیه ثنایا الموت من كلّ مرقد - و من ذلك قوله تعالی: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ تحقیق هذا الخلاص عن التشبیه فإن من وضع فی نفسه أن كل اسم یستعار فلا بد أن یكون هناك شی‌ء تمكن الإشارة إلیه تتناوله فی حال المجاز كما یتناوله فی حال الحقیقة .. و قال ابن الاثیر: تقسم الاستعارة إلی قسمین. الأول یجب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 76
استعماله و هو ما كان بینه و بین ما استعیر له تشابه و تناسب، و لنضرب له أمثلة یستدل بها علیه. فمن ذلك قوله تعالی: وَ آیَةٌ لَهُمُ اللَّیْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ و هذا الوصف إنما هو علی ما یظهر للعین لا علی حقیقة المعنی لأن اللیل و النهار اسمان یقعان علی هذا الجوّ عند إظلامه و إضاءته بغروب الشمس و طلوعها و لیسا علی الحقیقة شیئین ینسلخ أحدهما من الآخر إلا أنهما فی رأی العین كأنهما كذلك- و السلخ- یكون فی الشی‌ء الملتحم بعضه ببعض فلما كانت هوادی الصبح عند طلوعه كالملتحمة باعجاز اللیل أجری علیهما اسم السلخ، و كان ذلك لائقا فی بابه، و هو أولی من قوله یخرج، لأنّ السلخ أدل علی الالتحام المتوهم من الاخراج. الثانی ما لا یجب استعماله و سیأتی بیانه ..
و قال قوم الاستعارة علی سبعة أقسام: الأول: الاستعارة للمناسبة و هی علی أربعة أقسام كما تقدم. الثانی: الاستعارة التخییلیة و قد تقدم بیانها.
الثالث: الاستعارة المجردة. الرابع: الاستعارة المرشحة. الخامس:
الاستعارة البدیعة. السادس: الاستعارة القبیحة. السابع: الاستعارة فی الكنایة، و قد بینا متقدما بعضها و سنبین الباقی إن شاء اللّه تعالی.
الوجه الرابع: من التقسیم الأول فی اشتقاقها و هی مشتقة من العاریة التی حقیقتها فی الإجرام، و لهذا قال ابن الأثیر الاستعارة هی أن ترید تشبیه الشی‌ء بالشی‌ء فتدع الإفصاح بالتشبیه و اظهاره، و تجی‌ء علی اسم المشبه به، فتعبر به عن اسم المشبه تجریه علیه كقولك: رأیت رجلا هو كالأسد فی شجاعته، و قوة بطشه سواء فتدع ذلك و تقول- رأیت أسدا- و السین التی فی الاستعارة لیست سین الالتماس و الطلب، التی هی فی قولهم استعان اذا طلب المعونة و استجار اذا طلب الجیرة، و إنما هی كالتی فی قوله تعالی فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. و كقول الشاعر:
فلم یستجبه عند ذاك مجیب الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 77
الوجه الخامس: فیما تصح منه الاستعارة و فیما لا تصح .. قال الامام فخر الدین و جماعة من المحققین: إن الأسماء علی ثلاثة أقسام: أسماء أعلام، و أسماء مشتقة، و أسماء أجناس .. فأما الأسماء الأعلام فلا استعارة فیها لأن المشابهة بین الأصل و الفرع معتبرة فی الاستعارة، و هی غیر معتبرة فی الأعلام .. و أما الأسماء المشتقة فالاستعارة أیضا لا تدخلها دخولا أولیا، و هل تتحقق فی الفعل أم لا؟ فنقول: الفعل شأنه الدلالة علی ثبوت المصدر لشی‌ء فی زمان معین فالاستعارة تقع أولا فی المصدر بواسطة ذلك فی الفعل، فإذا قلت نطقت الحال، و هذا إنما یصح لأن الحال مشابهة النطق فی الدلالة علی الشی‌ء فلا جرم استعیر النطق لتلك الحالة، فالاستعارة أولا واقعة علی المصدر بواسطته فی الفعل، فإذا الاستعارة فی الحقیقة لیست إلّا فی المصدر، فإذا عرفت ذلك تبین لك أنّ الأسماء المشتقة أیضا كذلك فإن الإسم المشتق هو الذی یدل علی ثبوت المشتق منه، لشی‌ء مع عدم الدلالة علی زمان ذلك الثبوت، فظهر منه أن الاستعارة إنما تقع وقوعا أولیا فی أسماء الاجناس ..
و تلخیص هذا الكلام أن المعنی یستعار أولا بواسطة استعارة اللفظ، و أن الاستعارة تقع فی المصدر ثم بواسطة فی الفعل، و استعارة الفعل أما من جهة فاعله كقولك نطقت الحال بكذا و لعبت به الهموم، و أما من جهة مفعوله كقول ابن المعتز:
جمع الحقّ لنا فی إمام‌قتل الجوع و أحیا السماح أو من جهة مفعولیه كقول القطامی:
نقریهم لهذمیّات نقدّ بهاما كان خاط علیها كلّ زرّاد أو لكلیهما كقول الحریری:
و أقرئ المسامع إما نطقت‌بیانا یقود الحرون الشّموسا أو من جهة الفاعل و المفعول. كقوله تعالی: یَكادُ الْبَرْقُ یَخْطَفُ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 78
أَبْصارَهُمْ .. و قال ابن الأثیر فی جامعه: اعلم أن الاستعارة قد جاءت فی الأسماء و الصفات و الأفعال جمیعا تقول: رأیت لیوثا. و لقیت صما عن الخیر. و أضاء الحق. إلّا أنه قد استعمل الضرب الثانی الذی ذكرناه و هو قولنا- زید أسد- فی باب الاستعارة و أورده جماعة من العلماء مثل قدامة و الجاحظ و أبی هلال العسكری و الغانمی، و أبی محمد بن سنان الخفاجی فی تصنیفاتهم فی باب الاستعارة و لم یذكروا أن الأصل فیه أنه تشبیه بلیغ فما أعلم هل ذلك لخفائه علیهم أو أنهم عرفوه و لم یذكروه و هو الأصل المقیس علیه فی التشبیه الذی أجمع علیه المحققون من علماء البیان و قد أوردناه نحن فی كتابنا هذا فی باب الاستعارة تشبیها بالقوم و استنانا بسننهم، لأنهم السابقون فی هذا الفن بالتصنیف إلا أن موضعه باب التشبیه فاعرف ذلك.
الوجه السادس: الاستعارة التخییلیة، و قد تقدم الكلام فیها و نزید ذلك وضوحا و هو أن علماء البیان قالوا: إن أكثر الآیات التی یتمسك بها أهل التشبیه من هذا. فمنها قوله تعالی: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ اثبات الجناح للذل استعارة تخییلیة .. روی أن أبا تمام لما نظم قوله: (هو حبیب بن أوس الطائی).
لا تسقنی ماء الملام فإننی‌صبّ قد استعذبت ماء بكائی جاءه رجل بقصعة و قال: اعطنی قلیلا من- ماء الملام- فقال أبو تمام:
لا أعطیكه حتی تأتینی بریشة من- جناح الذل- فافحم الرجل. و من ذلك أیضا قوله تعالی: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَیُّهَ الثَّقَلانِ. و منه قوله تعالی: ذَرْنِی وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِیداً. و منه قوله تعالی: إِلَّا أَنْ یَعْفُونَ أَوْ یَعْفُوَا الَّذِی بِیَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. و منه قوله تعالی وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعاً و فی القرآن العظیم من ذلك كثیر.
الوجه السابع: الاستعارة المجردة و هی أن تنظر إلی المستعار من غیر نظر إلی غیره كقوله تعالی: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ و كقول
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 79
زهیر:
لدی أسد شاكی السلاح مقذّف لو نظر إلی المستعار منه لقال- فكساهم اللّه لباس الجوع- و لقال زهیر- لدی أسد أوافی المخالب. أو وافی البراثن-.
الوجه الثامن: الاستعارة المرشحة و هی أن تنظر إلی جانب المستعار فتراعی جانبه و توالیه ما یستدعیه، و تضم إلیه ما یقتضیه مثل قول كثیر:
رمتنی بسهم ریشه الكحل لم یضر و قول النابغة:
و صدر أراح اللیل عازب همّه المستعار فی كل واحد منهما و هو الرمی و الإزاحة منظور إلیه فی لفظی- السهم و العازب- الوجه التاسع: الاستعارة البدیعة البالغة، و هی أن تتضمن المبالغة فی التشبیه مع الإیجاز و غالب استعارات الكتاب العزیز كذلك، و فی أشعار فصحاء العرب منها كثیر.
الوجه العاشر: الاستعارة القبیحة، و لیس فی الكتاب العزیز منها شی‌ء، و أما فی أشعار العرب و غیرهم فكثیر .. و من قبیح الاستعارة قول أبی تمام:
سبعون ألفا كآساد الشّری نضجت‌أعمارهم قبل نضج التین و العنب و هذا البیت لیس فیه وجه من وجوه الحسن، و قد روی فی غیر هذه الروایة- نضجت جلودهم قبل- و علی هذه الروایة لیس فی البیت استعارة قبیحة فإن القتلی أنضجت الشمس جلودهم كما تنضج التین و العنب ..
و كذلك قوله:
أیا من رمی قلبی بسهم فأدخلا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 80
أقام- أدخل- مقام أنفذ. و فی روایة- فأقصدا- و فی روایة- فأنفذا- فعلی من روی فأقصدا و أنفذا فهی استعارة حسنة .. و مما یزید الاستعارة حسنا و هو أصل فی هذا الباب أن یجمع بین عدّة من الاستعارات قصدا لإلحاق الشكل بالشكل، لاتمام التشبیه كقول امرئ القیس فی وصف لیل طویل:
فقلت له لمّا تمطّی بصلبه‌و أردف أعجازا و ناء بكلكل لمّا جعل للیل صلبا قد تمطی به بیّن ذلك فجعل له كلكلا قد ناء به فاستوفی جملة أركان الشخص، و راعی ما یراه الناظر من جمیع جوانبه.
الوجه الحادی عشر: الاستعارة بالكنایة و بیان ما تتنزل به الاستعارة بالكنایة منزلة الحقیقة .. أما الاستعارة بالكنایة فهی إذا لم یصرح بذكر المستعار، بل بذكر بعض لوازمه تنبیها به علیه كقول أبی ذؤیب:
و إذا المنیّة أنشبت أظفارهاألفیت كلّ تمیمة لا تنفع فكأنه حاول استعارة السبع للمنیة، لكنه لم یصرح بها بل بذكر لوازمها تنبیها بها علی المقصود.
الثانی عشر: ما تتنزل به الاستعارة منزلة الحقیقة: و هو أن یذكر لفظا یوهم به أن الاستعارة أصلا كقول أبی تمام:
و یصعد حتی یظنّ الجهول‌بأنّ له حاجة فی السّماء لمّا استعار العلوّ لزیادة العلوّ فی الفضل و القدر، ذكره ذكر من یذكر علو مكان .. و كقول ابن العمید:
قامت تظلّلنی من الشمس‌نفس أعزّ علیّ من نفس
قامت تظللنی و من عجب‌شمس تظللنی من الشمس و مدار هذا النوع علی التعجب و قد یجی‌ء علی عكسه كقوله:
لا تعجبوا من بلا غلالته قد زرّ أزراره علی القمر
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 81
و هذا إنما یتم بالحكم الجدّی بكونه قمرا لیكون من شأنه أن یبلی الكتان.
الوجه الثالث عشر: شروط الاستعارة الكاملة .. قال ابن الأثیر: لا بد للاستعارة من ثلاثة أشیاء: مستعار. و مستعار منه. و مستعار له. فاللفظ المستعار قد نقل من أصل إلی فرع للإبانة، و المستعار منه، و المستعار له لفظان حمل أحدهما علی الآخر فی معنی من المعانی هو حقیقی للمحمول علیه مجازی للمحمول. مثال ذلك قوله تعالی وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْباً فهذا مستعار، و مستعار منه، و مستعار له، فالمستعار هو الاشتعال، و قد نقل من الأصل الذی هو النار إلی الفرع الذی هو الشیب قصدا للإبانة، و أما المستعار منه فهو النار، و الاشتعال لها حقیقة، و أما المستعار له فهو الشیب و الاشتعال له مجاز.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 82

القسم الحادی و العشرون التشبیه و الكلام علیه من وجوه‌

اشارة

الأول: هل هو من المجاز أو لا؟. الثانی: بیان الغرض بالتشبیه .. الثالث:
فی حده .. الرابع: فی معرفة الأشیاء التی یكون منها التشبیه .. الخامس: فی أقسامه .. السادس: فی ذكر أدوات التشبیه ما یكون بأداة، و ما یكون بغیر أداة .. السابع: فی تشبیه الشیئین بالشی‌ء الواحد .. الثامن: فی ذكر ما حسن به موقع التشبیه .. التاسع: فی الشرط الذی لا یكون التشبیه حسنا إلا به ..
العاشر: فیما یجوز عكسه من التشبیه، و ما لا یجوز .. الحادی عشر:
التشبیه فی الهیئات التی تقع علیها الحركات .. الثانی عشر: الفرق بین الاستعارة و التشبیه.
أما الأول: فالذی علیه جمهور أهل هذه الصناعة أن التشبیه من أنواع المجاز، و تصانیفهم كلها تصرح بذلك و تشیر الیه. و ذهب المحققون من متأخری علماء هذه الصناعة و حذاقها إلی أن التشبیه لیس من المجاز لأنه معنی من المعانی، و له حروف و ألفاظ تدل علیه وضعا كان الكلام حقیقة أو مجازا، فإذا قلت زید كالأسد. و هذا الخبر كالشمس فی الشهرة. و له رأی كالسیف فی المضاء. لم یكن مثل نقل اللفظ عن موضوعه فلا یكون مجازا.
و أما الثانی: فالغرض بالتشبیه و فائدته الكشف عن المعنی المقصود مع ما یكتسب من فضیلة الایجاز و الاختصار، و الدلیل علی ذلك قولنا- زید أسد-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 83
فإن الغرض بهذا القول أن نبین حال زید و أنه متصف بشهامة النفس و قوة البطش و الشجاعة و غیر ذلك مما جری هذا المجری، إلا أنا لم نجد شیئا یدل علیه سوی جعلناه شبیها بالأسد حیث كانت هذه الصفات مختصة به مقصورة علیه، فصار ما قصدناه من هذا القول أكشف و أبین من أن لو قلنا زید شهم شجاع قوی البطش جری‌ء الجنان و أشباه ذلك، لما قد عرف و عهد من اجتماع هذه الصفات فی المشبه به، فإنه معروف بها مشهور بكونها فیه.
و أما الثالث: فقد اختلفت عبارات أهل هذا الشأن فی حده، فقال قوم: حده أن یثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به .. و قال قوم:
حده الدلالة علی اشتراك شیئین فی معنی من المعانی، و أن أحدهما یسدّ مسدّ الآخر و ینوب منابه سواء كان ذلك حقیقة أو مجازا، أما الحقیقة:
فهو أن یقال فی شیئین أحدهما یشبه الآخر فی بعض أوصافه كقولنا- زید أسد- فهذا القول صواب من حیث العرف، و داخل فی باب المبالغة الا أنه لم یكن زید أسد علی الحقیقة.
و أما الرابع: فقال المحققون من علماء هذا الشأن الاشیاء التی یكون منها التشبیه لا یخلو إما أن تكون صفة حقیقیة، أو حالة اضافیة.
فأما الأول فلا یخلو إما أن یكون كیفیة جثمانیة أو نفسانیة، و الاول لا یخلو إما أن تكون صفة محسوسة أو لا تكون محسوسة، فإن كانت محسوسة، فإما أن تكون محسوسة أولا أو ثانیا، و المحسوسات الأول هی مدركات السمع. و البصر. و الشم. و الذوق. و اللمس.
فالاشتراك فی الكیفیة المبصرة مثل تشبیه الورد بالخد لاشتراكهما و كذلك تشبیه الوجه بالنهار و الشعر باللیل. و الاشتراك فی كیفیة مسموعة كتشبیه أطیط الرحل بأصوات الفراریج فی قول الشاعر:
كأنّ أصوات من ایغالهنّ بناأواخر المیس أصوات الفراریج التقدیر- كأن أصوات أواخر المیس أصوات الفراریج من إیغالهن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 84
بنا- فصل بین المضاف و المضاف الیه. و الاشتراك فی كیفیة مذوقة كتشبیه بعض الفواكه الحلوة بالعسل و السكر. و الاشتراك فی كیفیة مسمومة كتشبیه بعض الریاحین برائحة الكافور و المسك و الاشتراك فی كیفیة ملموسة كتشبیه لین ناعم بالخز و الحریر، و الخشن بالمسح من الشّعر، هذا إذا كان فیه الاشتراك محسوسا أولا. أما اذا كان محسوسا ثانیا، فالمحسوسات الثانیة هی: الاشكال. و المقادیر. و الحركات.
و الأشكال: إما مستقیمة أو مستدیرة فالتشبیه لأجل الاشتراك فی الاستقامة مثل تشبیه المستوی المنتصب بالرمح، و القد بالقضیب و الغصن. و ان كان الاشتراك فی الاستدارة، فكتشبیه الشی‌ء المستدیر بالكرة تارة و بالحلقة أخری.
و إن كان الاشتراك فی المقادیر فكتشبیه عظیم الجثة بالجبل و الفیل و إن كان فی الحركة مع اعتدال الاستقامة، فكتشبیه الذاهب علی الاستقامة بنفوذ السهم، و أما إذا كان الاشتراك فی كیفیة جثمانیة غیر محسوسة، فهو كالاشتراك فی الصلابة، و الرخاوة. و أما اذا كان الاشتراك فی كیفیة نفسانیة فهو كالاشتراك فی الغرائز و الاخلاق مثل:
الكرم. و الحلم. و القدرة. و العلی. و الذكر. و الفطنة. و التیقظ و المعرفة.
و أما اذا كان الاشتراك فی حالة الاضافیة لا فی كیفیة حقیقیة، فهو مثل قولك- هذه حجة كالشمس- فاشتراكهما لیس فی شی‌ء من الكیفیات الحقیقیة، و لكن فی أمر إضافیّ و هو أن كل واحد منهما مزیل للحجاب .. ثم ان هذه الاضافات قد تكون جلیة أو قد تكون خفیة، و ربما یبلغ الجلی فی القوة الی أن یقرب من القسم الأول. مثال الجلی تشبیه الحجة بالشمس. و كذلك قولهم فی صفة الكلام ألفاظ كالماء فی السلاسة. و كالنسیم فی الرقة. و كالعسل فی الحلاوة. یریدون أن اللفظ اذا لم تتنافر حروفه تنافرا یثقل علی اللسان، و لم یكن غریبا حوشیا، بل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 85
كان مألوفا، ثم إن القلب یرتاح له و النفس تنشرح به فلسرعة وصوله الی النفس صار كالماء الذی یسوغ فی الحلق و كالنسیم الذی یسری فی البدن و یتخلل المسالك اللطیفة، و لأجل اهتزاز «1» النفس به أشبه العسل الذی یلذ طعمه و یمیل الطبع الیه .. هذا المثال أشد حاجة إلی التفسیر من تشبیه الحجة بالشمس، و لكنه مع ذلك غیر بعید عن الفهم، و أما المتوغل فی البعد عن الطبع و شدة الحاجة إلی التأویل فكقول من ذكر بنی المهلب هم كالحلقة المفرغة لا ینتهی طرفاها أ لا تری أنه لا یفهم المقصود من ذلك إلا من له طبع یرتفع عن طبع العامة؟ ..
و من وجوه التشبیه أیضا التشبیه بالوجه المعقول، و هو عندهم أقوی و أظهر من التشبه بالمحسوس، لأن تشبیه المحسوس بالمحسوس یمكن أن یكون لأجل الاشتراك فی وصف محسوس و یمكن أن یكون لأجل الاشتراك فی وصف معقول و یمكن أن یكون لأجلهما جمیعا. مثال الأول:
تشبیه الخد بالورد. و مثال الثانی: قوله علیه الصلاة و السلام ایّاكم و خضراء الدّمن الحسن الظاهر القبیح الباطن و هو أمر عقلی. و كذلك تشبیه الرجل النبیه بالشمس، فإن النباهة صفة عقلیة و كذلك قوله علیه الصلاة و السلام أصحابی كالنجوم المعنی به أنه یهتدی بهم فی أمور الأدیان كما یهتدی بالنجوم فی اللیالی المظلمة، فالشبه فی أمر عقلی.
و مثال الثالث: تشبیه الشخص الرفیع القدر الحسن الوجه بالشمس. و أما الاقسام الثلاثة أعنی تشبیه المعقول بالمعقول، و المعقول بالمحسوس و المحسوس بالمعقول، فیمتنع أن یكون وجه المشابهة غیر عقلی، لأن وجه المشابهة لو كان مشتركا بین الجانبین لكان المعقول الموصوف به محسوسا من ذلك الوجه، و هو محال، فثبت أن التشبیه بالوصف
______________________________
(1) كذا فی الأصل و لعله التذاذ فلیحرر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 86
المعقول أعم من التشبیه بالوصف المحسوس، و إذا علم هذا و تبیّن الوجه الذی یكون منه التشبیه تعیّن ذكر أقسام التشبیه مبینة منزّلة علی ما قدّمناه.
و أما الخامس: فقد أطبق جمهور علماء هذه الصناعة علی أن أقسامه أربعة: الاول: تشبیه محسوس بمحسوس. الثانی: تشبیه معقول بمعقول. الثالث: أن یكون المشبه معقولا، و المشبه به محسوسا. الرابع: أن یكون المشبه محسوسا و المشبه به معقولا. و قد زاد ابن الأثیر قسما خامسا، و سماه غلبة الفروع علی الأصول، و سیأتی بیانه.
أما الأول و هو تشبیه المحسوس بالمحسوس فكقوله تعالی:
وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّی عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِیمِ و قوله تعالی:
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِیَةٍ و من شرط هذا النوع أن یكون المشبه و المشبه به مشتركین من وجه مختلفین من وجه، و لا یخلو إما أن یكون اشتراكهما فی الذات و اختلافهما فی الصفات، و إما أن یكون بالعكس.
فالأول مثل تشبیه العدو بالطیران لأنه لیس الاختلاف بینهما إلا بالسرعة و بالبطء. و الثانی كتشبیه الشعر باللیل و الوجه بالنهار .. و أما القسم الثانی و هو تشبیه المعقول بالمعقول فهو كتشبیه الموجود العاری عن الفوائد بالمعدوم أو تشبیه الشی‌ء الذی تبقی فوائده بعد عدمه بالموجود. و منه قول الشاعر:
فرحت و آمالی كحظی كواسف‌و عزمی یحاكی سعیه فی المكارم و أما القسم الثالث الذی هو تشبیه المعقول بالمحسوس، فهو كقوله تعالی: وَ الَّذِینَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِیعَةٍ. و قوله: مَثَلُ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِیاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَیْتاً. و قوله
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 87
تعالی: مَثَلُ الَّذِینَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ فِی یَوْمٍ عاصِفٍ و أیضا مثل تشبیه الحجة بالشمس و بالنور الذی هو محسوس بالبصر، و لیس لأحد ان یقول الحجة أیضا مسموعة.
قلنا المفید هو المعانی العقلیة الحاصلة فی الذهن و وجه المشابهة أن القلب مع الشبه كالبصر مع الظلمة فی أن البصر فی الظلمة لا یفید لصاحبه مكنة السعی، و لو سعی فربما دفع إلی الهلاك فتردّی فی أهویة و من الأمثلة تشبیه العدل بالقسطاس ..
و أما القسم الرابع و هو تشبیه المحسوس بالمعقول فهو غیر جائز لأن العلوم العقلیة مستفادة من الحواس و منتهیة الیها، و لذلك قیل: من فقد حسا فقد علما، و إذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبیهه به یكون جعلا للفرع أصلا و للأصل فرعا، و هو غیر جائز، و كذلك لو حاول محاول المبالغة فی وصف الشمس بالظهور أو المسك بالطیب فقال الشمس فی الظهور كالحجة و المسك فی الطیب كخلق فلان كان سخفا من القول مع أنه قد ورد فی الكلام الفصیح و أشعار العرب و المتأخرین منه ما لا یحصی. فمن ذلك قول بعضهم:
و كأنّ النجوم بین دجاها سنن لاح بینهنّ ابتداع- و كقول بعضهم:
و لقد ذكرتك و الظلام كأنه‌یوم النوی و فؤاد من لم یعشق - و قول بعضهم:
كأنّ ابیضاض البدر من تحت غیمه‌نجاة من البأساء بعد وقوعه - و قول التنوخی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 88 أما تری البرد قد وافت عساكره‌و عسكر الحرّ كیف انصاع منطلقا
فانهض بنار الی فحم كأنهمافی العین ظلم و انصاف قد اتفقا
جاءت و نحن كقلب الصبّ حین سلابردا فصرنا كقلب الصّبّ إذ عشقا - و قال آخر:
ربّ لیل كأنه أملی فیك و قد رحت عنك بالحرمان- و قول الصاحب حین أهدی العطر إلی القاضی أبی الحسن:
یا أیها القاضی الذی نفسی له‌فی قرب عهد لقائه مشتاقه
أهدیت عطرا مثل طیب ثنائه‌فكأنما أهدی له أخلاقه و مثل هذا فی أشعارهم كثیر لا یحصی و الذی یجمع بین هذا و بین القواعد العقلیة أن هذه الاشیاء المعقولة لتقررها فی الذهن و تخیلها فی العقل، صارت بمنزلة المحسوسات، فلما نزلت منزلة المحسوسات صح التشبیه و قویت، و صار المعقول للمبالغة أثبت فی النفس و أقوی من المحسوس، فصار لذلك أصلا یشبّه به. و من هذا قوله تعالی:
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّیاطِینِ و لهذا قال امرؤ القیس یشبه نصول الرماح:
و مسنونة زرق كأنیاب أغوال فإنهم و إن كانوا لم یشاهدوا الغول و أنیابها لكنهم لما اعتقدوا فیها أی فی أنیابها غایة الحدّة حسن التشبیه، و الصحیح أن المحسوس أعرف من التشبیه بالوصف المعقول لثلاثة أوجه. الأول أن أكثر الغرض من التشبیه التخییل الذی یقوم مقام التصدیق فی الترهیب و الترغیب و الخیال أقوی علی ضبط الكیفیات المحسوسة منه علی الأمور الاضافیة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 89
و الثانی أن الاشتراك فی نفس الصفة أسبق من الاشتراك فی مقتضاها. الثالث أن المشابهة فی الصفة قد تبلغ الی حیث یتوهم أن احدهما الآخر. و أما المشابهة فی مقتضی الصفة لا تبلغ إلی هذا الحد لأن من المستحیل أن لا یجد العاقل فصلا بین ما یقتضیه ذوق العسل فی نفس الذائق، و بین ما یحصل بالكلام المقبول فی نفس السامع .. و أما القسم الخامس فقال ابن الاثیر: و من أقسام التشبیه قسم یقال له غلبة الفروع علی الأصول، و هو ضرب من الكلام ظریف لا یكاد یوجد منه شی‌ء الا و الغرض به المبالغة .. فما جاء من ذلك قول ذی الرّمة:
و رمل كأوراك العذاری قطعته‌إذا ألبسته المظلمات الحنادس - و مثل ذلك قول بعضهم:
فی طلعة البدر شی‌ء من ملاحتهاو فی القضیب نصیب من تثنیها و الغرض بهذا النوع المبالغة فی وصف المشبه به كأن هذا المعنی ثبت له و صار أصلا.
و أما السادس: فی أدوات التشبیه فأدواته اسماء و أفعال و حروف.
أما الاسماء فمثل بسكون الثاء و تحریكها و شبه بسكون الباء و تحریكها و أشباه ذلك. و أما الافعال كحسبت و خلت و یحسب و یخال و نظائرها.
و أما الحروف فالكاف مفردة و اذا أضیف الیها ما یجری مجری ذلك و قد نطق بذلك كله الكتاب العزیز و السنة.
أما الأسماء فقال اللّه تعالی: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً.
و قال تعالی: مَثَلُ ما یُنْفِقُونَ فِی هذِهِ الْحَیاةِ الدُّنْیا كَمَثَلِ رِیحٍ فِیها صِرٌّ. و قال تعالی: مَثَلُ الْفَرِیقَیْنِ كَالْأَعْمی وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِیرِ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 90
وَ السَّمِیعِ و قال تعالی: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. و قال تعالی فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
و قال تعالی: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. و قال تعالی: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَیْنا و فی الحدیث الصحیح فمن أین یكون الشبه و الشّبه. و أما الافعال فكقوله تعالی: یَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً. و قال تعالی: یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعی.
و أما الحروف فكقوله تعالی: كَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ.
و قوله تعالی: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ. و قوله تعالی: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ. و أما- كأنّ- فكقوله تعالی: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّیاطِینِ و فی القرآن من هذا كثیر.
و أما فی كلام العرب الفصحاء منهم و أشعارهم فشی‌ء كثیر أضربنا عن ذكره لكثرته و شهرته .. و قال ابن الأثیر و قد وقع فی القرآن العزیز التشبیه بغیر أداة فی مواضع كثیرة. منها قوله تعالی: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَرْجِعُونَ. و قوله تعالی: خَتَمَ اللَّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ وَ عَلی سَمْعِهِمْ وَ عَلی أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ و هو أبلغ فی التشبیه .. قال جمهور علماء هذا الشأن: التشبیه یكون بأداة تارة، و تارة بغیر أداة، لكن إذا كان بغیر أداة كان أبلغ و أوجز، لأن قولنا- زید أسد- یعطی ظاهره من المعنی أنّا أخبرنا عن زید أنه أسد، و ذكرنا أنه هو الا أن حرف التشبیه الذی كان مخفیا فی الاول فیصیر حینئذ تشبیها لزید بالأسد، و الاول كان قد جعل هو الأسد، و حرف التشبیه یقدر فیه تقدیرا فمن هذا الوجه كان الأول أبلغ و أشد وقعا فی النفس. و أما كونه أوجز فلأن قولنا- زید أسد- أخص من قولنا- زید كأنه الأسد- و ان كان المعنیان سواء.
و أما السابع: فی تشبیه الشیئین بالشی‌ء، و قد یشبه الشیئین بالشی‌ء الواحد، و انما جاز ذلك لأنّ المشبه قد یأخذ صفة من صفات
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 91
نفسه و صفة غیره ثم یشبههما بشی‌ء آخر كقول الشاعر:
صدغ الحبیب و حالی‌كلاهما كاللّیالی و قد وقع تشبیه الشیئین بالشی‌ء الواحد، و انما جاز ذلك لأنه لا یخلو الشیئان فی تشبیه أحدهما بالآخر من ثلاثة أقسام: إما تشبیه معنی بمعنی، و إما تشبیه معنی بصورة، و إما تشبیه صورة بصورة، و كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا یخلو من ثلاثة أقسام: إما تشبیه مفرد بمفرد .. و إما تشبیه مركب بمركب. و إما تشبیه مفرد بمركب. فأما تشبیه المفرد بالمفرد فكقول البحتری:
تبسم و قطوب فی ندی و وغی‌كالغیث و البرق تحت العارض البرد و منه قوله تعالی: وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِینَ وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَی الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الآیة. و أما تشبیه المركب بالمركب فقوله تعالی: إِنَّما مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا یَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ الی قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ الآیة. فشبه حال الدنیا فی سرعة زوالها و انقراض نعیمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض و ذلك تشبیه معنی بصورة و هو أبدع ما یجی‌ء فی هذا القسم. و مثله فی حق المنافقین: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِی ظُلُماتٍ. لا یُبْصِرُونَ تقدیره أن مثل هؤلاء المنافقین كمثل رجل أوقد نارا فی لیلة مظلمة بمفازة فاستضاء بها ما حوله، و اتقی ما یخاف و أمن فبینما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقی مظلما خائفا متحیرا، و كذلك المنافق إذا أظهر كلمة الایمان استنار بها و اعتز بعزها و أمن علی نفسه و ماله و ولده، فإذا مات عاد إلی الخوف و بقی فی العذاب و النقمة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 92
و یجوز أن یكن المعنی أنهم لما وصفوا- بأنهم اشتروا الضلالة بالهدی- عقب ذلك بهذا التمثیل مثّل هداهم الذی باعوه بالنار المضیئة ما حول المستوقد- و الضلالة- التی اشتروها، و طبع بها علی قلوبهم بذهاب اللّه بنورهم و تركهم فی ظلمات لا یبصرون، ثم قال اللّه- صمّ بكم عمی- كانت حواسهم سلیمة لكن لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة الی الحق و أبوا أن ینطقوا به بألسنتهم و أن ینظروا و یتبصروا بعیونهم، جعلوا كأنما أصابت هذه الحواس منهم الآفات، و هذا من عجائب التشبیه و طریقته عند علماء البیان طریقة قولهم- لیوث- للشجعان- بحور- للكرام .. و بعض علماء هذه الصناعة یجعلون ما كان علی مثال قوله تعالی: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْیٌ استعارة و لیس كذلك لأن المستعار مذكور.
- و من هذا القسم قول الشاعر:
بكیت علیه حین لم یبلغ المنی‌و لم یرو من ماء الحیاة المكدّر و منه قول المتنبی:
كأن الجفون علی مقلتیّ ثیاب شققن علی ثاكل و أما تشبیه المفرد بالمركب فمن ذلك قول بعضهم:
كأن السّهی انسان عین غریقةمن الدّمع یبدو كلما ذرفت ذرفا و أما الثامن: فی ذكر ما یحسن به موقع التشبیه .. قال أئمة هذا الشأن: ان كثرة التقییدات یعظم بها حسن موقع التشبیه و تكون أدخل فی التشبیه من غیرها لأنها عقلیة. مثال ذلك قوله تعالی: إِنَّما مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إلی قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ و هذه فیها عشر جمل قید بعضها ببعض حتی صارت جملة واحدة، و هی مع ذلك لا یمتنع أن تكون صور الجمل معناها حاصلا یمكن أن یشار
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 93
إلیها واحدة واحدة، ثم أن التشبیه منتزع من مجموعها من غیر أن یمكن فصل بعضها عن بعض، فإنك لو حذفت منها جملة واحدة من أی موضع كان أخلّ ذلك بالمغزی من التشبیه .. و قد یقع من التشبیه جمل لا یخل اسقاط بعضها بالتشبیه، و هی كل جملة جمعت أغراضا كثیرة كل واحد منها منفرد بنفسه و لهذا النوع خاصیتان: الأولی أنه لا یجب فیها الترتیب، أ لا تری أنك اذا قلت- زید كالأسد بأسا. و البحر جودا.
و السیف مضاء. و البدر بهاء- لم یجب علیك أن تحفظ فی هذه التشبیهات نظاما مخصوصا و هو كقول بعضهم:
یا هلالا یدعی أبوه هلالاجلّ باریك فی الوری و تعالی
أنت بدر حسنا و شمس علواو حسام حزما و بحر نوالا - الثانیة إذا سقط البعض فإنه لا یتغیر حال الباقی كقولهم یصفو و یكدر و یحلو و یمر و لو تركت ذكر الكدورة و المرارة لو وجدت المعنی فی تشبیهك بالماء فی الصفاء و العسل فی الحلاوة باقیا علی حاله. و قد وقع فی بعض الاشعار ما یظن أن فیه تشبیهات مجموعة، و لیس كذلك بل هو تشبیه واحد، و ذلك كقول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامةفلما رجوها أقشعت و ثجلت و أما التاسع: فهو فی الشرط الذی لا یكون التشبیه حسنا الا به و هو أن یكون التشبیه جلیا و یكون بحال یتبادر الذهن إلیه و إلی إدراكه، و لا یحتاج إلی اطالة فكرة و لا إمعان نظر، فإن الغرض بالتشبیه بیان حسن موقع التشبیه و ظهور مزیة المشبه بحسن حال المشبه به أو قبحه، و لذلك هجنوا تشبیه من شبه الشمس بالمرآة فی كف الأشل و كتشبیه البرق بإصبع السارق فی قول بعضهم:
أرقت أم نمت لضوء بارق مؤتلفا مثل الفؤاد الخافق كأنه إصبع كف سارق
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 94
و أما العاشر: فیما یجوز عكسه من التشبیه و ما لا یجوز. فأما الذی لا یجوز عكسه، فكل تشبیه كان الغرض به إلحاق الناقص بالزائد مبالغة فی اثبات الحكم للناقص فهذا یمتنع عكسه، و هو كما اذا شبهت شیئا أسود بما هو الاصل فی شدة السواد كخافیتی الغراب و القار امتنع فیه العكس، لأن تنزیل الزائد منزلة الناقص تضاد المبالغة فی الاثبات. و اما الذی یجوز عكسه فهو الجمع بین شیئین فی مطلق الصورة أو الشكل، أو اللون فالعكس مستقیم فیه فهو كتشبیه الصبح بغرة الفرس مع كون البیاض قلیلا بالاضافة إلی السواد، و كذلك تشبیه الشمس بالمرآة المجلوة و الدینار الخارج من السكة كقول ابن المعتز فهذا حسن مقبول، و ان اعظم التفاوت بینهما لأنك لم تضع التشبیه علی مجرد النور، و انما قصدت إلی مستدیر یتلألأ و یلمع، ثم خصوص جنس اللون الموجود فی المرآة المجلوة و الدینار للتخلص من حمی المسبك یوجد فی الشمس، فأما مقدار النور بأنه زائد أو ناقص و الجرم عظیم أو صغیر فمما لم یتعرض له و علی هذا خرج قوله تعالی: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِیها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّیٌ الآیة، فإنه سبحانه و تعالی لم یرد بالتشبیه بهذه الزجاجة الموصوفة بهذه الصفة المشاركة بین نوره و بین نور هذه الزجاجة، إذ لا مناسبة بینهما، بل كان ذلك من التشبیه الذی ینعكس بل الذی یتعین عكسه.
و أما الحادی عشر: فی الهیئات التی تقع علیها الحركات فهی عند أرباب هذا العلم علی قسمین: أحدهما أن تعرف تغیرها من الأوصاف كالشكل. و اللون الثانی أن تجرد هیئة الحركة حتی لا یراد غیرها .. فمن الأول قول ابن المعتز:
و الشمس كالمرآة فی كفّ الأشل أراد أن یربك مع الاستدارة، و الاشراق الحركة التی تراها فی الشمس إذا أنعمت التأمل، ثم ما یحصل فی نورها من أجل تلك الحركة، و ذلك أن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 95
للشمس حركة متصلة دائمة و لنورها بسبب ذلك تموج و اضطراب و لا یتحصل هذا الشبه إلا بأن تكون المرآة فی ید الاشل لأن حركته تدوم و تتصل، و یكون لها سرعة و بدوام الحركة یتموج نور المرآة و تلك حال الشمس لأنك تری شعاعها كانه یهم أن ینبسط حتی یفیض من جوانبها، ثم یبدو له فیرجع من الانبساط الذی تراه إلی الانقباض كأنه یجمعه من جوانب الدائرة ابن سناء الملك فی أبیات هجا فیها الشمس قال فیها:
لا كانت الشمس فكم أصدأت‌صفحة خدّ كالحسام الصّقیل
و كم و كم صدّت بوادی الكری‌طیف خیال زارنی من خلیل
تكذب فی الوعد و برهانه‌أن سراب القفر منها سلیل
و تحسب النهر حساما فترتاع و تحكی فیه قلب الذلیل و مما یشبه التشبیه الاول و ان صور فی عین المرآة قول المهلب بن ابی صفرة الوزیر:
الشمس من مشرقها قد بدت‌مشرقة لیس لها حاجب
كأنها بوتقة أحمیت‌یجول فیها ذهب ذائب و ذلك أن الذهب الذائب یتشكل بشكل البوتقة علی النار فإنه یتحرك فیها كل حركة علی الحد الذی وصفت لك، و ما فی طبع الذهب من النعومة و فی أجزائه من شدة الاتصال و التلاحم بمنعه أن یقع فیها غلیان كما فی الماء فیرتفع وسطه ارتفاعا شدیدا و جملته كأنها تتحرك بحركة واحدة و یكون فیها ما ذكرناه من الانبساط الی الجوانب ثم انقباض و منها قوله:
كأن فی غدرانها حواجبا أراد ما یبدو فی صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار، ثم إنك تراها تمتد امتدادا ینقص من انحنائها و تحدّ بها و كأنها تنتقل من التقوس إلی الاستواء، و ذلك
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 96
أشبه شی‌ء بالحواجب اذا بدت. و الثانی ما یكون التشبیه فی هیئة الحركة فقط مجردة من كل وصف یقاربها و هناك أیضا لا بد من أخلاط كثیرة فی جهات متفرقة مختلفة و كلما كان التقارب أكثر كان التركیب فی الهیئة المتحركة أكثر. و قد یقع التشبیه أیضا بالسكون كقول الاخطل فی وصف مصلوب:
كأنه عاشق قد مدّ صفحته‌یوم الوداع الی تودیع مرتحل
أو نائم من نعاس فیه لوثته‌مواصل لتمطیه من الكسل فلطفه بسبب ما فیه من التفصیل، و لو قال كأنه ممتط من نعاس و اقتصر علیه كان قریب التناول. و قد وقع فی القرآن العظیم آیات كثیرة شبه فیها الحركات بالحركات و السكون بالسكون. فمن ذلك قوله تعالی: وَ تَرَی الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. و قوله: یَكادُ الْبَرْقُ یَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. و قوله تعالی یَوْمَ نَطْوِی السَّماءَ كَطَیِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ شبه سرعة سیر الجبال مع سرعة سكون بسرعة سیر السحاب مع سكون أیضا و شبه سرعة ومیض البرق بسرعة ید المختطف و شبه حركة التفاف جرم السماء بحركة التفاف جرم الكتاب بعضه علی بعض و كذلك السكون. و منه قوله تعالی وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً- و الرهو- الساكن شبه ذهاب حركة البحر بذهاب حركة الخیل عند سكونها، تقول العرب جاءت الخیل رهوا أی ساكنة فشبه البحر بها و ذلك أنه قام فرقاه ساكنین فقال لموسی علیه الصلاة و السلام دع البحر ساكنا قائما ماؤه كما أخبر اللّه سبحانه و تعالی: فَأَوْحَیْنا إِلی مُوسی أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِیمِ.
و أما الثانی عشر: فهو الفرق بین الاستعارة و التشبیه. ذهب جماعة من أهل هذا الشأن إلی ان التشبیه و الاستعارة شیئان و فرق الحذاق، و قالوا إن التشبیه حكم إضافی لا بد فیه من ذكر مشبه و مشبه به، فإنك اذا قلت- رأیت أسدا- فهو استعارة لم تذكر شیئا حتی تشبهه بالأسد، و لو كان تشبیها لتعیّن أن تقول زید أسد أو زید كالأسد و لم یكن غرضك فی قولك زید أسد إلا المبالغة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 97
فی مدح زید بالشجاعة .. فرق ثان أن التشبیه لا یكون إلا بأداة التشبیه غالبا و الاستعارة لا تحتاج الی أداة فإنك إذا قلت- لعبت به ید الصبا- لم یكن كقولك- فلان له خلق كالصبا- .. فرق ثالث أن الاستعارة أوجز من التشبیه، فإنك اذا قلت- زید أسد- أوجز من قولك- زید فی بسالة الأسد- فثبت علی هذا التقدیر أن التشبیه أحد غرضی الاستعارة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 98

فصل [فی التمثیل]

و منها التمثیل .. قد أطلق علماء هذه الصناعة اسم التشبیه علی كل تمثیل منتزع من أمور مجتمعة بتقیید البعض بالبعض، و هو قریب من الاستعارة، و منه فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِی كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.
و قوله تعالی: مَثَلُ ما یُنْفِقُونَ فِی هذِهِ الْحَیاةِ الدُّنْیا الآیة. و من ذلك قوله تعالی: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ .. و قوله تعالی: مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوها الآیة و مثله فی القرآن كثیر .. و من هذا النوع المثل السائر و معنی السائر أنه كثر استعماله و استعماله علی أن الثانی بمعنی الأول، لأن ذكرها علی تقدیر أن یقال فی الواقعة المعینة انها بمنزلة من قیل له هذا القول و الأمثال كلها حكایات لا تغیّر و هی أكثر من أن تحصی، و قد صنف العلماء فیها كتبا و شرحوا معانیها و الخوض فی ذكرها یطول و قصدت الاختصار لا الإكثار .. و من الأمثال السائرة فی الكتاب العزیز قوله تعالی: لَیْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ. و قوله تعالی: وَ تَرَی الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. و قوله تعالی: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً .. و منه فی السنة قوله صلّی اللّه علیه و سلّم الآن حمی الوطیس، و رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أول من فاه بهذا المثل، ثم صار مثلا سائرا. و منه قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «إیّاكم و خضراء الدّمن». و فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 99
غضون كلامه صلّی اللّه علیه و سلّم من هذا كثیر .. و أما أشعار العرب فقد ورد فیها من ذلك كثیر منها ما فی البیت مثل واحد، و منها ما فی البیت مثلان و منها ما فیه ثلاثة، و منها ما فیه أربعة، و منها ما فیه خمسة، و منها ما فیه ستة فأما ما فیه مثل واحد فكقول أبی فراس:
تهون علینا فی المعالی نفوسناو من طلب الحسناء لم یغله المهر و قول أبی تمام:
فلو صورت نفسك لم تزدهاعلی ما فیك من كرم الطباع - و مما جاء من الشعر فیه مثلان قول بعضهم:
اللّه أنجح ما طلبت به‌و البرّ خیر حقیبة الرّحل فی كل قسم منه مثل قائم بنفسه غیر محتاج إلی صاحبه .. و منه قول الحطیئة:
من یفعل الخیر لا یعدم جوازیه‌لا یذهب العرف بین اللّه و الناس - و قول أبی فراس:
و من لم یوق اللّه فهو مضیّع‌و من لم یعزّ اللّه فهو ذلیل - و قول المتنبی:
و كلّ امرئ یولی الجمیل محبّب‌و كلّ مكان ینبت العزّ طیّب - و أما ما فیه ثلاثة أمثال فكقول زهیر بن أبی سلمی:
و فی الحلم إدهان و فی العفو ذلّةو فی الصدق منجاة من الشرّ فاصدق - و أما فیه أربعة أمثال فكقول بعض العرب:
فالهمّ فضل و طول العیش منقطع‌و الرّزق آت و رزق اللّه منتظر - و أما ما فیه خمسة فكقول الشاعر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 100 خاطر تفد و ارتد تجد و اكرم تسدو انقد تقد و اصغر تعدّ الأكبرا - و أما ما فیه ستة فكقول ابن اللبّانة الأندلسی:
ته أحتمل و استطل أصبر و عزّ أهن‌و للّ أقبل و قل أسمع و مر أطع - و المثل- جمعه أمثال و سمی المثل مثلا لأنه ماثل بخاطر الانسان أی شاخص یتأسی به و یتعظ و یخشی و یرجو و الشاخص المنتصب و هو من قولهم طلل ماثل أی شاخص، و هذا رسمه اللغوی، و الذی تقدم فی أول الباب حده الصناعی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 101

القسم الثانی و العشرون من المجاز الإیجاز و الاختصار

اشارة

و هو علی قسمین: وجیز بلفظه، و وجیز بحذف.
فأما الوجیز بلفظه: فهو عند أرباب هذه الصناعة أن یكون اللفظ بالتشبیه إلی المعنی أقل من القدر المعهود عادة، و سبب حسنه أنه یدل علی التمكن فی الفصاحة و الملكة فی البلاغة، و حصول ملاذ كثیرة دفعة واحدة، و اللفظ لا یخلو إما أن یكون مساویا لمعناه و هو المقدر أو أقلّ منه و هو المقصور .. أما المقدر فكقوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی، وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أمر اللّه فی أول هذه الآیة بالعدل و الاحسان و إیتاء القربی و نهی فی وسطها عن الفحشاء و المنكر و البغی، و وعظ فی آخرها، و ذكر فجمع فی هذه ضروبا من البیان و أنواعا من الإحسان، فذكر العدل و الاحسان و الفحشاء و المنكر بالألف و اللازم التی هی للاستغراق، أی استغراق الجنس المحتوی علی جمیع أنواعه و ضروبه، و جمع فیها بین الطباق اللفظی و الطباق المعنوی، أما اللفظی ففی قوله- إن اللّه یأمر و ینهی- و أما المعنوی ففی قوله- العدل و الاحسان و إیتاء ذی القربی- و قوله- الفحشاء و المنكر و البغی- فإن الثلاثة الأواخر أضداد الثلاثة الأول لأن الثلاثة الأول من الفعل الحسن، و الثالثة الأواخر من القبیح، فطابق بین الحسن و القبیح مطابقة معنویة، ثم بین خصوصیة ذوی القربی بإعادة الایصاء
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 102
علیهم و الإیتاء لهم مع أن الأمر بالاحسان قد تناولهم، و بدأ بالعدل لأنه فرض، و تلاوة بالإحسان لأنه مندوب الیه، و قد یجب فاحتوت الآیة علی حسن النسق و عطف الجمل بعضها علی بعض فقدم العدل و عطف علیه الإحسان الذی هو جنس عام، و خص منه نوعا خاصا و هو إیتاء ذی القربی، ثم أتی بالأمر مقدما و عطف علیه النهی بالواو، ثم رتب جمل المنهیات كما رتب جمل المأمورات فی العطف بحیث لم یتأخر فی الكلام ما یجب تقدیمه و لم یتقدم علیه ما یجب تأخیره ثم ختم ذلك كله بأمور مستحسنة و دعا الی سبیله بالحكمة و الموعظة الحسنة، فاحتوت الآیة علی ضروب من المحاسن و القضایا و أشتات من الأوامر و النواهی و المواعظ و الوصایا ما لو بث فی أسفار عدیدة لما اسفرت عن وجوه معانیها، و لا احتوت علی أصولها و مبانیها و سبحان من لا یشبه خلقه ذاتا و لا كلاما و لا إحكاما و لا أحكاما.
و فی القرآن العظیم من هذا النمط كثیر و قد وقع آیات كثیرة قلت حروفها و كثرت معانیها، و ظهرت دلائل الإعجاز فیها مثل قوله تعالی: وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیانَةً فَانْبِذْ إِلَیْهِمْ عَلی سَواءٍ. و قوله تعالی: مَنْ كَفَرَ فَعَلَیْهِ كُفْرُهُ*. الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان 102 القسم الثانی و العشرون من المجاز الإیجاز و الاختصار ..... ص : 101
قوله تعالی: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ. و من ذلك فی السنة كثیر كقوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «الأعمال بالنیات و المجالس بالامانات». و كقوله:
«الضعیف أمیر الرّكب» یعنی أنه ینبغی متابعته فی السیر، كما ینبغی متابعة أمیر الركب، و قد صرّح بذلك فی قوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «سیر و اسیر أضعفكم».
و من ذلك فی أشعار العرب و خطبهم كثیر و كثرته و شهرته أغنت عن ذكره.
و أما المقصور: فإما أن یكون من نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه معان كثیرة، أو لا یكون كذلك. الثانی كما فی قوله تعالی: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ. و كذلك قوله تعالی: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 103
وَ هُمْ مُهْتَدُونَ. و كقوله تعالی: وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ و هذا أحسن من قولهم القتل أنفی للقتل لوجوه سبعة.
الأول: أن قولهم القتل أنفی للقتل فی ظاهره متناقض، لأنه جعل حقیقة الشی‌ء منافیة لنفسه، و إن قیل أن المراد منه ان كل واحد من أفراد هذا النوع ینفی غیره، فهو أیضا لیس أنفی للقتل قصاصه، بل أدعی له، و إنما یصح إذا خصص فقیل القتل قصاصا أنفی للقتل، فیصیر كلاما طویلا مع أن التقییدات بأسرها حاصلة فی الآیة.
الثانی: أن القتل قصاصا لا ینفی القتل ظلما من حیث أنه قتل، بل من حیث أنه قصاص و هذه الجملة غیر معتبرة فی كلامهم.
الثالث: أن حصول الحیاة هو المقصود الأصلی و نفی القتل انما یراد لحصول الحیاة و التنصیص علی الغرض الاصلی أولی من التنصیص علی غیره.
الرابع: إن التكرار عیب و هو موجود فی كلامهم دون الآیة.
الخامس: أن حروف- فی القصاص حیاة- اثنا عشر و حروف- القتل أنفی للقتل- أربعة عشر.
السادس: أنه لیس فی كلامهم كلمة یجمع فیها حرفان متلاصقان متحركان إلا فی موضع واحد، بل لیس فیها الأسباب حقیقة متوالیة، و قد عرف أن ذلك مما ینقص من سلاسة الكلام بخلاف الآیة.
السابع: أن الدافع لصدور القتل عن الانسان كراهته لذلك، و صارفه القوی عنه حتی انه ربما یعلم أنه لو قتل قتل ثم لا یرتدع، و إنما رادعه القوی هو إما الطمع فی الثواب، أو الذكر الجمیل، و إذا كان كذلك فلیس أنفی الأسباب للقتل هو القتل بل الأنفی لذلك هو العارف القوی. و قوله تعالی- فی القصاص حیاة- لم یجعل القصاص مقتضیا الحیاة علی الاطلاق، بل الحیاة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 104
منكرة، و السبب فیه أن شرعیة القصاص تكون رادعة عن الاقدام علی القتل غالبا. ثم لتعلم أن فی هذا التنكیر فائدة أخری لطیفة، و هی أن الإنسان إذا علم أنه اذا قتل قتل ارتدع بذلك عن القتیل فسلم صاحبه، فصارت حیاة هذا الموهوم قتله فی المستقبل مستفادة بالقصاص، و صار كأنه قد حیی فی بقی عمره، و لذلك وجب التنكیر و امتنع التعریف من جهة أن التعریف یقتضی أن تكون الحیاة قد كانت بالقصاص من أصلها، و لیس الأمر كذلك.
و مثل هذا التنكیر قوله تعالی: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلی حَیاةٍ و فائدة التنكیر أن الحریص لا بدّ و أن یكون حیا، و حرصه لا یكون علی الحیاة الماضیة و الراهنة، بل علی الحیاة المستقبلة، و لمّا لم یكن الحرص متعلقا بالحیاة علی الإطلاق، بل بالحیاة فی بعض الأحوال لا جرم جاءت بلفظ التنكیر .. و اعلم أن للتنكیر فی قوله تعالی- فی القصاص حیاة- فائدة أخری: و هی أن الرجل قد یرتدع بالقصاص حتی لا یقدم علی القتل، لكن من الجائز أن لا یكون للانسان عدوّ فیقصد قتله حتی یمنعه خوف القصاص، و حینئذ لا تكون حیاة ذلك الإنسان لأجل الخوف من القصاص ض، و لما دخل الخصوص فی هذه القصة وجب ان یقال حیاة، و لا یقال الحیاة، و كذلك یقال شفاء، و لا یقال الشفاء فی قوله تعالی: یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ حیث لم یكن شفاء للجمیع .. و من بدیع هذا النوع أن أبا جعفر المنصور سأل معن بن زیاد أیما أحبّ الیك دولتنا أو دولة بنی أمیة؟ فقال: ذلك إلیك، و معناه أن زیادة هذه المحبة و نقصانها بیدك، لأنها علی قدر إحسانك. و الفرق بین هذا القسم و بین المقدم و هو أن یكون نقصان اللفظ لأجل احتماله معان كثیرة، و ذلك كاللفظ المشترك أو الذی له مجازات، أو حقیقة و مجاز إذا أریدت معانیه كما فی قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِ و الصلاة من اللّه تعالی رحمة، و من الملائكة استغفار.
و كذلك قوله تعالی: أَنَّ اللَّهَ یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 105
وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ و السجود من الناس وضع الجبهة علی الأرض، و هو حقیقة شرعیة، و أیضا الخشوع و هو حقیقة لغویة، و من غیر الناس الانقیاد لصنع اللّه تعالی و هو مجاز .. و من ذلك قول المتنبی:
و أظلم أهل الظلم من بات حاسدالمن بات فی نعمائه یتقلّب و هذا یحتمل ثلاثة معان: الأول: من بات فی نعماء المحسود.
الثانی: من بات فی نعماء الحاسد. و الثالث: من بات فی نعماء غیر الحاسد و المحسود، فیكون ذلك مدحا للذی یبیت فی نعمائه و بیانه أن كل أحد یتمكن من تحصیل تلك النعمة بمدح هذا المنعم فیكون حینئذ ممن أنعم علیه.
و أما الوجیز بالحذف: فالكلام علیه من وجوه: الأول المعنی الذی حسن الحذف من أجله. الثانی فی فائدته. الثالث فی شرطه. الرابع فی أقسامه. الخامس فی توابعه. السادس فیما یقبح منه .. أما الأوّل فإن المعنی الذی حسن الحذف من أجله طلب الایجاز و الاختصار و تحصیل المعنی الكثیر فی اللفظ القلیل.
و أما الثانی: ففائدته زیادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف، و كلما كان الشعور بالمحذوف أعسر كان الالتذاذ به أشد و أكثر، و كان ذلك أحسن .. و أما الثالث: فشرطه أن یكون فی اللفظ دلالة علی المحذوف، و إلا لم یتمكن من معرفته فیكون اللفظ مخلا بالفهم، و تلك الدلالة قد تحصل من إعراب اللفظ، و ذلك كما اذا كان منصوبا فیعلم أنه لا بد له من ناصب و إذا لم یكن ظاهرا لم یكن بد من أن یكون مقدّرا، و ذلك كقولنا- أهلا و سهلا و مرحبا- و معناه وجدت أهلا و سلكت
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 106
سهلا و صادفت رحبا. و منه فی القرآن كثیر كقوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ علی قراءة من قرأ بالنصب. و قوله تعالی: وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِی تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ و التقدیر أحمد الحمد أو أقرأ الحمد و احفظوا الأرحام. و قوله تعالی: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً و قوله تعالی: مِلَّةِ إِبْراهِیمَ و فی القرآن منه كثیر و فی الكلام الفصیح منه كثیر و كثرته تغنی عن ذكره. غیر أن سیبویه ذكر منه أشیاء جعلها حجة فی الباب. من ذلك قول العرب- اللهم ضبعا و ذئبا- أی اجعل فیها ضبعا و ذئبا. و قول بعضهم حین قیل له لم أفسدتم مكانكم؟ فقال- الصبیان بأبی- أی لم الصبیان. و منه ما قدمناه أولا و هو أهلا و سهلا و مرحبا.
و قد تحصل تلك الدلالة بالنظر فی المعنی و العلم بأنه إنما یتم بمحذوف مقدّر، و هذا یكون أحسن من الأول لزیادة غموضه كما فی قولهم فلان یحلّ و یربط و معناه: أنه یحل الأمور و یربطها أی ذو تصرف.
و قد عقد بعض علماء هذه الصناعة عقدا فقال: اللفظ المحذوف إما أن یكون مفردا أو مركبا فإن كان مفردا فسیأتی بیانه، و إن كان مركبا فإما أن یكون كلاما مفیدا أو لا یكون كذلك، فهذه ثلاثة أقسام: الأول أن یكون كلاما مفیدا، و هذا أحسن و الكلام المفید المحذوف قد یكون قلیلا و هو علی وجهین: أحدهما أن یكون المحذوف استفهاما و یسمی ما یدلّ علیه استئنافا، و هذا إما أن یكون بإعادة اسم أو صفة أو لا یكون، كذلك إما الذی بإعادة اسم فكما إذا أعقب اسم من تقدم الحدیث عنه كقولنا أحسنت إلی زید زید أحقّ باحسانك. و قولنا- زید أحق بإحسانك- جواب عن سؤال كأنه قیل و ما وجه الإحسان إلی زید فقیل زید أحق باحسانك، فیكون هذا السؤال محذوفا .. و أما الذی بإعادة صفة فكقولنا أحسنت إلی زید صدیقك القدیم هو أحق بذلك. تقدیره و ما وجه الإحسان إلی زید فنقول- لأنه صدیقك القدیم- و هذا أحسن من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 107
إعادة الإسم لاشتماله علی سبب الإحسان .. و أما الذی لیس كذلك فكقوله تعالی: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ إلی قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فقوله- أولئك علی هدی من ربهم و أولئك هم المفلحون- استشرف و هو جواب لسؤال مقدّر كأنه قیل و ما یحصل لهؤلاء الموصوفین بهذه الصفات فقیل أنهم علی هدی من ربهم و انهم مفلحون و كذلك قوله تعالی: إِنِّی آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فقوله- قیل ادخل الجنة- جواب عن سؤال كأنه قیل و ما فعل بهذا فقیل قیل له ادخل الجنة، و إنما لم یقل قیل له لأن ذلك معلوم. و كذلك قوله تعالی: قُلْ یا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلی مَكانَتِكُمْ فإن قرئ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لم یكن فیه استئناف و إن قرئ سوف تعلمون كان ذلك كأنه قیل و ما یكون اذا عملنا نحن علی مكانتنا و عملت أنت علی مكانتك فقیل: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ یَأْتِیهِ عَذابٌ یُخْزِیهِ.
و ثانیها: أن لا یكون المحذوف استفهاما و ذلك كما إذا كان مسببا، و قد دلّ علیه سببه كقوله تعالی: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِیِّ إِذْ قَضَیْنا إِلی مُوسَی الْأَمْرَ، وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِینَ كأنه قال و ما كنت من الشاهدین لما جری لموسی علیه، و لكنا أوحینا الیك و سبب هذا الوحی أنّا أنشأنا قرونا إلی زمانك فتطاول علیهم العمر أی مدة الفترة فنسی ما كان جری فأوحینا الیك فیكون المحذوف هو السبب و المذكور الدال علیه هو سببه.
و كذلك قوله تعالی: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَیْنا ..
و أما الرابع فی أقسامه: أما أقسامه فقد تظافرت و أقوال أرباب علم البیان علی أن المحذوفات علی قسمین حسنة و قبیحة. أما القبیحة فهو أن یخلّ المحذوف بالمعنی أو یحطه عن رتبته، و سیأتی بیانه. و أما الحسنة فهی علی قسمین: جمل. و مفردات. فأما الجمل فهی علی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 108
قسمین: موجزة. و مطولة .. فالموجزة مثل قوله تعالی: وَ اللَّائِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللَّائِی لَمْ یَحِضْنَ تقدیره و اللائی لم یحضن فعدتهن كذلك. و قد تقدم فی الفصل الذی قبل هذا من نظائره كثیر و القرآن العظیم مشحون به .. و أما الجمل المطولة فكقوله تعالی: اذْهَبْ بِكِتابِی هذا فَأَلْقِهْ إِلَیْهِمْ الآیة. فأعقبه بقوله حكایة عنها: قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ كِتابٌ كَرِیمٌ تقدیره فأخذ الكتاب فألقاه إلیهم فرأته المرأة بلقیس و قرأته- و قالت یا أیها الملأ- و من ذلك قوله تعالی: یا یَحْیی خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَیْناهُ الْحُكْمَ صَبِیًّا فیه محذوف مطوّل تقدیره، فلما ولد یحیی و نشأ و ترعرع قلنا له- یا یحیی خذ الكتاب بقوة- .. و من ذلك قوله تعالی حكایة عن موسی علیه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَیْهِ عاكِفِینَ حَتَّی یَرْجِعَ إِلَیْنا مُوسی قالَ یا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَیْتَ أَمْرِی تقدیره فلما جاءهم موسی و وجدهم علی تلك الحالة- قال یا هارون-. و من ذلك قوله تعالی: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّی إلی قوله: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها. و من ذلك قوله تعالی: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلی نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فیه محذوف تقدیره أ فمن شرح اللّه صدره للإسلام كمن أقسی قلبه و تركه علی ظلمة من كفر، و دل علی المحذوف قوله تعالی: فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ و ذلك فی القرآن العظیم كثیر جدا.
و أما المفردات فهی ثلاث أقسام: أسماء. و أفعال. و حروف أما الاسماء فهی أنواع. الأول حذف الفاعل، و قد اختلف فی حذفه، فنص علی منع حذفه ابن جنی و كثیر من النحویین، و الحق جوازه اذا وجد ما یدلّ علیه كقوله تعالی: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِیَ تقدیره اذا بلغت الروح التراقی. و منه قوله تعالی: حَتَّی تَوارَتْ بِالْحِجابِ تقدیره حتی توارت الشمس و من ذلك قوله تعالی: فَلَمَّا جاءَ سُلَیْمانَ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 109
تقدیره فلما جاء الرسول سلیمان.
الثانی: حذف المفعول و هو علی ثلاثة أقسام: الأول: حذفه من كل فعل لیس له مفعول معیّن، بل یكون المقصود من الكلام بیان حال الفاعل فقط. و منه قوله تعالی: هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ أی هل یستوی ذو العلم و من لا علم له. و فی مثل هذا یتعین أن لا یعدّی الفعل لفظا و لا تقدیرا، و یكون حاله كحال غیر المتعدی، فإن عدّیته تخصه بما تعدّیه الیه فینقص الغرض.
و من ذلك المحذوف من الافعال التی لها مفعول معیّن و حذفه لأمور. الأول: أن یكون المراد بیان حال الفاعل، و أن ذلك دأبه لا بیان حال المفعول. مثاله قوله تعالی: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْیَنَ وَجَدَ عَلَیْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ یَسْقُونَ إلی قوله: فَسَقی لَهُما فحذف المفعول به من أربعة مواضع إذ لو أضافه الی الغنم مثلا لتوهم أن الانكار إنما جاء من ذود الغنم لا من مطلق الذود، كما تقول ما لك تمنع أخاك، و كلّ مخلّ بالمقصود و مثله قول الشاعر:
هم خلطونا بالنفوس و ألجئواالی حجرات أدفأت و أظلّت أراد ألجئونا و أظلتنا و أدفأتنا فحذف فكأنه قد أبهم أمره، و لم یقصد شیئا یقع علیه فلو قال أدفأتنا، لكان الأمر مختصا بهم و بطل الغرض.
الثانی أن یكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إیهاما بأنك لا تقصد ذكره كقول البحتری:
شجو حسّاده و غیظ عداه‌أن یری مبصر و یسمع واع المعنی أن یری مبصر محاسنه و یسمع واع أخباره .. الثالث: ان یحذف لكونه مبینا كقولك- أصغیت إلیك- أی أذنی. و- أغضیت عنك- أی جفنی .. و قال ابن الاثیر حذف المفاعیل علی قسمین.
الأول: حذف مفاعیل غلب حذفها علی اثباتها كمفعول المشیئة و الإرادة فی باب الشرط، و باب لو أو كمفعول الأقسام. فأما حذف مفعول
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 110
المشیئة و الارادة فی باب لو و باب الشرط ففی القرآن العظیم منه كثیر.
منها قوله تعالی: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا تقدیره لو شاء اللّه أن لا یقتتلوا ما اقتتلوا بحذف مفعول المشیئة لدلالة ما بعده علیه، و منه قوله تعالی: وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ تقدیره و لو شاء اللّه هدایتكم كلكم لهداكم أجمعین. و منه قوله تعالی: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ و مثله فی القرآن كثیر. و قد «1» و منه قوله تعالی: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا. و منه قوله تعالی: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ یَتَّخِذَ وَلَداً .. و قد ظهر مفعول المشیئة فی قول الشاعر:
و لو شئت أن أبكی دما لبكیته‌علیك و لكن ساحة الصبر أوسع - و أما حذف مفعول الافساد فمنه قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ. و قوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. و قوله تعالی: یُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ وَ لا یُصْلِحُونَ. و قوله تعالی: وَ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها و هو كثیر .. الثانی ما یحذف لدلالة السیاق علیه. فمنه قوله تعالی:
یَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ یَشاءُ وَ یَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ تقدیره و لكن أكثر الناس لا یعلمون أن اللّه القابض الباسط. و قوله تعالی:
وَ ما یَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ تقدیره و ما یشعرون أنهم لأنفسهم یخادعون و نحوه.
و نذكر: هاهنا قاعدة ینبنی علیها حكم الفاعل و المفعول، و هو أن العرب ینظرون إلی مقصود الإفادة فی هذا الباب و نحوه، فإن كان المقصود نسبة الفعل الی الفاعل اقتصروا علیه فقالوا- فلان یعطی و یمنع و یصل و یقطع. و اللّه یحیی و یمیت- لأنه لیس الغرض ذكر المعطی
______________________________
(1) كذا فی الأصل .. و الظاهر أنه أراد و أما حذف مفعول الارادة فی باب الشرط و باب لو ففی القرآن منه كثیر و منه الخ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 111
و الممنوع و الموصول و المقطوع و المحیا و الممات، و لكن الغرض وصف الفاعل بهذه الأفعال.
فإن كان الغرض ذكر المفعول لا غیر لم یتعرّضوا للفاعل كقوله تعالی: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. و قوله تعالی: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ. و قوله تعالی: كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ لیس الغرض من هذا ذكر الكابت و لا القاتل و لا اللاعن و لا المبسل و انما الغرض من نسبة القتل و اللعن، و الكبت و الابسال الی المذكورین. و ان تعلق الغرض بالفاعل و المفعول أتوا بهما كقوله تعالی: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ. و قوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَیْ‌ءٍ. و قوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ.
و قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِیثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ .. و من ذلك حذف ضمائر الموصولات. و منه قوله تعالی: أَ هذَا الَّذِی بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا تقدیره أ هذا الذی بعثه اللّه رسولا. و قوله تعالی: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ تقدیره إنكم و ما تعبدون او تعبدونهم، و قوله تعالی: وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِی الْأَرْضِ تقدیره و ما ذرأه. و قوله تعالی: وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَیْ‌ءٍ تقدیره خلقه اللّه. و منه فی القرآن العظیم كثیر ..
الثالث: حذف المضاف تارة و المضاف إلیه أخری و إقامة أحدهما مقام الآخر .. أما حذف المضاف فكقوله تعالی: وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی كُنَّا فِیها و كذلك إِذا فُتِحَتْ یَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أی فتحت سددهم. و ربما نكرت المحذوف كما فی قوله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ یرید من أثر حافر فرس الرسول .. و منه قول الشاعر:
إذا قامتا تضوّع المسك منهمانسیم الصّبا جاءت بریّا القرنفل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 112
و أما حذف المضاف إلیه فهو أقلّ استعمالا. و منه قوله تعالی: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ أی من قبل ذلك و من بعده .. الرابع: حذف الصفة تارة و حذف الموصوف أخری. أما حذف الصفة فكقول النبی صلّی اللّه علیه و سلّم: «لا صلاة لجار المسجد إلا فی المسجد». أی لا صلاة تامة أو كاملة. و أما حذف الموصوف فأكثره فی النداء و المصدر .. أما النداء ففی قوله تعالی: یا أَیُّهَا السَّاحِرُ تقدیره یا أیها الرجل الساحر. و كذلك: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تقدیره یا أیها القوم الذین آمنوا. و قوله تعالی: أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تقدیره یا أیها القوم المؤمنون .. و أما المصدر فكقوله تعالی: وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً و قد یجی‌ء فی غیر النداء كما فی قول البحتری:
فی أخضر ماس علی أصفریخال فی صبغته ورس یرید علی فرس أصفر .. الخامس: حذف الشرط تارة، و حذف الجزاء أخری، و إقامة أحدهما مقام الآخر .. أما حذف الشرط فكقوله تعالی: یا عِبادِیَ الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِی واسِعَةٌ أی فإذا كنتم فی أرض لا تتمكنوا فیها من عبادتی فإیای فاعبدون فی غیرها. و قوله تعالی: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِیضاً أَوْ بِهِ أَذیً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْیَةٌ أی فإن لم یحلق فعلیه فدیة .. و أما حذف جزاء الشرط فكقوله تعالی: قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ معناه ان كان القرآن من عند اللّه و كفرتم به أ لستم ظالمین. و یدل علی هذا المحذوف قوله تعالی:
وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها تقدیره و إن منكم و اللّه إلا واردها. و لهذا أشار صلّی اللّه علیه و سلّم بقوله لن یرد النار الّا تحلّة القسم. و منه قوله تعالی: لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ. و قوله تعالی: لَتَرَوُنَّ الْجَحِیمَ و هو فی القرآن العظیم كثیر .. أما حذف جواب القسم فكقوله تعالی: وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّیْلِ إِذا یَسْرِ هَلْ فِی ذلِكَ قَسَمٌ لِذِی حِجْرٍ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 113
معناه و حق هذه لأعبدن هؤلاء. یدلّ علی المحذوف قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ كَیْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. و قوله تعالی: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِیدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَیْ‌ءٌ عَجِیبٌ معنی- ق و القرآن المجید- لتبعثنّ و یدل علی ذلك قوله: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِیدٌ .. السابع: حذف جواب- لو- و هو فی القرآن كثیر ..
من ذلك قوله تعالی: وَ لَوْ تَری إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِیبٍ تقدیره لرأیت أمرا هائلا و نحو ذلك. و كذلك قوله تعالی: لَوْ أَنَّ لِی بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِی إِلی رُكْنٍ شَدِیدٍ تقدیره لمنعتكم و نحو ذلك.
و كذلك قوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ تقدیره لكان هذا القرآن .. الثامن: حذف جواب- لو لا- كقوله تعالی: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِیمٌ تقدیره لما أنزل علیكم ستر هذه الفاحشة. و كذلك قوله تعالی: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ تقدیره لعجل لكم العذاب. و یدل علی المحذوف فی هاتین الآیتین ما تقدمهما .. التاسع: حذف جواب- لمّا- و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِینِ وَ نادَیْناهُ أَنْ یا إِبْراهِیمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیا تقدیره كان ما كان من اغتباطهما بما أنعم اللّه علیهما من دفع ذلك البلاء ..
العاشر: حذف جواب- أمّا- كقوله تعالی: فَأَمَّا الَّذِینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِكُمْ تقدیره فیقال لهم- أكفرتم بعد ایمانكم- .. الحادی عشر: حذف جواب- إذا- كقوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَیْنَ أَیْدِیكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَ ما تَأْتِیهِمْ مِنْ آیَةٍ مِنْ آیاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِینَ تقدیره- و اذا قیل لهم اتقوا ما بین أیدیكم و ما خلفكم لعلكم ترحمون- أعرضوا- و ما تأتیهم من آیة من آیات ربهم إلّا كانوا أیضا عنها معرضین-.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 114
قال المصنف عفا اللّه عنه: هذه الأجوبة المحذوفة بعضها یصلح أن یكون فی باب حذف الجمل، و بعضها یصلح أن یكون فی باب الأفعال، لكن الأئمة أوردوها هكذا فأوردناها كما أوردوها، و المتأمل اللوذعی لا یخفی علیه ذلك .. الثانی عشر: حذف المبتدأ تارة و الخبر أخری .. أما حذف المبتدأ فكقول المستهل- الهلال و اللّه- معناه هذا الهلال- عبد اللّه و رب الكعبة- أی هذا عبد اللّه. و حذف المبتدأ فی القرآن العظیم كثیر. منه قوله تعالی: فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ تقدیره فقالوا- هذا ساحر كذاب- و منه: إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. وَ قالُوا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ .. و أما حذف الخبر فكقول بعضهم: خرجت فاذا السبع- تقدیره قائم أو رابض. و هو فی القرآن كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ طَعامُ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ تقدیره و المحصنات من المؤمنات كذلك و قول اللّه تعالی: فَصَبْرٌ جَمِیلٌ شاهد للوجهین یجوز أن یكون من باب حذف الخبر، و من باب حذف المبتدأ فإن جعلته من حذف المبتدأ كان التقدیر فالأمر، أو فأمری صبر جمیل، و إن جعلته من باب حذف الخبر، یكون التقدیر فصبر جمیل أجمل .. و قد یحذفان جملة و هو قلیل. و منه قوله تعالی: وَ اللَّائِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللَّائِی لَمْ یَحِضْنَ تقدیره و اللائی لم یحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.
و أما الافعال: فحذفها علی قسمین. الأول: ما دل علی حذفه بیان مفعوله، كما فی قوله تعالی: ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْیاها و كقول النبی صلّی اللّه علیه و سلّم لجابر و قد تزوّج- «هلّا بكرا تلاعبها و تلاعبك» أی هلا تزوجت جاریة بكرا. و كذلك قولهم- أهلك و اللیل- أی أدرك أهلك و بادر اللیل. و منه فی القرآن كثیر. الثانی: ما لا یدل علیه مفعوله، و لكن یعرف بالنظر كقوله تعالی: وَ عُرِضُوا عَلی رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 115
و قوله تعالی: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادی كَما خَلَقْناكُمْ معناه فقیل فقد جئتمونا. و كذلك: وَ یَوْمَ یُعْرَضُ الَّذِینَ كَفَرُوا عَلَی النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِكُمْ و كذلك: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ و المراد فأجمعوا أمركم و ادعوا شركاءكم. و كذلك قوله تعالی: فَإِذا لَقِیتُمُ الَّذِینَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أی فاضربوا رقابهم ضربا. و كذلك قوله تعالی:
وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِی بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِی فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْیَوْمَ تقدیره فأتوه به- فلما كلمه- و أما: حذف فعل الأمر: فله مثال واحد كقوله تعالی: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ. و قوله تعالی: أَ فَغَیْرَ اللَّهِ أَبْتَغِی حَكَماً تقدیره قل- أ فغیر اللّه أبتغی حكما- و أما الحروف: أعنی حذف الحروف التی لها معان، و لیست حروف الهجاء التی تكلم النحویون علی اثباتها و حذفها و ابدالها لأنهم أرادوا بذلك تصحیح الألفاظ و ردّها إلی أصولها، و لیس هذا من غرضنا فی هذا الكتاب، إنما غرضنا الحروف التی یفید حذفها و اثباتها معنی لم یكن .. و هی عند علماء البیان علی قسمین. مفردة و مركبة.
فالمفردة: مثل- الواو- التی حذفها مع ما فیه من الایجاز یجعل للكلام بلاغة، و یكون فی معناه أشد، و ذلك لأن إثباتها یقتضی تغایر المعطوف و المعطوف علیه، فإذا حذفت أشعر ذلك بأن الكل كالشی‌ء الواحد. و من ذلك قول أنس بن مالك رضی اللّه عنه- كان أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و سلّم ینامون ثم یصلون لا یتوضئون- اثبات الواو أدل علی عدم الوضوء من قوله- لا یتوضئون-. و من هذا النوع قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا یَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ تقدیره و لا یألونكم خبالا و قد بدت البغضاء .. و قد ثبت الواو فیما من شأنه أن لا یكون فیه واو
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 116
فیكون ذلك أیضا أبلغ و أحسن كما فی قوله تعالی: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْیَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
و أما المركب: فكثیر و هو علی أقسام. الاول حذف- لا- فی قوله تعالی: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ یُوسُفَ تقدیره لا تفتأ تذكر یوسف أی لا تبرح. و منه قوله تعالی: وَ عَلَی الَّذِینَ یُطِیقُونَهُ فِدْیَةٌ طَعامُ مِسْكِینٍ تقدیره و علی الذین لا یطیقونه علی قول بعض المفسرین. و مثله فی القرآن العظیم كثیر. و منه قول امرئ القیس:
فقلت یمین اللّه أبرح قاعداو لو قطعوا رأسی لدیك و أوصالی معناه لا أبرح قاعدا. الثانی: حذف- لو- و هو فی قوله تعالی:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلی بَعْضٍ تقدیره لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق. و قوله تعالی: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِیَمِینِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ معناه لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون.
و من هذا النوع قول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلی‌بنو اللّقیطة من ذهل بن شیبانا
إذا لقام بنصری معشر خشن‌عند الحفیظة إن ذو لوثة لانا تقدیره اذا لو كنت منهم لقام بنصری.
الحذف القبیح: و سبب قبحه إخلاله بالمعنی. قال ابن الاثیر:
و من الحذف أیضا المخل بالمعنی و هو یطلق علی ما یحذف من أصل اللفظ و هو اسقاط بعض حروفه، و لا یجوز استعماله فی القرآن العظیم، و لا فی التألیف، لكنه یجوز فی الشعر، لأن العرب قد أوردته فی أشعارها و استعملته فی كلامها، فحذفت بعض الالفاظ استخفافا حذفا لا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 117
یخل بالباقی و تعرّض بالشبهة. فمنها قول علقمة:
كأنّ ابریقهم ظبی علی شرف مفدّما بسبا الكتّان ملثوم فقوله- بسبا الكتان- یرید بسبائب الكتان. و كذلك قول لبید:
درس المنا بمتالع فأبان أراد المنازل. و علی نحو من هذا جاء قول أبی دؤاد:
یذرین جندل جابر بجنوبهافكأنما تذكی سنابكها الحبا أراد الحباحب- و الحباحب- طائر علی مثال الجندب الصغیر یری منه نور ضعیف لیلا. و هذا و أمثاله قلیل جدا و إیاك أیها المؤلف أن تستعمله فی كلامك و إن كان جائزا و قد ورد فی أشعار العرب مثله.
قال المصنف عفا اللّه عنه: هذا الذی ذكره ابن الاثیر فیه نظر لأنه قد صح عن ابن عباس و جماعة من أكابر الصحابة و السلف الصالح أن هذه الحروف التی فی أوائل السور كل حرف منها دال علی كلمة حذف أكثرها، و دل هذا المنطوق به علی المحذوف.
و قالوا: إن معنی «الم» أنا اللّه الملك. و قالوا فی «كهیعص» أن الكاف من كاف و الهاء من هاد. و استدلوا علی ذلك بأن العرب استغنت بذكر حرف من الكلمة عن ذكرها فی كثیر من كلامها و أشعارها ففهمت المراد من ذلك الحرف. و منه قول الشاعر:
جاریة قد وعدتنی أن تاتدهن رأسی أو تفلی أو تا أراد أن تأتی و تدهن رأسه و تفلی أو تمسح. و قال آخر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 118 نادوهم أن تلجموا الّا تاقالوا جمیعا كلهم الّا فا - و قال آخر:
قلت لها ألا قفی قالت قاف‌لا تحسبن أنا نسینا الإلحاف أی قف أنت. و مثل هذا فی أشعار العرب و كلامهم كثیر و إذا كثر استعماله كان من الكلام الفصیح معدودا و حسن فی التركیب، و كلما بعد غور الكلمة و استعجم معناها كان فهمه بأول وهلة دلیلا علی صحة الأفهام و جودة الغرائز، و سلامة الطباع و حسن موقع اللفظ به.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 119

فصل [من أنواع المحذوف]

و من أنواع المحذوف: أن یكون اللفظ مركبا، و لكن لیس بكلام، و ذلك كقوله تعالی: قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آیَةً لِلنَّاسِ تقدیره و جعلناه لنجعله آیة للناس، فیكون المحذوف هاهنا هو السبب و الدال علیه هو سببه .. و قد یكون بعكس هذا كما فی قوله تعالی: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ تقدیره و اذا أردت قراءة القرآن، فالمحذوف هنا الارادة و هی سبب القراءة، و یجوز أن یكون التقدیر، و إذا قرأت القرآن و حضرك الشیطان، فاستعذ باللّه من الشیطان الرجیم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 120

القسم الثالث و العشرون فی التقدیم و التأخیر. و الكلام علیه من وجوه ثلاثة:

الاول: فی ذكر المعنی الذی أتی به من أجله. الثانی: فی هل هو من المجاز أم لا. الثالث: فی أقسامه.
أما الاول: فإنهم أتوا به دلالة علی تمكنهم فی الفصاحة و ملكتهم للكلام و تلعبهم به و تصرفهم فیه علی حكم ما یختارونه و انقیاده لهم لقوة ملكتهم فیه، و فی معانیه ثقة بصفاء اذهانهم و غرضهم فیه أن یكون اللفظ وجیزا بلیغا، و له فی النفوس حسن موقع و عذوبة مذاق.
و أما الثانی: فقد اختلف أرباب علم البیان فیه .. فقال قوم: هو من المجاز لأن فیه تقدیم ما رتبته التأخیر كالمنقول و تأخیر ما رتبته التقدیم كالفاعل و المفعول به فی نقل كل واحد منهما علی رتبته و حقه .. و قال قوم: لیس هو من المجاز لأن المجاز نقل مما وضع له إلی ما لم یوضع له.
و أما الثالث: فقال علماء هذا الشأن اقسامه أربعة .. و قالوا التقدیم و التأخیر لا یخلو إما أن یكون موجبا لزیادة فی المعنی أو لا یكون كذلك، و إما أن یكون ما قدم الأولی به التقدیم، أو الأولی به التأخیر، أو یتكافأ الأمران فیه .. أما الاول فهو ما یلزم فیه زیادة معنی فلا یخلو إما أن یكون المقصود بتقدیمه زیادة المعنی خاصة كقوله تعالی: إِیَّاكَ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 121
نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ فإنّ المقصود بتقدیم- إیاك- تعظیم اللّه سبحانه و تعالی و الاهتمام بذكره مع إفادة اختصاص العبادة و الاستعانة باللّه تعالی لیصیر الكلام حسنا متناسقا، و لو قال نعبدك و نستعینك لم یكن الكلام متناسبا. و كذلك قوله تعالی: وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ فإن هذا مع افادته إن نظرها لا یكون إلا إلی اللّه تعالی یفید فی جودة انتظام الكلام. و كذلك قوله تعالی: وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلی رَبِّكَ یَوْمَئِذٍ الْمَساقُ. و أما ما یراد بتقدیمه زیادة المعنی فقط. فمنه تقدیم المفعول فی قوله تعالی: قُلْ أَ فَغَیْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّی أَعْبُدُ أَیُّهَا الْجاهِلُونَ و كذلك: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِینَ فإن المراد هاهنا بتقدیم المفعول لتخصیصه بالعبادة، و لو أخره ما أفاد ذلك، فإنه لو قیل:
ضربت زیدا لم یشعر ذلك باختصاص زید بالضرب، و لا كذلك لو قیل زیدا ضربت.
و منه تقدیم الخبر علی المبتدأ كما فی قوله تعالی: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ و لو قال: و ظنوا أن حصونهم من اللّه مانعتهم لما أشعر بزیادة وثوقهم بمنعها ایاهم. و كذلك: أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِی یا إِبْراهِیمُ و لو قال: أ أنت راغب عنها ما أفاد زیادة الإنكار علی إبراهیم بالرغبة عنها. و كذلك: وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِیَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِینَ كَفَرُوا و لم یقل فإذا أبصار الذین كفروا شاخصة و كان یستغنی عن الضمیر لأن هذا لا یفید اختصاص الذین كفروا بالشخوص، و لا اختصاص الذین كفروا بالضمیر.
و كذلك قوله صلّی اللّه علیه و سلّم فی البحر «هو الطّهور ماؤه الحلّ میتته». و كذا تقدیم الظرف فی الهیئات كقوله تعالی: إِنَّ إِلَیْنا إِیابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا حِسابَهُمْ .. و تقدیم الجار و المجرور كقوله تعالی:
لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ فإن هذا یفید اختصاص ذلك باللّه تعالی ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 122
و أما اذا كان الظرف فی النفی فإن تقدیمه یفید تفضیل المنفی عنه كما فی قوله تعالی: لا فِیها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها یُنْزَفُونَ أی لیس فی خمر الجنة ما فی خمر غیرها من الغول. و أما تأخیره فإنما یفید النفی فقط كما فی قوله تعالی: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ و كذلك إذا قلت لا عیب فی الدار كان معناه نفی العیب عن الدار، و إذا قلت لا فی الدار عیب كان معناه انها تفضل علی غیرها بعدم العیب .. و أما الثانی فهو ما لا یلزم تقدیمه زیادة فی المعنی، و مع ذلك یكون تقدیمه أحسن، و هذا إنما یكون كذلك لأمر یتعلق بالمتقدم و المتأخر، أو لأمر خارج عنهما.
و الذی لأمر یتعلق بهما إما أن یكون ذلك بالنسبة إلی شی‌ء خارج عنهما، أو لا یكون كذلك، فالأول كما إذا كان التقدم أدل علی قدرة الخالق من التأخر كقوله تعالی: فَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی رِجْلَیْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی أَرْبَعٍ.
و الثانی: إما أن یكون للمتقدم تأثیر فی وجود المتأخر أو لا یكون كذلك «1». و الثانی كما إذا كان المتقدم أكثر وجوبا كما فی قوله تعالی:
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ و الاول: إما أن یكون المتقدم فی الوجود المتأخر بالذات، أو بالعرض.
أما الذی بالذات فكما فی قوله تعالی: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْیِیَ بِهِ بَلْدَةً مَیْتاً وَ نُسْقِیَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِیَّ كَثِیراً فإنه قدم الإنعام لأن صلاح حالها سبب لصلاح حال الناس. و أما الذی بالعرض فكما فی قوله تعالی: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ فإنه قدم العبادة لأنها وسیلة إلی تحصیل الاستعانة. و أما الذی یكون كذلك لأمر خارج عن المتقدم و المتأخر، فأما أن یكون ذلك لأجل كلام تقدم، أو لا یكون
______________________________
(1) بیاض فی الأصل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 123
كذلك. و الذی لأجل الكلام المتقدم، إما أن یكون لتعلق المذكور، أوّلا به أو لتعلقه هو بالمذكور أوّلا، و الأول كما فی قوله تعالی: وَ ما یَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا فِی السَّماءِ فإنه قدم- الارض- لأن هذا بعد قوله تعالی: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِیضُونَ فِیهِ و هذا الخطاب لأهل الأرض و عملهم یكون فی الأرض. و الثانی إما أن یكون ذلك لما یتعلق بمعنی الكلام الأول، أو بلفظه. و المتعلق بمعناه كما فی قوله تعالی:
فَمِنْهُمْ شَقِیٌّ وَ سَعِیدٌ فإنه قدّم الشقی لأن المراد بهذا و ما قبله التخویف. و المتعلق بلفظه كما فی قوله تعالی: فَأَمَّا الَّذِینَ شَقُوا فَفِی النَّارِ.
ثم قال: وَ أَمَّا الَّذِینَ سُعِدُوا فَفِی الْجَنَّةِ فإن تقدیم حال الاشقیاء هاهنا لاجل تقدیمه أوّلا الشقی. و الذی یكون كذلك لا لأجل المتقدم إما أن یكون لأجل حال فی الكلام نفسه أو لا یكون كذلك.
و الثانی كما فی قوله تعالی: یَهَبُ لِمَنْ یَشاءُ إِناثاً وَ یَهَبُ لِمَنْ یَشاءُ الذُّكُورَ فإن تقدیم الإناث هنا إنما كان لأن المقصود بیان أن الخلق كله بمشیئته سبحانه و تعالی لا علی وفق العباد. و الأول كما إذا كان یتم بذلك السجع، و ذلك كما فی هذه الآیة، و كما فی قوله تعالی:
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِیمَ صَلُّوهُ و لو قال: ثم صلوه الجحیم لأفاد المعنی، و لكن كان یفوت السجع، فلذلك كان الأحسن تقدیم الجحیم. و قیل ان هذه الصورة تفید أیضا الاختصاص كما فی القسم الأوّل .. قال الامام فخر الدین و هو الذی یظهر لی و ان منعه الآخرون، فهذه أسباب عشرة، و قد یجتمع فی شی‌ء واحد عدة منها فیكون تقدیمه أولی، و إذا تعارضت أسباب روعی أقواها، و إن تساوت كان المتكلم بالخیار فی تقدیم أی الامرین معا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 124
و أما الثالث فهو الذی لا یلزم تقدیمه زیادة فی المعنی و یكون الأحسن تأخیره فإذا قدّم كان ذلك مفاضلة معنویة، و ذلك كتقدیم الصفة علی الموصوف، و العلة علی المعلول، و نحو ذلك. و هذا لا یمكن وروده فی القرآن لركته و سماجته مثاله قول الفرزدق:
و ما مثله فی الناس إلا مملّكاأبو أمه حیّ أبوه یقاربه معناه: و ما مثله فی الناس حیّ یقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه.
و قال أیضا:
الی ملك ما أمه من محارب‌أبوه و لا كانت كلیب تصاهره معناه إلی ملك أبوه ما أمه من محارب أی ما أم أبیه منهم. و قال أیضا:
و لیست خراسان الذی كان خالدبها أسد إذ كان سیفا أمیرها معناه لیست خراسان بالبلدة التی كان خالد بها سیفا إذ كان أسد أمیرها. و الغرض مدح خالد و ذم أسد المتولی بعده.
و أما الرابع: فهو ما یتكافأ تقدیمه و تأخیره، و هذا كالحال فإنه یقدّم كقولك- جاء راكبا زید- و یؤخر كقولك- جاء زید راكبا- و هما سواء.
و كذلك المستثنی كقولنا- ما قام إلا زیدا أحد. و ما قام أحد إلا زیدا-، و قد وقع فی الكتاب العزیز آیات فیها تقدیم و تأخیر جاریة علی نمط ما تقدّم. من ذلك قوله تعالی: حَتَّی تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلی أَهْلِها. و قوله تعالی: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ علی قول من قال إن الذكر هاهنا القرآن .. و قال بعض العلماء فی قوله تعالی: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ أن فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 125
الكلام تقدیما و تأخیرا تقدیره، و لقد همت به و لو لا أن رأی برهان ربّه همّ بها و هذا حسن لكن فی تأویله قلق و لا یضطر الی هذا التأویل إلا علی قول من قال ان الانبیاء معصومون من الكبائر و الصغائر.
و أما علی قول من قال: ان الصغائر یجوز وقوعها منهم. فلا یضطر الی هذا التقدیم و التأخیر .. و منه أیضا قوله تعالی: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ. و قوله تعالی: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوی و التقدیر فجعله أحوی غثاء. و منه قول الشاعر:
طاف الخیال و أین منك لمامافارجع لزورك بالسّلام سلاما تقدیره طاف الخیال لماما و أین منك .. و قال الفرزدق:
نفلّق ها من لم تنله سیوفنابأسیافنا هام الملوك القماقم تقدیره نفلق بأسیافنا هام الملوك القماقم، و من لم تنله سیوفنا- و ها- للتنبیه تقدیره تنبهوا لهذا المعنی. و انما دعاه إلی التقدیم و التأخیر إیقاع اللّبس علی السّامع و جعله من باب الألغاز.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 126

القسم الرابع و العشرون فی الجمع بین الحقیقة و المجاز فی لفظة واحدة

و الجمع بینهما عند من رآه مجازا لأنه استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، فإنه وضع للحقیقة وحدها، ثم استعمل فیها و فی المجاز.
و له أمثلة.
أحدها فی قوله تعالی: أُولئِكَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِینَ- و لعنة اللّه- ابعاد- و لعنة الملائكة و الناس- دعاؤهم بالابعاد، و قد جمعهما فی لفظة واحدة، و من لا یری ذلك یقدر أولئك علیهم لعنة اللّه، و لعنة الملائكة فیكون من مجاز الحذف. و الثانی منه قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِ- الصلاة- حقیقة فی الدعاء مجاز فی اجابة الدعاء، لأن الاجابة مسببة عن الدعاء فصلاة الملائكة حقیقة لأنها دعاء، و صلاة اللّه من مجاز التعبیر بلفظ السبب الذی هو الدعاء عن المسبب الذی هو الإجابة، و قد جمع بینهما فی قوله- إن اللّه و ملائكته یصلون علی النبی- فیكون الضمیر فی- یصلون- للّه و الملائكة و جمعه معهم فی الضمیر مستكره فإن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أنكر علی بعض خطباء العرب قوله- و من یعصهما فقد غوی- و قال بئس خطیب القوم أنت. و قد جمع بینهما علیه الصلاة و السلام فی قوله- أن یكون اللّه و رسوله أحب إلیه مما سواهما- و فی قوله علیه الصلاة و السلام- فإن اللّه و رسوله یصدّقانكم و یعذرانكم- و إنما أنكر علی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 127
الأعرابی الجمع لاعتقاده التسویة بینهما و الرسول علیه الصلاة و السلام آمن من ذلك.
و من لا یری الجمع بین الحقیقة و المجاز یقدر ان اللّه یصلی علی النبی و ملائكته یصلون علی النبی فیكون یصلون علی النبی حقیقة فی حق الملائكة، و یكون یصلی المقدرة مجازا فی حق اللّه.
و كذلك القول فی قوله تعالی هُوَ الَّذِی یُصَلِّی عَلَیْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ فی الجمع بین الحقیقة و المجاز و افرادهما. و مثل هذا قوله تعالی:
وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ یُرْضُوهُ لو قال أحق أن یرضوهما لكان جامعا بین اللّه و رسوله فی الضمیر، و بین الحقیقة و المجاز، فإن رضی الرسول علیه الصلاة و السلام حقیقی و رضی اللّه تعالی مجازی. و من لا یری ذلك یقول: و اللّه أحق أن یرضوه و رسوله أحق أن یرضوه كقول الشاعر:
نحن بما عندنا و أنت بماعندك راض و الرّأی مختلف و هذه الأربعة و عشرون قسما التی ذكرناها من أقسام المجاز تحت كل قسم منها أقسام كثیرة یعرف ذلك من تأملها و نظر فیها. و حیث انتهی الكلام فی الفصاحة و البلاغة و الحقیقة و المجاز فلنأخذ فی ذكر ما تضمنه الكتاب العزیز من فنون البلاغة و عیون الفصاحة و ضروب علم البیان و بدائع البدیع و أجناس التجنیس .. و لنبدأ من ذلك فیما یتعلق بالمعانی، ثم نتلوه بما یتعلق بالألفاظ و الاعتماد فی ذلك معونة اللّه تعالی و توفیقه و تیسیره و هدایته إلی الصواب و الارشاد إلی ما یؤدی إلی جزیل الثواب و حسن المآب .. أما ما یختص بالمعانی فینقسم الی أقسام:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 128

[الكلام علی ما یختص بالمعانی و ینقسم الی عدة اقسام]

القسم الأول التناسب. و یسمی التشابه أیضا

و هو ترتیب المعانی المتآخیة التی تتلاءم و لا تتنافر. و القرآن العظیم كله متناسب لا تنافر فیه و لا تباین .. و منه قول النابغة:
الرّفق یمن و الأناة سعادةفاستأن فی رفق تنال نجاحا
و الیأس عما فات یعقب راحةو لربّ مطعمة تعود ذباحا و یسمی التشابه أیضا .. و قیل التشابه أن تكون الألفاظ غیر متباینة، و لكن متقاربة فی الجزالة و المتانة و الدقة و السلاسة، و تكون المعانی مناسبة لألفاظها من غیر أن یكسی اللفظ الشریف المعنی السخیف، أو علی الضد، بل یصاغان معا صیاغة تتناسب و تتلاءم حتی لا یكون الكلام كما قیل:
و بعض قریض القوم أولاد علةیكلّ لسان الناطق المتحفّظ قال المصنف عفا اللّه عنه: المناسبة عند أرباب هذا الشأن علی قسمین: معنویة. و لفظیة. فالمعنویة أن یبتدئ المتكلم بمعنی، ثم یتمم كلامه بما یناسبه فی المعنی دون اللفظ. و منه قوله تعالی: وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِینَ كَفَرُوا بِغَیْظِهِمْ لَمْ یَنالُوا خَیْراً وَ كَفَی اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِیًّا عَزِیزاً أخبر سبحانه فی فاصلة الآیة بأنه قویّ عزیز لیدل علی أن تلك الریح التی أصابت المشركین لیست اتفاقا، و لیست هی من أنواع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 129
السحر، بل هی من ارساله علی أعدائه كعادته و سنته فی أمثاله من نصره لعباده المؤمنین مرّة بالقتال كیوم بدر، و مرّة بالربح كیوم الاحزاب، و مرة بالرعب كبنی النضیر، و أن النصر من عند اللّه لا من عند غیره، و لهذا لم ینصرهم حین خالفوا نبیهم یوم أحد و حین أعجبتهم كثرتهم یوم حنین، و بعد ذلك كانت العاقبة لهم. و قد صرّح سبحانه و تعالی فی قوله: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و قوله تعالی: إِنْ یَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ یَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ و لو اقتصر علی الآیة و لم یذكر فیها- و اللّه قوی عزیز- لخفی هذا المعنی و غمض و التبس الأمر فیه و أشكل .. و أما المناسبة اللفظیة فهی أیضا علی قسمین: تامة و غیر تامة. فالتامة أن تكون الكلمات مع الإبراز مقفّاة و الأخری لیست بمقفاة فالتقفیة غیر لازمة للمناسبة ..
فمن المناسبة التی لیست بمقفاة قوله تعالی: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِیدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَیْ‌ءٌ عَجِیبٌ و ما سوی هذه التامة كقوله سبحانه و تعالی: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما یَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَیْرَ مَمْنُونٍ .. و من التامة فی السنّة قول النبی صلّی اللّه علیه و سلّم ما كان یرقی به الحسن و الحسین علیهما السلام أعیذكما بكلمات اللّه التامة من كل شیطان و هامّة، و من كل عین لامّة، فقال صلّی اللّه علیه و سلّم- لامّة- و لم یقل ملمة. و قوله صلّی اللّه علیه و سلّم- «مرحبا بالوفد غیر خزایا و لا ندامی بحسن المناسبة».
و مثله قوله صلّی اللّه علیه و سلّم-» ارجعن مأزورات غیر مأجورات» و المستعمل- موزورات- لأنه من الوزر غیر مهموز فلفظ به صلّی اللّه علیه و سلّم لمكان المناسبة اللفظیة التامة. و أما ما جاء من السنة الغیر مقفاة فكقوله صلّی اللّه علیه و سلّم: «إن أحبكم إلیّ و أقربكم منّی مجالس یوم القیامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا» فناسب صلّی اللّه علیه و سلّم بین- أخلاق و أكناف- مناسبة ابراز دون تفقیة. و مما جمع بین المناسبتین
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 130
قوله صلّی اللّه علیه و سلّم فی بعض أدعیته: «اللهم إنی أسألك رحمة تهدی بها قلبی. و تجمع بها أمری. و تلم بها شعثی. و تصلح بها غائبی. و ترفع بها شاهدی. و تزكی بها عملی. و تلهمنی بها رشدی.
و تردّ بها الفی. و تعصمنی بها من كل سوء، اللّهم إنی أسألك الفوز فی القضاء. و منزّل الشهداء. و عیش السعداء. و النّصر علی الأعداء» فناسب صلّی اللّه علیه و سلّم بین- قلبی و أمری- مناسبة غیر تامة بالزنة دون التقفیة، ثم ناسب بین- الشهداء و السعداء- مناسبة تامة بالزنة و التقفیة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 131

القسم الثانی التكمیل‌

و هو أن یأتی المتكلم أو الشاعر بمعنی من معانی المدح، أو غیره من فنون النظم و النثر، ثم یری مدحه فیه اقتصاد و قصور عن الغرض و انه یحتاج إلی تكمیل یزیده بیانا و ایضاحا، فیكمله بمعنی آخر. فمن ذلك قوله تعالی: فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَی الْكافِرِینَ فانظر إلی هذه البلاغة فإنه سبحانه و تعالی علم و هو أعلم أنه لو اقتصر علی وصفهم بالذلة علی المؤمنین، و إن كانت صفة مدح إذ وصفهم بالریاضة لإخوانهم المؤمنین و الانقیاد لأمرهم، كان المدح غیر كامل فكمل مدحهم بأن وصفهم بالعزة علی الكافرین، فأتی بوصفهم بالامتناع منهم و الغلبة لهم. و كذلك قوله تعالی: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَی الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ. و مثاله من النظم قول كثیر عزة:
و لو أنّ عزّة خاصمت شمس الضحی‌فی الحسن عند موفق لقضی لها
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 132

القسم الثالث التتمیم‌

و هو أن تردف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس، و تقربه إلی الفهم، و تزیل عنه الوهم و تقرره فی النفس. فمن ذلك قوله تعالی: وَ لا طائِرٍ یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ و قوله تعالی: ثَلاثَةِ أَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ و مثاله فی القرآن كثیر. و مثله قول امرئ القیس:
كأنّ قلوب الطّیر رطبا و یابسالدی و كرها العنّاب و الحشف البالی - و قال آخر:
كأنّ قلوب الطیر حول خبائناو أرحلنا الجزع الذی لم یثقّب تمم المعنی بقوله- الحشف البالی. و الجزع الذی لم یثقب-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 133

القسم الرابع التقسیم‌

و هو آلة الحصر و مظنة الإحاطة بالشی‌ء. مثل قوله تعالی: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی رِجْلَیْنِ إلی قوله: ما یَشاءُ و منه قوله تعالی: لَهُ ما بَیْنَ أَیْدِینا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَیْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِیًّا. و مثله فی القرآن كثیر و خصوصا فی سورة براءة. و مثله فی كلام العرب قول زهیر بن أبی سلمی:
و أعلم ما فی الیوم و الأمس قبله‌و لكننی عن علم ما فی غد عمی و ذكر ابن الأثیر فی جامعه أن أرباب علم البیان لم یریدوا بالتقسیم القسمة العقلیة كما یذهب الیه المتكلمون، فإن القسمة العقلیة تقتضی أشیاء مستحیلة كما قالوا: الجواهر لا یخلو إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة، أو لا مجتمعة و لا مفترقة، أو مجتمعة و مفترقة معا، أو بعضها مجتمع و بعضها مفترق أ لا تری أن هذه القسمة صحیحة من حیث العقل لاستیفاء الأقسام جمیعها، و إن كان من جملتها ما یستحیل وجوده، فإن الشی‌ء لا یكون مجتمعا مفترقا فی حالة واحدة.
و إنما أرادوا بالتقسیم ما یقتضیه المعنی، مما یمكن وجوده و هو أن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 134
یأتی المؤلف الی جمیع أقسام الكلم المحتملة فیستوفیها غیر تارك منها قسما واحدا. فمن ذلك قوله تعالی: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فإنه لا یخلو العالم جمیعه من هذا التقسیم، إما عاص ظالم لنفسه و إما مطیع مبادر إلی الخیرات، و إما مقتصد بینهما، و هذا من أصح التقسیمات و أكملها فاعرفه .. و من هذا المعنی قوله تعالی: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَیْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَیْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الآیة. اعلم أن هذه الآیة مماثلة فی المعنی لما سبق ذكره- و أصحاب المشئمة- هم الظالمون لأنفسهم- و أصحاب المیمنة- هم المقتصدون- و السابقون- هم السابقون بالخیرات. و علی نحو من ذلك جاء قوله تعالی: هُوَ الَّذِی یُرِیكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً أ لا تری إلی براعة هذه القسمة، فإن الناس عند رؤیة البرق بین خائف و طامع، و لیس لهم ثالث.
و كان جماعة من أرباب هذه الصناعة المنتصبین فی صدرها یعجبون بقول بعض العرب فی هذا المعنی و یقولون: إن ذلك من أصح التقسیمات و هو قوله- النعم ثلاث: نعمة فی حال كونها. و نعمة ترجی مستقبلة. و نعمة تأتی غیر محتسبة. فأبقی اللّه علیك ما أنت فیه. و حقق ظنك فیما ترتجیه. و تفضل علیك بما لم تحتسبه- فقالوا: إنه لیس فی أقسام النعم التی یقع الانتفاع بها قسم رابع سوی ما ذكره الأعرابی، و هذا القول فاسد، و هو أن فی أقسام النعم التی قسمها هاهنا نقصا لا بد منه و زیادة لا حاجة إلیها أما النقص فاغفاله ذكر النعمة الماضیة، و أما الزیادة فقوله بعد النعمة المستقبلة التی تأتی غیر محتسبة، و هذا خطأ فإن النعمة التی تأتی غیر محتسبة هی داخلة فی قسم المستقبلة، و ذلك أن النعمة المستقبلة تنقسم الی قسمین: أحدهما یرجی حصوله و یتوقع بلوغه.
و الآخر لا یحتسب و لا یشعر بوجوده. فقوله- و نعمة تأتی غیر محتسبة-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 135
یوهم أن هذا القسم غیر المستقبل و هو داخل فی جملته و لو قال- و نعمة مستقبلة- من غیر أن یقول- و نعمة تأتی غیر محتسبة- لكان قوله كافیا إذ النعمة التی ترتجی و النعمة التی لا تحتسب یدخلان تحت قسم المستقبل، و كان ینبغی أن یقول- النعم ثلاث- نعمة ماضیة. و نعمة حال كونها. و نعمة تأتی مستقبلة. فأحسن اللّه آثار النعمة الماضیة و أبقی علیك النعمة التی أنت فیها و وفر حظك من النعمة التی تستقبلها- أ لا تراه لو قال ذلك لكان قد طبّق به مفصل الخطاب فافهم ما ذكرناه و قس علیه ..
وقف اعرابی علی مجلس الحسن فقال: رحم اللّه من أعطی من سعة. أو آسی من كفاف. أو آثر من قلة فقال الحسن ما ترك لأحد عذرا فانصرف الأعرابی بخیر كثیر .. و من هذا الضرب ما ذكره أبو هلال العسكری فی كتابه و ذلك أنه أخذ علی جمیل قوله:
لو أنّ فی قلبی كقدر قلامةحبا وصلتك أو أتتك رسائلی فقال أبو هلال إن إتیان الرسائل داخل فی جملة الوصل. و لیس الأمر كما وقع له فان جمیلا انما أراد بقوله- وصلتك- أی أتیتك زائرا أو قاصدا أو كنت راسلتك مراسلة و الوصل لا یخرج عن هذین القسمین إما رسالة أو زیارة .. و قال ابن الاثیر و من أعجب ما شاهدته فی هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمی و هو قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر و هجركم قلاو عطفكم صدّ و سلمكم حرب ثم روی المشار الیه عن أبی القاسم الآمدی أنه قال: إن بعض نقدة الكلام من البلغاء لما سمع هذا البیت قال: و اللّه هذا أحسن من تقسیمات اقلیدس. و من العجب كیف ذكر الغانمی ذلك فی كتابه وفاته النظر فیه مع تقدمه فی هذه الصناعة. و أعجب منهما جمیعا استحسان
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 136
ناقد الكلام لهذا التقسیم أ لا تری أن هذا البیت یبنی علیه شی‌ء آخر من جنسه فإنه لو أضیف إلیه بیت غیره فقیل:
و لینكم عنف و قربكم نوی‌و إعطاؤكم منع و صدقكم كذب لجاز ذلك و یحتمل أن یزاد علی هذا البیت بیت آخر ثالث و رابع، و لو كان التقسیم فی البیت الأول صحیحا لما احتمل أن یضاف إلیه شی‌ء آخر البتة، لأن من صحة التقسیم أن لا یحتمل الزیادة .. و من نحو هذا قول بعضهم فی حق مكسورین فی الحرب فمن بین جریح مضرّج بدمائه، و هارب لا یلتفت إلی ورائه، فإن الجریح قد یكون هاربا و الهارب قد یكون جریحا و لو قال- فمن بین قتیل و مأسور و ناج- لصح له التقسیم لأن المكسورین فی الحرب الذین دارت علیهم الدائرة لا یخرجون عن هذه الاقسام الثلاثة، فإما قتیل أو مأسور أو ناج، و أما الجریح فإنه یدخل فی جملة الناجی و المأسور، لأن كلا منهما یجوز أن یكون جریحا و أن لا یكون فاعرف ذلك و قس علیه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 137

القسم الخامس المؤاخاة

و هی علی قسمین: الأول المؤاخاة فی المعانی. الثانی المؤاخاة فی الألفاظ و یكون للكلام بها رونق، لأنّ النفس یعرض لها عند الشعور شی‌ء یطلع إلی مناسبة فلا یرد إلا بعد تشوف، و لا كذلك المباین، فلذلك یقبح ذكر الشی‌ء مع مباینه فی المعنی المذكور فیه. و لذلك قبح قول الكمیت:
أم هل ظعائن بالعلیاء رافعةو قد تكامل منها الدّلّ و الشّنب فإن- الدل و الشنب- لا مناسبة بینهما. و كذلك یقبح الشی‌ء مع مباینه فی البناء. و لذلك قبح قول أبی تمام:
مثقّفات سلبن العرب سمرتهاو الرّوم رقتها و العاشق القصفا و كان ینبغی أن یقول- و العشاق قصفها- لكن منعه الوزن و القافیة فلذلك لا یعاب هذا علی الشاعر كما یعاب علی الناثر إذ المجال للناثر متسع .. و مما استقبح قول أبی نواس:
ألا یا ابن الذین فنوا فماتواأما و اللّه ما ماتوا لتبقی
و ما لك فاعلمن فیها مقام‌اذا استكملت آجالا و رزقا و كان ینبغی أن یقول- و أرزاقا- و اعلم أن استقباح تباین المبانی دون استقباح تباین المعانی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 138
قال المصنف عفا اللّه عنه: التباین فی المبانی لیس بمستقبح و قد ورد فی القرآن العظیم منه كثیر. و من ذلك قوله تعالی: خَتَمَ اللَّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ وَ عَلی سَمْعِهِمْ وَ عَلی أَبْصارِهِمْ. و كذلك قوله تعالی: حَتَّی إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَیْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ الآیة ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 139

القسم السادس الاعتراض و الحشو

و هو أن یدخل فی خلال الكلام كلمة تزید اللفظ تمكنا و تفید معنی آخر مع أن اللفظ یستقل بدونها و یلتئم بغیرها مثل قوله عز و جل:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ. و قوله تعالی: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَیاتِكُمْ عَلَی الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أو لم یردن و لكن أفاد قوله- إن أردن تحصنا- الاعلام بترغیب الشرع فی التحصین و أنه مطلوبه. و منه قوله تعالی: وَ أَدْخِلْ یَدَكَ فِی جَیْبِكَ تَخْرُجْ بَیْضاءَ مِنْ غَیْرِ سُوءٍ.
و قوله تعالی: وَ یَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما یَشْتَهُونَ.
قال المصنف عفا اللّه عنه: قال ابن الاثیر فی كتابه الموسوم بالجامع الكبیر: الاعتراض الصناعی عند ارباب علم البیان علی قسمین: الأول: لا یأتی فی الكلام إلا لفائدة: و هو جار مجری التوكید فی كلام العرب.
و القسم الآخر أن یأتی فی الكلام لغیر فائدة فإما أن یكون دخوله فی التألیف كخروجه منه، و إما أن یؤثر فی التألیف نقصا و فی المعنی فسادا فالأول و هو الذی یأتی فی الكلام لفائدة. فمنه قوله تعالی: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِیمٌ فِی كِتابٍ مَكْنُونٍ هذا كلام فیه اعتراضان أحدهما قوله- و انه لقسم لو تعلمون عظیم- لانه اعترض بین القسم الذی هو- فلا أقسم بمواقع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 140
النجوم- و بین جوابه الذی هو- إنه لقرآن كریم- و فی نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بین الموصوف الذی هو- قسم- و بین صفته التی هی- عظیم- و هو قوله تعالی- لو تعلمون- فذانّك اعتراضان، و لو جاء الكلام غیر معترض فیه لوجب ان یكون فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كریم، و فائدة هذا الاعتراض بین القسم و جوابه إنما هو تعظیم لشأن المقسم به فی نفس السامع. أ لا تری إلی قوله تعالی- لو تعلمون عظیم- كیف هذا الاعتراض بین الصفة و الموصوف و ذلك أوقع فی النفس لتعظیم المقسم به أی انه من عظیم الشأن و فخامة الأمر بحیث لو علم ذلك لوفی حقه من التعظیم .. و من ذلك قوله تعالی: وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إلی: وَ لِوالِدَیْكَ الآیة. أ لا تری إلی هذا الاعتراض الذی طبق مفصل البلاغة فإنه لم یؤت به الّا لفائدة كبیرة، و ذلك أنه لما وصی بالوالدین ذكر ما تكابده الأم من المشاق و المتاعب فی حمل الولد مما لا یتكلفه الوالد. و من ثم قال النبی صلّی اللّه علیه و سلّم للذی سأله فقال: یا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتی؟
قال: «أمك قال ثم من؟ قال: أمّك قال: ثم من؟ قال أمّك قال:
ثمّ من؟ قال: أبوك». و فی روایة أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك .. و مما جاء علی هذا الاسلوب قوله تعالی: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِیها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ إلی قوله: تَعْقِلُونَ فقوله تعالی:- و اللّه مخرج ما كنتم تكتمون- اعتراض بین المعطوف و المعطوف علیه، و فائدته أن یقرر فی انفس المخاطبین و قلوب السامعین أن تدارؤ بنی اسرائیل فی قتل تلك النفس لم یكن نافعا لهم فی اخفائه و كتمانه، لأن اللّه تعالی مظهر لذلك و مخرجه، و لو جاء الكلام خالیا من هذا الاعتراض لكان- و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فیها فقلنا اضربوه ببعضها- و لا یخفی علی العارف بهذه الصناعة الفرق بین ذلك، و بین كونه معترضا فیه .. و من هذا الجنس قول النابغة:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 141 لعمری و ما عمری علیّ بهیّن‌لقد نطقت بطار علیّ الأقارع فقوله- و ما عمری علی بهین- من محموده و نادره لما فیه من تفخیم المقسم به .. و علی نحو من هذا جاء قول كثیر:
لو أنّ الباخلین و أنت منهم‌رأوك تعلّموا منك المطالا فقوله- و أنت منهم- من الاعتراض الذی یؤكد به المعنی المقصود و یزداد به مزیة و نبلا، و فائدته هنا أن التصریح بما هو المراد یثبته فی النفس و یقرره فی الاذهان .. و قال بعضهم لعبد اللّه بن طاهر و هو أحسن ما قیل فی هذا الباب:
إن الثمانین و بلغتهاقد أحوجت سمعی إلی ترجمان و أمثاله كثیرة .. و أما الثانی و هو الذی یأتی فی الكلام لغیر فائدة فهو ضربان. الأول: أن یكون دخوله فی التألیف كخروجه منه لا یؤثر حسنا و لا قبحا .. فمن ذلك قول النابغة:
یقول رجال یجهلون خلیفتی‌لعلّ زیادا لا أبا لك غافل فقوله- لا أبا لك- اعتراض لا فائدة فیه، و لیس مؤثرا فی هذا البیت حسنا و لا قبحا.
الضرب الثانی منه: و هو الذی یكون مؤثرا فی الكلام نقصا و فی المعنی فسادا. و منه قول بعضهم:
فقد و أبیك بیّن لی عشاءبوشك فراقهم صرد یصیح
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 142
فإن فی هذا البیت من ردی‌ء الاعتراض ما اذكره و هو الفصل بین- قد- و الفعل الذی هو- بیّن- و ذلك قبیح لقوة اتصال- قد- بما تدخل علیه من الافعال أ لا تراها تعدّ مع الفعل كالجزء منه، و لذلك دخلت اللام المراد بها توكید الفعل علی- قد- فی قوله تعالی: وَ لَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْكَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِكَ. و فی قوله تعالی: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ .. و قول الشاعر و هو الفراء السلمی:
و قد أجمع رجلیّ بهاحذر الموت و إنی لغرور إلا أنه اذا فصل بین- قد- و الفعل بالقسم فإن ذلك لا بأس به نحو قولك- قد و اللّه كان ذلك. و قد «1» فجاء هذا البیت لا خفاء بقبحه .. و من بدیع الاعتراض قول المتنبی:
و یحتقر الدنیا احتقار مجرّب‌یری أنّ ما فیها و حاشاك فانیا و هذا البیت حشوه یصلح أن یكون من باب الحشو، و یصلح أن یكون من باب الاحتراس.
قال المصنف عفا اللّه عنه: ذكر أسامة فی بدیعه أن الحشو غیر المفید أن تأتی فی الكلام بألفاظ زائدة لیس فیها فائدة مثل قول النابغة:
توهّمت آیات لها فعرفتهالستّة أعوام و ذا العام سابع - و قال آخر:
نأت سلمی فعاودنی‌صداع الرّأس و الوصب فقوله- الرأس- حشو لا فائدة فیه لأن الصداع لا یكون إلا فی
______________________________
(1) بیاض بالاصل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 143
الرأس .. و فی الحماسة:
أنعی فتی لم تذرّ الشمس طالعةیوما من الدهر إلا ضرّ أو نفعا فقوله- طالعة- حشو لا فائدة فیه لأن قولهم ذرّت الشمس أی طلعت.
قال المصنف عفا اللّه عنه: و هذه الكلمات التی ذكرها لیست بزائدة بل لها معان. فقوله- لستة أعوام و ذا العام سابع- فلیس بزائد، و قد ورد مثله فی القرآن و هو قوله تعالی: ثَلاثَةِ أَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ و انما قال ذلك الذی تقدم بیانه فی باب التتمیم و هو رفع اللبس و تقریر المعنی فی النفس. و أما قوله- صداع الرأس- فهو من الإصابة و الشّق و مثل ذلك یتهیأ فی سائر الأعضاء. و أما قوله- تذر الشمس طالعة- فهما و إن كانا بمعنی واحد فالعرب من عادتها ان تكرر لفظین بمعنی واحد للتأكید. كقول الشاعر:
و هند أتی من دونها النأی و البعد و منه قوله تعالی: فَمَهِّلِ الْكافِرِینَ أَمْهِلْهُمْ رُوَیْداً .. و الذی اقتضاه قول أسامة و غیره من العلماء أن الحشو علی قسمین. قبیح و حسن.
فالقبیح ما أشار الیه أسامة. و الحسن ما أشار الیه غیره و اللّه أعلم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 144

القسم السابع الالتفات‌

و هو نقل الكلام من حالة إلی حالة أخری، و أرباب هذا الشأن فیه علی ثلاثة مذاهب: ذهب قوم أنه علی ثلاثة أقسام: الأول: الانتقال من الغیبة إلی الحضور، و من الحضور إلی الغیبة كقوله تعالی: مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ، إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ و عكسه الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ و لم یقل غیر الذین غضبت علیهم.
و كذلك قوله تعالی: سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ. و قوله تعالی: وَ أَوْحی فِی كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ وَ حِفْظاً. و قوله تعالی: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئاً إِدًّا و مثله فی القرآن كثیر، و لا یخلو شی‌ء من ذلك من حكم جزئیة تلیق بذلك الكلام الخاص كما فی هذا الموضع، و أن القول إذا اشتمل علی سوء أدب علی عظیم كان الأولی التعبیر عنه بلفظ الغائب، إذ الإقدام علی ذلك إقدام الحاضر أفحش و أكثر جرأة و الجناب العظیم ینبغی أن یحاشی من ذلك.
یبین ذلك قوله تعالی:- و قالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شیئا إدّا- ثم لما أن أراد توبیخهم علی هذا القول عبّر عنه بالحضور، لأن توبیخ الحاضر أبلغ فی الاهانة .. الثانی: الالتفات من الماضی إلی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 145
المضارع كقوله تعالی: قُلْ أَمَرَ رَبِّی بِالْقِسْطِ وَ أَقِیمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِینَ. و كذلك قوله تعالی: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما یُتْلی عَلَیْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ .. الثالث: الالتفات من الماضی إلی المستقبل و بالعكس: كقوله تعالی: فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّیْرُ أَوْ تَهْوِی بِهِ الرِّیحُ فِی مَكانٍ سَحِیقٍ. وقوله تعالی: وَ اللَّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلی بَلَدٍ مَیِّتٍ فَأَحْیَیْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ. و قوله تعالی: وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ.
و قوله تعالی: وَ یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَی الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. و قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ لَهُ ما فِی السَّماواتِ. و قوله تعالی:
إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ و لا یخلو هذا عن حكمة كما فی هذه الآیة فإن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن یستمر حكمه عبّر عنه بالماضی لیفید ذلك مع كونه باقیا أنه قد مضی علیه زمان، و لا كذلك الصد عن سبیل اللّه، فإن حكمه إنما یثبت حال حصوله نعنی بذلك فهو فی كل وقت كافر ما لم یأت بالایمان، و لا كذلك الصد عن سبیل اللّه، و مع ذلك فإن الفعل المستقبل فیه إشعار بالكثیر فیكون قوله- و یصدون عن سبیل اللّه- مشعرا بأنهم فی كل وقت كذلك. و لا كذلك لو قال و صدوا لأن ذلك یكون مشعرا بأن صدهم قد انقطع.
و ذهب قوم إلی أن الالتفات إذا انقطع الكلام یعقبه بجملة ملاقیة ایاه فی المعنی لیكون تتمیما له علی جهة المثل و الدعاء أو غیرهما كقوله تعالی: وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً و من هذا النوع قول جریر:
مجازیع عند البأس و الحرّ یصبر الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 146
و ذهب قوم إلی أن الالتفات هو أن تذكر معنی فتتوهم أن السامع اعترضه شك فی ذلك أو فی سببه، أو علته فتذكر ما یزیل شكه كقول الاخطل:
تبین صلات الحرب منّا و منهم‌إذا ما التقینا و المسالم یأذن فتبیّن بقوله- و المسالم یأذن- كیفیة ظهور المحارب منه، و الصحیح القول الأول و ما ذكره بعده یجوز أن یكون من أنواع الالتفات .. و من بدیعه قوله تعالی: یُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِی لِذَنْبِكِ خاطب یوسف بأعرض عن هذا و التفت الی زلیخا. و منه أیضا قوله عز و جل حَتَّی إِذا كُنْتُمْ فِی الْفُلْكِ وَ جَرَیْنَ بِهِمْ بِرِیحٍ طَیِّبَةٍ .. و من بدیع ما جاء منه فی النظم قول امرئ القیس:
تطاول لیلك بالأثمدو نام الخلیّ و لم ترقد
و بات و باتت له لیلةكلیلة ذی العائر الأرمد
و ذلك عن خبر جاءنی‌و خبّرته عن أبی الأسود قال المصنف عفا اللّه عنه: ذكر ابن الاثیر فی جامعه أن الالتفات علی ثمانیة أقسام: الاول الرجوع من الغیبة إلی الخطاب كقوله تعالی:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ إلی قوله: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ و انما فعل ذلك لفوائد و هی انه لما ذكر الحقیق بالحمد و أجری علیه تلك الصفات العظام من الربوبیة العامة، و الملك الخاص فعلم المعلّم بمعلوم عظیم الشأن حقیق بالخضوع له و الاستعانة به فی المهمات، فخوطب ذلك المعلوم الموصوف بتلك الصفات فقیل- إیاك نعبد و إیاك نستعین- یا من هذه صفاته.
و الفائدة الأخری أن قوله- إیاك نعبد و إیاك نستعین- لیس العدول فیه اتساعا، و إنما عدل إلیه لأن الحمد دون العبادة فإنك تحمد نظیرك
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 147
و لا تعبده، فلما كان الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغیبة فی الخبر فقال- الحمد للّه- و لم یقل لك و لما صار إلی العبادة التی هی أقصی الطاعات قال- إیاك نعبد- تصریحا بها و تقربا منه عز اسمه بالانتهاء إلی محدوده منها، و علی نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال- صراط الذین أنعمت علیهم- فصرح بالخطاب لما ذكر النعمة ثم قال- غیر المغضوب علیهم- و لم یقل غیر الذین غضبت علیهم، لأن الاول موضع التقرب إلی اللّه بذكر النعمة، فلما صار إلی ذكر الغضب قال- غیر المغضوب علیهم- فجاء باللفظ منحرفا به عن ذكر الغضب فأسند النعمة إلیه لفظا و زوی عنه لفظ الغضب تحننا و لطفا .. و من هذا الجنس قوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَمْ یَتَّخِذْ وَلَداً و شبهه .. الثانی: الرجوع من الخطاب إلی الغیبة كقوله عز و جل: هُوَ الَّذِی یُسَیِّرُكُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّی إِذا كُنْتُمْ فِی الْفُلْكِ وَ جَرَیْنَ بِهِمْ بِرِیحٍ طَیِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها الآیة صرف الكلام هاهنا من خطاب المواجهة إلی الغیبة و انما فعل ذلك و هو أنه ذكر لغیرهم حالهم لیعجبهم منها كالمخبر لهم، و یستدعی منهم الإنكار علیهم و التقبیح لفعلهم و لو قال- حتی اذا كنتم فی الفلك و جرین بكم- و ساق الخطاب إلی آخر الآیة لذهبت تلك الفائدة التی أنتجها خطاب الغیبة .. و من ذلك قوله تعالی: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَیْنَهُمْ الأصل أن یعطف علی الفعل الاوّل الّا أنه صرف الكلام من الخطاب إلی الغیبة علی طریقة الالتفات كأنه ینعی علیهم ما أفسدوه إلی قوم آخرین، و یقبّح علیهم ما فعلوه و یقول:
أ لا ترون إلی عظیم ما ارتكب هؤلاء فی دین اللّه فجعلوا أمر دینهم فیما بینهم قطعا، و ذلك مثل لاختلافهم فیه و تباینهم، ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إلیه یرجعون فهو مجازیهم علی ما فعلوه ..
و مما ینخرط فی هذا السلك أیضا قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْكُمْ جَمِیعاً الَّذِی لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إلی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 148
وَ كَلِماتِهِ الآیة. فإنه انما قال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ حیث قال أولا- إنی رسول اللّه الیكم- لكی تجری علیه الصفات التی أجریت علیه و لیعلم أن الذی وجب الإیمان به و الاتباع له هو هذا الشخص المستقبل بأنه النبی الأمی الذی یؤمن باللّه و كلماته كائنا من كان أنا أو غیری اضطرارا للنصفة و بعدا للتعصب لنفسه فقرر أولا فی صدر الآیة بأنه رسول اللّه إلی الناس و أثبت ذلك فی أنفسهم، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلی الغیبة لغرضین كبیرین قد ذكرتهما. الأول: إجراء تلك الصفات علیه. الثانی: الخروج من تهمة العصبیة لنفسه فافهم ذلك.
الثالث: الرجوع من الفعل المستقبل إلی فعل الأمر فعل ذلك تعظیما لمن أجری علیه الفعل المستقبل و تفخیما لأمره و بالضد من ذلك فی حق من أجری علیه فعل الأمر. فمما جاء من ذلك قوله تعالی: قالُوا یا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَیِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِی آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِینَ إلی قوله: مِمَّا تُشْرِكُونَ الآیة. فإنه انما قال- أشهد اللّه و اشهدوا- و لم یقل و أشهدكم لیكون موازیا له و بمعناه لأن إشهاد اللّه علی البراءة من الشرك صحیح ثابت فی معنی تثبیت التوحید، و شد معاقده و أما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدینهم و دلالة علی قلة المبالات بهم، و لذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بینهما و جی‌ء به علی لفظ الأمر، كما تقول للرجل تهكما به و استهانة- اشهد علیّ أنی أحبك- و أمثال هذا كثیر فاعرفه ..
الرابع: الرجوع من خطاب التثنیة إلی خطاب الجمع، و من خطاب الجمع إلی خطاب الواحد. فمن ذلك قوله تعالی: وَ أَوْحَیْنا إِلی مُوسی وَ أَخِیهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُیُوتاً وَ اجْعَلُوا بُیُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ «1» فإنه توسع فی هذا الخطاب فثنی، ثم جمع،
______________________________
(1) بهامش الاصل ما نصه .. لعله خطاب لهما و لهم كتبه أبو الوفا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 149
ثم وحد فخاطب موسی و هارون فی ذلك علیهما السلام بالتبوء و الاختیار فی ذلك مما یفوّض إلیّ، ثم ساق الخطاب لهما و لقومهما باتخاذ المساجد و إقامة الصلاة، لأن ذلك واجب علی الجمهور، ثم خص موسی صلّی اللّه علیه و سلّم بالبشارة التی هی الغرض تعظیما له و تفخیما لأمره، لأنه الرسول علی الحقیقة .. و من هذا النحو قوله تعالی: حكایة عن حبیب النجار: وَ ما لِیَ لا أَعْبُدُ الَّذِی فَطَرَنِی وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ هذا عدول عن خطاب الواحد إلی خطاب الجماعة، و اتمام الكلام عن خطاب نفسه إلی خطابهم، لأنه أفرد الكلام لهم فی معرض المناصحة لنفسه، و هو یرید مناصحتهم لتلطفه بهم و مداراتهم، فإن ذلك أدخل فی إمحاض النصح حیث لا یرید لهم إلّا ما یرید لنفسه، و قد وضع قوله- و ما لی لا أعبد الذی فطرنی- موضع قوله و ما لكم لا تعبدون الذی فطركم أ لا تری إلی قوله: وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ و لو لا أنه قصد ذلك لقال الذی فطرنی و إلیه أرجع، و قد ساقه ذلك المساق إلی أن قال:
إِنِّی آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ یرید فاسمعوا قولی و أطیعون فقد نبّهتكم علی الصحیح الذی لا معدل عنه لأن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبدؤكم و الیه ترجعون ..
الخامس: الاخبار عن الفعل الماضی بالمضارع، و هو قسم من الالتفات لطیف المأخذ دقیق المغزی.
اعلم: ان الفعل المضارع إذا أتی به فی حالة الاخبار عن وجود كان ذلك أبلغ من الاخبار بالفعل الماضی، و ذلك لأن الفعل المضارع یوضح الحال التی یقع فیها و یستحضر تلك الصورة حتی كأن السامع یسمعها و یشاهدها، و لیس كذلك الفعل الماضی. فمما جاء منه قوله تعالی: وَ اللَّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلی بَلَدٍ مَیِّتٍ فَأَحْیَیْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ فإنه انما قیل- تثیر- مضارعا و ما قبله و ما بعده ماض لذلك المعنی الذی أشرنا إلیه و هو حكایة الحال
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 150
الذی یقع فیها إثارة الریح للسحاب و استحضار تلك الصورة البدیعة الدالة علی القدرة الباهرة، و هكذا یفعلون بكل فعل فیه نوع تمییز و خصوصیة بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غیر ذلك .. و منه قول تأبط شرا:
لقیت الغول تهوی نحو وجهی‌بقفر كالصحیفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت‌صریعا للیدین و للجران لانه قصد أن یصور صورة الحال التی تشجع فیها علی ضرب الغول، كأنه یبصرهم و یطلعهم علی كنهها مشاهدة للتعجب من جرأته علی ذلك الغول و ثباته عند تلك الشدة، و لو قال فضربتها لزالت تلك الفائدة التی ذكرناها و نبهنا علیها .. و من ذلك قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ أ لا تری كیف عدل عن لفظ الماضی هاهنا إلی المضارع فقال- فتصبح الارض مخضرة- و ذلك لافادة بقاء المطر زمانا بعد زمان كما قال- أنعم علیّ فلان عام كذا فأروح و أغدو شاكرا- و لو قال: فرحت و غدوت شاكرا له، لم یقع ذلك الموقع فافهم ما أشرنا الیه ..
السادس: الاخبار بالفعل الماضی عن المضارع، و هو عكس ما تقدم ذكره، و فائدته أن الفعل الماضی اذا أخبر به عن الفعل المضارع الذی لم یوجد كان أبلغ و آكد و أعظم موقعا و أفخم شأنا، لان الفعل الماضی یعطی من المعنی أنه قد كان و وجد و حدث و صار من الأمور و المقطوع بكونها و حدوثها.
و الفرق بینه و بین الإخبار بالفعل المضارع عن الماضی هو أن الفعل الماضی یخبر به عن المضارع إذا كان الفعل المضارع من الأشیاء الهائلة التی لم توجد و الأمور المتعاظمة التی تحدث فیجعل عند ذلك مما قد كان و وجد و وقع الفراغ من كونه و حدوثه. و أما الفعل المضارع إذا أخبر به عن الفعل الماضی فإن الغرض بذلك شیئان هیئة الفعل و استحضار صورته
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 151
لیكون السامع كأنه یعاینها و یشاهدها ..
فمن الاخبار بالفعل الماضی عن المضارع قوله تعالی: وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِینَ فإنه إنما قال- ففزع- بلفظ الماضی بعد قوله- ینفخ- و هو مستقبل للاشعار بتحقق الفزع و ثبوته و أنه كائن لا محالة واقع علی أهل السموات و الأرض، لأن الفعل الماضی یدل علی وجود الفعل و كونه مقطوعا به .. و منه قوله تعالی: وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِیعاً فبرزوا بمعنی یبرزون یوم القیامة و إنما جی‌ء به بلفظ الماضی لأن ما أخبر اللّه به لصدقه و صحته كأنه قد كان و وجد. و مثل ذلك قوله عز و جل: أَتی أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فإن- أتی- هاهنا بمعنی یأتی، و إنما حسن فیه لفظ الماضی لصدق اثبات الأمر، و دخوله فی جملة ما لا بد من حدوثه، و وقوعه فصار یأتی بمنزلة قد أتی و مضی ..
و كذلك قوله تعالی: وَ یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَی الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً فإنه إنما قال- و حشرناهم- ماضیا بعد- نسیر. و تری- و هما مستقبلان للدلالة علی أن حشرهم قبل التسییر و البروز، لیعاینوا تلك الأهوال كأنه قال: و حشرناهم قبل ذلك ..
السابع: الإخبار باسم المفعول عن الفعل المضارع، و إنما فعل ذلك لتضمنه معنی الفعل الماضی، و قد سبق الكلام علیه .. فمن ذلك قوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ یَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ یَوْمٌ مَشْهُودٌ فإنه إنما آثر اسم المفعول هاهنا علی الفعل المضارع لما فیه من الدلالة علی ثبات معنی الجمع، و أنه لا بد من أن یكون میعاد مضروبا لجمع الناس، و أنه الموصوف بهذه الصفة، و إن شئت فوازن بینه و بین قوله تعالی: یَوْمَ یَجْمَعُكُمْ لِیَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ یَوْمُ التَّغابُنِ فإنك تعثر علی صحة ما قلت ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 152
الثامن: عكس الظاهر و هو أن العرب قد توسعوا فی كلامهم و تجوّزوا إلی غایة فیذكرون كلاما یدل ظاهره علی معنی، و هم یریدون به معنی آخر عكسه و خلافه، و الأصل فی ذلك أنك تذكر كلاما یعطی معناه أنه نفی لصفة شی‌ء قد كان، و هو نفی الموصوف أنه ما كان أصلا فمن ذلك قول علیّ رضی اللّه عنه فی وصفه مجلس رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أنه لا تنثی فلتاته أی لا تذاع، فظاهر ذلك أن ثم فلتات غیر أنها لا تذاع، و لیس المراد ذلك، بل المراد أنه لم یكن ثم فلتات أصلا فتذاع، و هذا مثل قول الشاعر:
لا تری الضبّ بها ینجحر
أی لیس بها ضب فینجحر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 153

القسم الثامن الحمل علی المعنی‌

و ذلك كتأنیث المذكر، و تذكیر المؤنث، و تصور معنی الواحد للجماعة، و الجماعة للواحد، و حمل الثانی علی لفظ الأول أصلا، كان ذلك اللفظ أو فرعا أو غیر ذلك. و قد ورد فی القرآن العظیم و فصیح الكلام منثورا و منظوما من ذلك كثیر .. فأما تأنیث المذكر فكقوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِی خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و المراد به آدم علیه السلام و أنّث ردّا إلی النفس و قرئ فی الشواذّ- من نفس واحد-، و منه قوله تعالی: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ و القائل جبریل علیه السلام، و له نظائر كثیرة فی القرآن .. و منه قول الشاعر:
أبوك خلیفة ولدته أخری‌و أنت خلیفة ذاك الكمال - و قال آخر:
طول اللّیالی أسرعت فی نقضی
- و قال آخر:
أ تهجر بیتا بالحجاز تلفّعت‌به الخوف و الأعداء من كلّ جانب - و قال آخر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 154 یا أیها الراكب المزجی مطیّته‌سائل بنی أسد ما هذه الصّوت فإنه ذهب بالصوت إلی الاستغاثة، و ذهب الآخر بالخوف إلی المخافة .. و أما تذكیر المؤنث فقد كثر عن العرب تأنیث فعل المضاف المذكر إذا كانت اضافته إلی مؤنث فكان المضاف بعض المضاف إلیه، أو به، أو منه، و لذلك قرئ قوله تعالی: لا یَنْفَعُ نَفْساً إِیمانُها بالتأنیث فأنث فعل الإیمان إذ كان من النفس و بها. و أمثال هذا كثیر فی القرآن .. و منه قول الشاعر:
لما أتی خبر الزبیر تواضعت‌سور المدینة و الجبال الخشّع - و قول الآخر:
كما شرقت صدر القناة من الدّم الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 155

القسم التاسع الزیادة فی البناء

و هو أن یقصد المتكلم معنی یعبر عنه لفظتان: إحداهما أزید بناء من الأخری فیذكر الكلمة التی تزید حروفها عن الأخری قصدا منه إلی الزیادة فی ذلك المعنی الذی عبر عنه، و لهذا ان اعشوشب و اخشوشن فی المعنی أكثر و أبلغ من خشن و أعشب، و لهذا وقعت الزیادة بالتشدید أیضا فإن ستّار أبلغ من ساتر، و غفّار أبلغ من غافر، و لهذا قال سبحانه و تعالی: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. و منه قوله تعالی: وَ كانَ اللَّهُ عَلی كُلِّ شَیْ‌ءٍ مُقْتَدِراً عدل عن قادر إلی مقتدر لیشعر بالزیادة علی زیادة قدرة اللّه تعالی، و البیان عن عظم شأنه .. و من هذا المعنی قول أبی نواس:
فعفوت عنی عفو مقتدرأحلت له نعم فألغاها و العرب عادتها أن تزید فی بناء الاسم لیشعر بزیادة المعنی الدال علیه ..
قال الزمخشری رحمه اللّه: رأیت أعرابیا بالحجاز یسوق جملا علیه شقذف فقلت ما اسم هذا فقال شقذف ثم مرّ علینا جمل علیه كجاوة فقلت ما اسم هذا فقال شقنذاف فزاد فیه لكون الكجاوة أكبر و أعلی فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 156
القدر و القیمة. و قد رجح بعض أهل المعانی: «الرحمن علی الرحیم» لما فیه من زیادة البناء و هو الألف. و مثل هذا فی كلام العرب كثیر لیس هذا موضع استقصائه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 157

القسم العاشر الإطالة و الإسهاب. و یسمی الإطناب. و الكلام علیهما من وجوه‌

الاول: فی ذكر الغرض الذی أتی بهما من أجله. الثانی فی حقیقتهما و مجازهما. الثالث: فی اختلاف علماء البیان فیهما. الرابع:
فیما یستحسن فیهما و ما یستقبح. الخامس: فی أقسامهما. السادس:
فی الفرق بینهما.
أما الاول: فإن العرب جرت سنتهم علی ذلك فی خطبهم و مخاطباتهم و مفاخراتهم و مقاولاتهم یقصدون بذلك اظهار قدرتهم علی الكلام و توسعهم فی النثر و النظام، فیوجزون تارة و یطیلون أخری، هذا فی الحقیقة، و أما فی المجاز فمرادهم الدلالة علی قوة مشاهدة المعنی المجازی ..
و قال ابن الاثیر: أتی بالإطالة و الإطناب للمبالغة، و المبالغة تنقسم إلی أقسام كثیرة: و قد سبق ذكر شی‌ء منها كالاخبار بالفعل الماضی عن المضارع، و بالمضارع عن الماضی، و من جملة أقسام المبالغة الإطناب و فائدته زیادة التصور للمعنی المقصود، إما حقیقة أو مجازا، و هو علی الحقیقة ضرب من ضروب التأكید.
و أما الثانی: فحقیقة الإطالة الامتداد و الاسترسال و أصله فی الاجرام. و أما الاطناب فحقیقته لغة الزیادة و المبالغة، و أما حقیقته
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 158
الصناعیة فهو زیادة فی اللفظ لتقویة المعنی .. فأما ما جاء من ذلك علی سبیل الحقیقة فقوله تعالی: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ فإن الفائدة فی قوله- فی جوفه- كالفائدة فی قوله- القلوب التی فی الصدور- و ذلك لما یحصل للسامع من زیادة التصور المدلول علیه لأنه اذا سمع صوّر لنفسه جوفا یشتمل علی قلبین، و كان ذلك أسرع إلی الإنكار .. و أما الذی جاء منه علی سبیل المجاز فمنه، قوله تعالی:
فَإِنَّها لا تَعْمَی الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ ففائدة ذكر- الصدور- هاهنا أنه قد یعرف أن العمی علی الحقیقة مكانه البصر و هو مصاب الحدقة بما یطمس نورها و استعماله فی القلب استعارة و مثل فلما أرید اثبات ما هو بخلاف المتعارف من نسبة العمی إلی القلوب حقیقة و نفیه عن الأبصار احتاج هذا الأمر إلی زیادة تصویر و تعریف لیتقرر إن مكان العمی انما هو القلوب لا الأبصار. و هذا نوع من أنواع البیان عظیم اللطائف كثیر المحاسن.
و أما الثالث: فقد اختلف علماء البیان فیهما فقال المحققون، انهما متغایران .. و قال أبو هلال العسكری: الاطالة و الاطناب سواء و هما عنده ضد الایجاز و وافقه جمهور الائمة. و قال أبو هلال أیضا فی كتابه الاطناب فی الكلام انما هو بیان و البیان لا یكون إلا بالاتساع، و أفضل الكلام أبینه، و الایجاز للخواص و الاطناب یشترك فیه الخواص و العوام، و لهذا أطنب فی الكتب السلطانیة لافهام الرعایا. و كما أن الایجاز له مواضع، فكذلك الاطناب له مواضع، و الحاجة إلی الایجاز فی موضعه كالحاجة إلی الاطناب فی موضعه. قال النبی صلّی اللّه علیه و سلّم- «خاطبوا النّاس علی قدر عقولهم»- و من استعمل الایجاز فی موضع الإطناب، و الاطناب فی موضع الایجاز، فقد أخطأ فلا شك أن الكتب الصادرة عن السلطان فی الامور العظیمة فی الفتوح، و تفخیم مواقع النعم المتجددة، أو فی الترغیب فی الطاعة، و التحذیر من العصیان،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 159
و غیر ذلك ینبغی أن تكون مشبعة مستقصاة.
و أما كتاب المهلب إلی الحجاج فی فتح الازارقة و هو- الحمد للّه الذی كفی الاسلام فقد ما سواه و جعل الحمد متصلا بنعمه و قضی أن لا یقطع المزید من فضله حتی ینقطع الشكر من خلقه، ثم إنا و عدوّنا علی حالین مختلفین نری فیهم ما یسرنا أكثر مما یسوؤنا و یرون فینا ما یسوؤهم أكثر مما یسرهم فلم یزل ذلك دأبنا و دأبهم ینصرنا اللّه و یخذلهم و یمحصنا و یمحقهم حتی بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذین ظلموا و الحمد للّه رب العالمین- فإنما حسن هذا الكتاب لكونه فی موضعه.
و أما لو كتب إلی العامة و قد تطلعت نفوسهم إلی معرفة ذلك الفتح العظیم، و تصرفت بهم ظنونهم فی أمره لجاء فی أقبح صورة عندهم و أهجنها.
و اعلم أن الاطناب بلاغة و التطویل عیّ فإن الاطناب بمنزلة سلوك طریق بعیدة تحتوی علی زیادة فائدة بما تأخذ النفس منه من اللذة و التطویل بمنزلة شكوك ما یبعد جهلا بما یفوت، فهذا حكایة كلام أبی هلال العسكری .. و قد ذكر ابن الاثیر فی جامعه علی قول أبی هلال مأخذا فقال أما قول أبی هلال الاطناب فی الكلام إنما هو بیان، فإن البیان فی أصل اللغة هو الظهور و الوضوح فیكون الاطناب علی قوله ظهورا فی الكلام و وضوحا لا غیر، و یلزم علی ذلك أن كل كلام ظاهر واضح إطنابا سواء كان ذلك الكلام ایجازا أو غیره من أصناف علم البیان، و هذا مما لم یذهب الیه أحد لأن أبا هلال قد جعل الاطناب وصفا من الاوصاف التی یشترك فیها جمیع ضروب الكلام، و ذلك أن البیان وصف یعم كل كلام ظاهر واضح من ایجاز أو تطویل أو تكریر أو غیر ذلك، و لیس الأمر كما وقع له بل الاطناب نوع واحد من أنواع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 160
الكلام، فإن أصله فی وضع اللغة من أطنب فی الكلام إذا بالغ فیه كما تقدم.
الرابع: فیما یستحسن فیهما و ما یستقبح. أما الذی یستقبح منهما فهو أن یطنب فیما لا ینبغی فیه الإطناب و یطوّل فیما ینبغی فیه الایجاز أو یطول فیما لیس فی إطالته فائدة و لا فیه زیادة معنی كما روی أن رجلا استدعی لأداء شهادة علی نكاح فقال: أشهد ان لا إلا إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدی و دین الحق لیظهره علی الدین كله و لو كره المشركون و أشهد أنی كنت فی یوم كذا من شهر كذا من سنة كذا فی الدار الفلانیة (و وصفها) من الحارة الفلانیة (و وصفها) و سمی الساكنین بها من البلد الفلانی وقت كذا من النهار، و قد طرق الباب غلام و ذكر جنسه و أوصافه و حكایة تطول جدا .. و هذا النوع من الإطالة لیس فی القرآن العظیم منه شی‌ء.
و أما الذی یستحسن منهما فهو إطالة الكلام و تردیده لتقویة المعنی فی النفس و تعظیمه و البیان قوة الملكة فی التلعّب بالكلام، أو لكون المخاطب لا یصل الكلام الموجز إلی فهمه فهو محتاج الی بسط الكلام و اتساعه حتی یفهم.
الخامس: فی أقسامهما. أما أقسام الاسهاب و الإطناب فقد اختلف فیه علماء علم البیان فقالوا: لا یخلو إما أن یكون فی جملة واحدة أو فی جمل. فأما الذی فی جملة واحدة فعلی قسمین: حقیقة و مجاز. أما الحقیقة فقد یكون معنی اللفظ الزائد هو معنی المذكور، و یكون مغایرا له. أما الأول: فكقوله تعالی: فَإِذا نُفِخَ فِی الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. و كقوله تعالی: أَ فَرَأَیْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّی وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْری و كقوله تعالی:
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 161
و أما الثانی فكقوله تعالی: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ. و كقوله تعالی: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ و كقوله تعالی: فَخَرَّ عَلَیْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ .. و أما المجاز فكقوله تعالی: فَإِنَّها لا تَعْمَی الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ و استعمال هذا مجازا أحسن .. و أما الذی فی الجمل فأقسامه أربعة: الأول أن تذكر أشیاء كل واحد منها یخص بما لولاه لكان المفهوم من الكل واحدا كقول أبی تمام:
من منّة مشهورة و صنیعةبكر و إحسان أغر محجل و لو قال- من منة و صنیعة و احسان- كان المعنی واحدا. و كذلك قوله:
ولیّ سجیّات تضیف ضیوفه‌و یرجی مرجیّه و یسأل سائله و كل هذه دلالة علی زیادة كرمه .. و الثانی: الاثبات و المنفی: و هو أن یذكر الشی‌ء اثباتا و نفیا مع زیادة لولاها لكان ذلك تكرارا و تناقضا كقوله تعالی: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ. و كذلك قوله تعالی: لا یَسْتَأْذِنُكَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ أَنْ یُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ بِالْمُتَّقِینَ مع قوله: إِنَّما یَسْتَأْذِنُكَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِی رَیْبِهِمْ یَتَرَدَّدُونَ .. الثالث: أن تذكر الشی‌ء، ثم تضرب له أمثالا تشتهی كقول البحتری یصف امرأة:
ذات حسن لو استزادت من الحسن إلیه لما أصابت مزیدا فهی كالشمس بهجة و القضیب اللّدن قدّا و الرّیم طرفا و جیدا- و كذلك قوله:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 162 تردّد فی حلّتی سؤددسماحا مرجّا و بأسا مهیبا
و كالسیف إن جئته صارخاو كالبحر إن جئته مستثیبا الرابع: الاستقصاء فی ذكر أوصاف الشی‌ء للمدح، أو الذم و نحوهما.
كقول بعضهم:
لأعلا الوری قدرا و أوفرهم حجی‌و أرشدهم رأیا و أسمحهم یدا و أما الاطالة فهی علی قسمین: حسنة. و قبیحة. كما تقدم .. فأما الحسنة فهی علی قسمین. الأول منها ما یكون بسطا للكلام و اتساعا فیه كما ورد فی القرآن العظیم مثل قصة یوسف علیه الصلاة و السلام بطولها، و قصة أصحاب الكهف بذكر فروعها و أصولها، و قصة الخضر مع موسی علیهما الصلاة و السلام و كثرت فوائد محصولها، و قصة ذی القرنین بطول مقولها، و قصة موسی مع فرعون و كثرة فصولها.
الثانی: أن لا تكون الإطالة بسبب تكرار اللفظ و ها نحن نذكر أقسامه، و نبیّن إن شاء اللّه تعالی.
السادس: فی الفرق بینهما. و الفرق بینهما أن الإطناب علی سائر أحواله بلاغة و التطویل بعضه عیّ و ركاكة .. و قال ابن الأثیر: الاطناب للخواص، و الإطالة للعوام. و هذا یحتاج الی تفصیل و قد تقدم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 163

القسم الحادی عشر التكرار و الكلام فیه من وجوه:

الأول: فی حقیقته. الثانی: فی ذكر الفائدة التی أتی به من أجلها. الثالث: فی أقسامه. الرابع: فی ذكر ما یتهیأ فیه التكرار الحسن منه و القبیح.
أما الأول: فحقیقة التكرار أن یأتی المتكلم بلفظ، ثم یعیده بعینه سواء كان اللفظ متفق المعنی أو مختلفا أو یأتی بمعنی ثم یعیده، و هذا من شرطه اتفاق المعنی الأول، و الثانی: فإن كان متحد الألفاظ و المعانی فالفائدة فی اثباته تأكید ذلك الأمر و تقریره فی النفس، و كذلك اذا كان المعنی متحدا. و إن كان اللفظان متفقان و المعنی مختلف فالفائدة فی الإتیان به الدلالة علی المعنیین المختلفین.
و أما الثالث: فأقسامه ثلاثة: الأول ما یتكرر لفظه و معناه متحد.
الثانی ما یتكرر لفظه و معناه مختلف. الثالث: ما یتكرر معنی لا لفظا.
أما ما یتكرر لفظه و معناه متحد فمنه قوله تعالی: فَقُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ. و كقوله تعالی: أُولئِكَ الَّذِینَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِی أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ كرر- اولئك- و كذلك قوله تعالی: أُولئِكَ عَلی هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و كذلك قوله تعالی: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ یَبْطِشَ بِالَّذِی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 164
هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ یا مُوسی أَ تُرِیدُ أَنْ تَقْتُلَنِی كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِیدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِی الْأَرْضِ، وَ ما تُرِیدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِینَ كرر- أن- فی أربعة مواضع تأكیدا. و كذلك قوله تعالی:
قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّینَ، وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِینَ و مثله فی القرآن كثیر و من هذا النوع قول الشاعر:
ألا یا اسلمی ثم اسلمی ثمّت اسلمی
و الغرض من هذه المبالغة فی الدعاء لها بالسلامة. و قد یكرر القول طلبا لدوام تذكر الارهاب كما كرر فی سورة الرحمن: فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد یكرر اللفظ أیضا لیتصل أول الكلام بآخره اتصالا جیّدا كما فی قوله تعالی: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِیمٌ. و من ذلك الآیة التی قبل هذه الآیة. و من ذلك قوله تعالی: إِنِّی رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَیْتُهُمْ لِی ساجِدِینَ .. و أما ما تكرر لفظه و معناه مختلف فمنه قوله تعالی: وَ یُرِیدُ اللَّهُ أَنْ یُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ یَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِینَ لِیُحِقَّ الْحَقَّ وَ یُبْطِلَ الْباطِلَ فإن المقصود بقوله- یحق الحق- بیان ارادته و بقوله- لیحق الحق- الثانیة لقطع دابر الكافرین و نصر المؤمنین علیهم. و كذلك قوله تعالی: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ معناه لا أعبد فی المستقبل ما تعبدونه أنتم الآن، و لا أنتم تعبدون فی المستقبل ما أنا عابد له، و لا أعبد قط آلهتكم حتی أكون الآن عابدا لما تعبدون، و لا أنتم عبدتم قط إلهی حتی تكونوا له الآن عابدین ..
و من ذلك قوله تعالی: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إلی قوله فی الآیة الأخری
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 165
التی بعدها: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ فكرر- بلغن- لاختلاف البلوغین .. و أما قوله تعالی: وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ثم قال: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِیعاً فقد قیل إنه من باب تكریر اللفظ و المعنی، و قیل هو من باب تكریر اللفظ لا المعنی لاختلاف الهبوطین، فإن الهبوط الأول كان من الجنة الی سماء الدنیا، و الهبوط الثانی كان من سماء الدنیا إلی الأرض، و فی القرآن العظیم من هذین القسمین كثیر .. و أما تكرار المعنی دون اللفظ فهو إما أن یكون بین المعنیین مخالفة ما أو لا یكون كذلك. و الذی یكون بینهما مخالفة، إما أن یكون أحدهما أعمّ أو لا یكون كذلك. فأما ما یكون أحدهما أعمّ فكقوله تعالی: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإن الدعوی إلی الخیر أعم من الأمر بالمعروف و كذلك قوله تعالی: فِیهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ. و كذلك قوله تعالی: حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطی و مثاله فی الشعر كثیر. قال الشاعر:
إذا أكلوا لحمی و فرت لحومهم‌و إن هدموا مجدی بنیت لهم مجدا
و إن ضیّعوا عهدی حفظت عهودهم‌و إن هم هووا عنی هویت لهم رشدا و الغرض بهذا زیادة تأكید الخاص .. و أما الذی لا یكون أحد المعنیین أعم فكقول حاطب بن أبی بلتعة-: و اللّه یا رسول اللّه ما فعلت ذلك كفرا، و لا ارتدادا عن دین و لا رضی بالكفر بعد الاسلام .. و أما الذی لا یكون بین المعنیین مخالفة فكقوله تعالی: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ. و كذلك قوله تعالی: فَصِیامُ ثَلاثَةِ أَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .. و كذلك قول الشاعر:
نزلت علی آل المهلّب شاتیابعیدا عن الأوطان فی زمن المحل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 166 فما زال بی إكرامهم و افتقادهم‌و إحسانهم حتی حسبتهم أهلی هذا ما یكون من التكرار لفائدة .. و قال ابن الاثیر فی جامعه التكرار فی هذا المعنی علی قسمین: مفید. و غیر مفید. فالمفید نوعان: الأول إذا كان التكرار فی المعنی یدل علی معنیین مختلفین كدلالته علی الجنس و العدد، و هو من باب التكریر مشكل لأنه یسبق الی الوهم أنه تكریر محض یدل علی معنی واحد فقط و لیس كذلك .. فمما جاء منه قوله تعالی: وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَیْنِ اثْنَیْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.
أ لا تری أن العرب انما جمعت بین العدد و المعدود فیما وراء الواحد و الاثنین فقالوا: عندی رجال ثلاثة و أفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة علی العدد المخصوص. فأما رجل و رجلان و فرس و فرسان فمعدودات، فالفائدة اذا فی قوله- إلهین اثنین. و إله واحد- هو أن الاسم الحامل لمعنی الافراد و التثنیة یدل علی الجنسیة، و العدد المخصوص، فإذا أریدت الدلالة علی أن المعنی به واحد منهما، و كان الذی یساق إلیه الحدیث هو العدد شفع بما یؤكده، فدل به علی أن القصد إلیه و العنایة به، أ لا تری أنك لو قلت- انما هو إله- و لم تؤكده بواحد لم یحسن، و خیّل أنك تثبت الإلهیة لا الوحدانیة، و هذا باب من باب تكریر المعانی وعر المسلك دقیق المغزی، و به تحلّ مسائل مشكلات من التكریر فاعرفه .. و من هذا النحو إذا كان التكریر فی المعنی یدل علی معنیین أحدهما خاص و الآخر عام، كقوله تعالی:
وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآیة فإن الأمر بالمعروف داخل تحت الدعاء إلی الخیر لأن الأمر بالمعروف خاص و الخیر عام، فكل أمر بالمعروف خیر، و لیس كل خیر أمرا بالمعروف، لأن الخیر أنواع كثیرة من جملتها الأمر بالمعروف.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 167
ففائدة التكریر هاهنا أنه ذكر الخاص هاهنا ذكر العام للتنبیه علیه لفضله كقوله تعالی: حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطی الآیة. و أمثال ذلك كثیرة فاعرفها ..
و النوع الثانی من الضرب الأول من القسم الثانی إذا كان التكریر فی المعنی یدل علی معنی واحد، و قد سبق مثاله فی أول هذا الباب كقولك أطعنی، و لا تعصنی، لأن الأمر بالطاعة نهی عن المعصیة.
و الفائدة فی ذلك تثبیت الطاعة فی نفس المخاطب، و تقریر لها فی قلبه. و الكلام فی هذا الموضع من التكریر كالكلام فی الموضع الذی قبله من تكریر اللفظ و المعنی إذا كان المراد به غرضا واحدا فاعرفه ..
الضرب الثانی من القسم الثانی فی تكریر المعنی دون اللفظ و هو غیر المفید. فمن ذلك قول ابن هانئ المغربی:
سارت به صنع القصائد شرّدافكأنما كانت صبا و قبولا فكأنه قد قال- فكأنما كانت صبا صبا- لأن الصبا هی القبول.
و لیس ذلك مثل التكریر فی قوله تعالی- حافظوا علی الصلوات و الصلاة الوسطی- فیما یرجع إلی تكریر اللفظ و المعنی و لا مثل التكریر فی قوله تعالی- و لتكن منكم أمة یدعون إلی الخیر و یأمرون بالمعروف- فیما یرجع إلی تكریر المعنی دون اللفظ لأن كل واحدة من هاتین الآیتین یشتمل علی معنیین خاص و عام. و قول ابن هانئ- صبا و قبولا- لا یعطی إلا معنی واحدا لا غیر و هذا لا یخفی علی العارف بصناعة التألیف .. و من هذا النحو قول الصابئ فی كتاب- وصل كتابك بعد تأخیر و ابطاء و انتظار له و استبطاء- فإن التأخیر و الاستبطاء بمعنی واحد، و قد یكون لهذا وجه فی التجوز و هو التقریر فی نفس المخاطب لبعد الأمد و تطاول المدة فی انقطاع كتابه عنه و ذلك مما لا بأس به فی هذا الموضع. و أمثال هذا كثیر فاعرفه ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 168
و أما الرابع: فالذی یتهیأ التكرار أسماء. و افعال. و حروف.
و معان. و قد تقدم الكلام علی الأسماء و الأفعال و المعانی .. و أما الحروف فهی علی قسمین: حسنة. و قبیحة .. فأما الحسنة فهی كما التزمه الحریری فی رسالته السینیة و الشینیة كرر السین فی كل كلمة فی السینیة، و الشین فی الشینیة. و كما التزمه الحصری فی أول معشّراته من حروف المعجم. و كما التزمه الفازازی فی عشرینیاته. و انما حسن هذا النوع لأن فیه دلیلا علی قوة الملكة فی الكلام و القدرة علی التلعب بحروفه فی النثر و النظام و هو من باب لزوم ما لا یلزم و سیأتی بیانه ..
و أما القبیحة فكتكرار حروف تكسب الكلام عجرفة و تكسوه قلقا حتی یصعب النطق به و یذهب رونق الكلام بسببه كقول الشاعر:
و قبر حرب بمكان قفرو لیس قرب قبر حرب قبر و أما الخامس: فی الحسن منه و القبیح .. فأما الحسن منه فقد تقدم .. و أما القبیح فهو التكرار العاری عن الفائدة، و هو لا یخلو إما أن یكون فی المعنی وحده أو فی المعنی و اللفظ معا. أما الأول فقد أعابه بعضهم مطلقا و بعضهم فصّل فأعابه علی التأثر و علی الناظم إذا فعله فی صدر البیت، و أما اذا فعله فی عجزه فلیس ذلك بعیب إذ قد یضطر لأجل القافیة و الوزن كقول المتنبی:
بحر تعوّد أن یذمّ لأهله‌من دهره و طوارق الحدثان و الدهر و طوارق الحدثان بمعنی واحد .. و كذلك قیل من قال:
إنی و إن كان ابن عمّی عائبالمصادق من خلفه و ورائه - و أما الثانی فقد اتفق علی قبحه و هو كقول مروان:
سقی اللّه نجدا و السلام علی نجدو یا حبذا نجد علی النأی و البعد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 169 نظرت إلی نجد و بغداد دونهالعلی أری نجدا و هیهات من نجد - و كذلك قول أبی نواس:
أقمنا بها یوما و یوما و ثالثاو یوما له یوم الترحّل خامس - و كذلك قول المتنبی:
و لم أر مثل جیرانی و مثلی‌لمثلی عند مثلهم مقام - و أقبح من ذلك قوله:
و قلقلت بالهمّ الذی قلقل الحشی‌قلاقل عیس كلّهنّ قلاقل - و قال ابن الأثیر قال الواحدی فی شرحه لشعر أبی الطیب المتنبی انه لا یلزمه من هذا عیب، و أنه قد جرت عادة الشعراء بمثل ذلك كقول أبی منصور الثعالبی:
و إذا البلابل أطربت بهدیلهافانف البلابل باحتساء بلابل و الصحیح أنه مستثقل و أخطأ الواحدی فی الاعتذار عنه و فی تمثیله بیت الثعالبی و بیان ذلك أن بیت أبی الطیب قد ورد فیه ذكر القلقلة و القلاقل أربع مرات و هن دلالات علی معنی واحد لا غیر و هو الحركة یقول- و حرّكت بالهمّ الذی حرك الحشی نوقا سراع الحركة كلهن متحركات- و هذا من أقبح ما یكون من التكریر. و أما بیت الثعالبی الذی مثّله الواحدی ببیت أبی الطیب فلیس مثالا لأن لفظه- البلابل- قد وردت فیه ثلاث مرات و كلّ منها دال علی معنی غیر الآخر، فالأول جمع بلبل و هو طائر حسن الصوت و الثانی جمع بلبلة و هی وساوس الصدور، و الثالث جمع بلبلة و هی مخرج الماء من الابریق فهو یقول- و إذا الأطیار من البلابل هدلت و غرّدت فانف البلابل من قلبك باحتساء الخمر من بلابل الأباریق- و هذا من أحسن ما یكون من التجنیس و من هاهنا وقع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 170
السهو للواحدی و هو أن البلابل فی شعر الثعالبی یدل علی معان مختلفة و القلاقل فی شعر أبی الطیب یدل علی معنی واحد فاعرف ذلك، و قس علیه و مثل قول المتنبی فی القبح قوله أیضا:
و لم أر مثل جیرانی و مثلی‌لمثلی عند مثلهم مقام فهذا و مثله هو التكرار الفاحش الذی یؤثر فی الكلام نقصا زائدا، أ لا تری أنه یقول لم أر مثل جیرانی فی سوء الجوار و قلة المراعاة، و لا مثلی فی مصابرتهم و مقامی عندهم، لأنه قد كرّر هذا المعنی فی البیت مرتین.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 171

القسم الثانی عشر القسم‌

و هو أن یقسم فی كلامه بشی‌ء لم یرد به تأكید كلامه و لا تصدیقه، و إنما یرید به بیان شرف المقسم به و علو قدره عنده. و منه قوله تعالی:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. و قوله تعالی: وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ. و قوله تعالی: وَ النَّجْمِ إِذا هَوی. و قوله تعالی: وَ السَّماءِ وَ ما بَناها وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها. و قوله تعالی: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِی سَكْرَتِهِمْ یَعْمَهُونَ أقسم بهذه الأشیاء كلها لعظم خلقها و لشرفها عنده، و أقسم بحیاة نبیه صلّی اللّه علیه و سلّم لیعرف الناس عظمته عنده و مكانته لدیه .. و منه قول الشاعر:
حلفت بمن سوّی السماء و شادهاو من مرج البحرین یلتقیان
و من قام فی المعقول من غیر ریبةبما شئت من إدراك كلّ عیان
لما خلقت كفّاك إلا لاربع‌عقائل لم یعقل لهنّ ثوان
لتقبیل أفواه و إعطاء نائل‌و تقلیب هندیّ و جذب عنان قال المصنف عفا اللّه عنه: القسم فی القرآن العظیم علی قسمین: مظهر. و مضمر. فالمظهر كما تقدم. و المضمر علی قسمین دلت لام القسم علی حذفه كما فی قوله تعالی: لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ. و فی قوله تعالی: لَتَرَوُنَّ الْجَحِیمَ. و القسم الثانی ما
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 172
دلّ علیه المعنی فی مثل قوله تعالی: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلی رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِیًّا تقدیره و اللّه إن منكم إلا واردها یدل علی ذلك قوله صلّی اللّه علیه و سلّم- لن تمسه النار إلا تحلة القسم- و له فی القرآن نظائر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 173

القسم الثالث عشر الاقتباس. و یسمی التضمین‌

و هو أن یأخذ المتكلم كلاما من كلام غیره یدرجه فی لفظه لتأكید المعنی الذی أتی به، أو ترتیب فإن كان كلاما كثیرا أو بیتا من الشعر فهو تضمین، و إن كان كلاما قلیلا أو نصف بیت فهو إیداع. و علی هذا الحد لیس فی القرآن من هذا النوع شی‌ء إلا ما أودع فیه من حكایات أقوال المخلوقین مثل قوله تعالی حكایة عن قول الملائكة: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِكُ الدِّماءَ. و مثل ما حكاه سبحانه من قول المنافقین: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. و قولهم: قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. و قوله سبحانه و تعالی حكایة عن قول الیهود و النصاری: وَ قالَتِ الْیَهُودُ لَیْسَتِ النَّصاری عَلی شَیْ‌ءٍ وَ قالَتِ النَّصاری لَیْسَتِ الْیَهُودُ عَلی شَیْ‌ءٍ و مثله فی القرآن كثیر، و كذلك ما أودع فی القرآن من اللغات الأعجمیة مثل قوله تعالی: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ و هی لغة للحطب بالحبشیة- و- كالقسطاس- و هو المیزان باللغة الرومیة- و الفردوس- و هو البستان- و القنطار- و هو اثنا عشر ألف أوقیة. و من اللغة المنسیة: الكف. و الساق. و الفراش و الوزیر. و القاضی. و الوكیل. و الشراب. و الحلال.
و الحرام. و الحسد. و الصواب. و البركة. و الخطأ. و الوسوسة.
و الكساد. و النطیحة. و الحط. و القلم. و اللهو. و الكرسی. و القفا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 174
و الركاب. و الغاشیة. و المشرق. و المغرب. و اللطیف- و من اللغة الفارسیة المحكیة: الابریق. و السندس. و الیاقوت. و الزنجبیل.
و المسك. و الكافور-.
و هذه الكلمات كلها حكاها الثعالبی فی فقه اللغة و هی عند المحققین مختلف فیها فمنهم من قال انها أعجمیة عربت، و منهم من أنكر ذلك و قال: لیس فی القرآن لفظ أعجمی لقوله تعالی: بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ و هذه الألفاظ إنما هی عربیة أصلیة وافقت اللغة الاعجمیة و الرومیة. و انما الذی ورد فی القرآن بعض آیات و كلمات من التوراة و غیرها من كلام اللّه عز و جل فأشبه التضمین و الایداع. من ذلك قوله تعالی: وَ كَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. و منها قوله تعالی فیما حكاه من صفة النبی صلّی اللّه علیه و سلّم و أصحابه و ذلك قوله تعالی:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إلی قوله ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِی الْإِنْجِیلِ فضمن كتابنا صفتهم من الكتابین الأولین .. و أما التضمین فی الشعر فلا یخلو إما أن یكون البیت المضمن مشهورا أو غیر مشهور، فإن كان مشهورا لم یحتج الی تنبیه علیه أنه من كلام غیره لأن شهرته تغنی عن ذلك، و إن كان غیر مشهور فلا بد من تنبیه علی أنه لیس من شعره مثل قول الشاعر:
ما علی طیب لیال سلفت‌من لیالی الوصل لو عادت لنا نبه علیه فی البیت الذی قبله بقوله:
فأنا من فرط و جدی منشدبیت شعر قاله من قبلنا و كذلك إذا كان المضمن نصف بیت كقول ابن اللبانة الأندلسی فی بیت من قصیدة له:
حبیب إلی قلبی حبیب لقوله‌عسی وطن یدنو بهم و لعلّما
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 175
- و من التضمین المشهور قول ابن عنین یصف بغلة له:
مرّت علی علف فنامت فوقه‌جوعا و قالت و المدامع تسجم
وقف الهوی بی حیث أنت فلیس لی‌متأخر عنه و لا متقدّم - و مثله قول آخر:
إنّ برذونی المدقع باللصقات «1» فی لوعة یكابدها
رأی بغال الامیر عابرةبالتبن یوما فظلّ ینشدها
قفا قلیلا بها علیّ فلاأقل من نظرة أزوّدها و قد وقع التضمین فی الشعر فی بیت كما ذكرناه و فی بیتین. و منه ما قیل فی الحیص بیص حین قتل جریّا و هو سكران فأخذ بعض الشعراء كلبة و علق فی حلقها قصة و أطلقها عند باب الوزیر فأخذت القصة من حلق الكلبة و أدخلت علی الوزیر فاذا فیها مكتوب هذه الأبیات:
یا أهل بغداد إنّ الحیص بیص أتی‌بخزیة ألبسته العار فی البلد
أبدی شجاعته باللیل مجترئاعلی جری ضعیف البطش و الجلد فأنشدت أمّه من بعد ما احتسبت دم الأبیلق عند الواحد الصمد
أقول للنفس تأساء و تعزیةإحدی یدیّ أصابتنی و لم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه‌هذا أخی حین أدعوه و ذا ولدی و هذان البیتان البیت الأخیر و الذی قبله لامرأة من العرب قتل أخوها ابنا لها فقالت ذلك تسلیة لنفسها و تثبیتا لقلبها .. و أما أنصاف الأبیات و الكلمات فكثیر جدا .. فمن ذلك قول ابن المعتز:
عوّذ لمّا بتّ ضیفا له‌اقراصه منّی بیاسین
______________________________
(1) هكذا فی الاصل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 176 فبتّ و الأرض فراشی و قدغنّت قفا نبك مصارینی - و منه قول الضحاك:
وقفت علی باب الأمیر كأننی‌قفا نبك من ذكری حبیب و منزل - و قد أودعت جماعة من الشعراء و جلّة من الكتّاب الفضلاء فی أشعارهم و رسائلهم و أنواع فصاحتهم التی هی من جملة وسائلهم آیات من كتاب اللّه تعالی و سموه اقتباسا من القرآن، و هذا مما قد نهی عنه جلة العلماء و أفاضل الفقهاء الأتقیاء، و كرهوا أن یضمن كلام اللّه تعالی شیئا من ذلك، أو یستشهد به فی واقعة من الوقائع كقولهم لمن جاء وقت حاجتهم الیه- ثم جئت علی قدر یا موسی- و أشباه ذلك لأن ذلك كله صرف لكلام اللّه عن وجهه و خروج له عن المعنی الذی أرید به ..
فمن التضمین المنهی عنه قول عبد اللّه بن طاهر لابن السّدّی حین ملك مصر و قد ورد رسوله و هدیته إلیه- لو قبلت هدیتك نهارا لقبلتها لیلا، بل أنتم بهدیتكم تفرحون- و قال لرسوله- ارجع الیهم فلنأتینهم بجنود لا قبل لهم بها، و لنخرجنّهم منها أذلّة و هم صاغرون.
- و أوحش من ذلك و أعظم منه فی الشعر قول الشاعر:
یستوجب العفو الفتی إذا اعترف‌بما جناه و انتهی عما اقترف
لقوله قل للذین كفرواإن ینتهوا یغفر لهم ما قد سلف - و قول الآخر:
قمت لیل الصدود إلّا قلیلاثم رتلت ذكرهم ترتیلا
و جعلت السهاد كحلا لعینی‌و هجرت الرقاد هجرا جمیلا
كلّما ضمنا محلّ عتاب‌أخذتنا العیون أخذا وبیلا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 177
ضمن هذه القصیدة آخر كل آیة من سورة المزمل .. هذا و ما أشبهه مما یعدونه من الفصاحة و البلاغة و هو مما ینبغی أن تعاف النفوس مساغه و هو مندرج فی التحریم لما فیه من عدم الاجلال لكلام اللّه عز و جل و التعظیم، و كیف یلیق أن یجزع بین المحدث و القدیم، و قد رخص بعض أهل العلم فی تضمین بعض آیات القرآن فی خطبهم و مواعظهم و أكثر ما استعمل ذلك الشیخ ابن نباتة و ابن الجوزی، و قد استعمله كثیر من الناس.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 178

القسم الرابع عشر التذییل و الكلام علیه من وجوه‌

الأول: فی حده، و المعنی الذی أتی به من أجله. الثانی: فی اشتقاقه. الثالث: فی أقسامه.
أما الأول: فقال علماء علم البیان انه تذییل المتكلم كلامه بحرف أو جملة یحقق بها ما قبلها من الكلام، و تلك الجملة علی قسمین:
قسم لا یزید علی المعنی الاول و إنما یؤتی به للتأكید و التحقیق. و قسم یخرجه المتكلم مخرج المثل السائر لیحقق به ما قبله. مثال ما جاء من الكتاب العزیز متضمنا للقسمین معا قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ففی الآیة الكریمة تذییلان. أحدهما قوله تعالی- وعدا علیه حقا- فإن الكلام تم قبل ذلك ثم أتی سبحانه و تعالی بتلك الجملة لیحقق بها ما قبلها. و الآخر قوله سبحانه- و من أوفی بعهده من اللّه- فأخرج هذا مخرج المثل السائر لیحقق ما تقدم و هو تذییل ثان للتذییل الاول، و منه قوله عز و جل: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِیلًا. و كقوله تعالی: ذلِكَ جَزَیْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِی إِلَّا الْكَفُورَ و مثله فی القرآن كثیر. و مثال ما جاء منه من السنة قول النبی صلّی اللّه علیه و سلّم- «من همّ بحسنة و لم یعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 179
عشرا، و من همّ بسیئة و لم یعملها لم تكتب علیه، فإن عملها كتبت علیه سیئة واحدة و لا یهلك علی اللّه إلّا هالك»- فقوله و لا یهلك علی اللّه الا هالك تذییل فی غایة الحسن أخرج الكلام فیه مخرج المثل .. و مثال ما جاء من ذلك فی الشعر قول النابغة:
و لست بمستبق أخا لا تلمّه‌علی شعث أیّ الرجال المهذّب فقوله- أی الرجال المهذب- من أحسن تذییل وقع فی شعر ..
و منه قول الحطیئة:
نزور فتی یعطی علی المدح ماله‌و من یعط أثمان المحامد یحمد فإن عجز البیت كله تذییل أخرج مخرج المثل، لأن صدر البیت كله قد استقل بالمعنی .. و أما الحروف فستأتی أمثلته فی الكلام علی أقسامه إن شاء اللّه تعالی.
و أما الثانی: فإن التذییل مصدر ذیل الشی‌ء یذیله تذییلا إذا جعل له ذیلا مأخوذ من ذیل المرأة و هو ما یفضل عن قامتها و یزید علیها فیبقی مجرورا علی الأرض. قال الشاعر:
كتب القتل علینا و علی الغانیات جرّ الذیول- و فی الحدیث أنه صلّی اللّه علیه و سلّم سئل عن ذیل المرأة فقال:
«یطهره ما بعده» فكأنه شبه هذه الجملة لزیادتها، و كون المعنی یتم بدونها بالزائد من ذیل المرأة الذی ینجر علی الارض.
و أما الثالث: فالتذییل علی ثلاثة أقسام، قد تقدم منها قسمان، و الثالث هو أن تزید إحدی الكلمتین علی الأخری بحرف فقط، إما من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 180
آخرها و إما من أولها. فمثال الزائد فی آخر الكلمة قولهم: فلان حام حامل لاعباء الأمور كاف كافل بمصالح الجمهور. و كقول أبی تمام:
یمدّون من أید عواص عواصم‌تصول بأسیاف قواض قواضب - و مثال الزائد فی أولها قوله تعالی: وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلی رَبِّكَ یَوْمَئِذٍ الْمَساقُ و منه قول الشاعر:
و كم سبقت منه إلیّ عوارف‌ثنائی علی تلك العوارف وارف «1»
و كم غرر من بره و لطائف‌لشكری علی تلك اللطائف طائف
______________________________
(1) فی هامش الاصل .. أی ممتد یقال ورف الظل إذا امتد.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 181

القسم الخامس عشر المغالطة. و الكلام علیه من وجوه‌

الاول: فی حقیقتها. الثانی: فی اشتقاقها. الثالث: فی أقسامها.
أما الاول: فقال علماء علم البیان أن المغالطة ذكر الشی‌ء، و ما یتوهم مقابلا له، و لیس كذلك.
و أما الثانی: فاشتقاقه من الغلط، و هو من باب المفاعلة من واحد مثل: طارقت النعل، و عاقبت اللص لأن فاعله یذكر شیئا یوقع به غیره فی الغلط، و یوهم ما لیس هو المراد، و هو المشار الیه فی الحدیث المروی نهی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم عن الغلوطات و هی شرار المسائل.
و أما أقسامها، فأربعة، الأول أن یذكر الشی‌ء و ما یتوهم مقابلا له، و یسمی مغالطة النقیض و هو مثل قول الشاعر:
و ما أشیاء نشریها بمال‌و إن نفقت فأكسد ما تكون أوهم بنفقت النفاق السوقی، و هو رواج السلعة و مراده الموت یقال: نفقت الدابة، إذا ماتت. و قد ورد منه عن العرب كثیر. من ذلك ما روی أن حیّین من العرب اقتتلا فقتل من كل حی قتلی و أسر
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 182
أسری، فقال أحد الحیین لأسیر عندهم أرسل إلی قومك رسولا یقول لهم لیكرموا أسیرنا، فإننا لك مكرمون، فقال: ائتونی برسول منكم أرسله الیهم فجاءوا برجل فسأله عن أشیاء فقال ما أراك إلّا عاقلا أبلغ قومی السلام، و قل لهم لیكرموا فلانا فإن قومه لی مكرمون، و قال له: و قل لهم یخلوا عن ناقتی الحمراء و یركبوا جملی الأصهب بآیة ما أكلت معكم حیسا، و سلوا الحارث عن خبری فلما بلغهم الرسالة حلوا وثاق ذلك الرجل، و قالوا: و اللّه ما له ناقة حمراء و لا جمل أصهب، فلما انصرف الرسول استدعوا الحارث و قصوا علیه ما قال فقال: أشار بقوله حلوا عن ناقتی الحمراء و اركبوا جملی الاصهب ارتحلوا عن هذه الارض الدهناء و اصعدوا الجبل، و أشار بقوله بآیة ما أكلت معكم حیسا إلی أن أخلاطا من الناس اتفقوا علی أن یغیروا علی حیكم لیلا، فإن الحیس یجمع السمن و التمر و الأقط فارتحلوا عن تلك الأرض و صعدوا الجبل فأغار علیهم أعداؤهم فلم یجدوهم فی المكان الذی كانوا فیه فسلموا من اغتیال عدوهم لهم. و قد نظم هذا المعنی بعض الشعراء فقال:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم‌و البازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إنّ الذئاب قد اخضرّت براثنهاو النّاس كلهم بكر اذا شبعوا و مثل هذا عن العرب كثیر .. الثانی أن یذكر مع الشی‌ء مثله، و یسمی مغالطة المثل كقول المتنبی:
یشلّهم بكلّ أقبّ نهدلفارسه علی الخیل الخیار
و كلّ أصمّ یعسل جانباه‌علی الكعبین منه دم ممار
یغادر كلّ ملتفت الیه‌و لبّته لثعلبه و جار - و الثعلب- الحیوان و طرف السنان- و الوجار- بیت ذلك الحیوان ..
و كقول الشاعر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 183 برغم شبیب فارق السیف كفّه‌و كانا علی العلّات یضطجعان
كأنّ رقاب الناس قالت لسیفه‌رفیقك قیسیّ و أنت یمانی - فالسیف- یقال له یمان إذا كان صارما- و شبیب- من قیس و كان بین قیس و یمن محاربة .. و منه أیضا:
و خلطتم بعض القرآن ببعضه‌فجعلتم الشعراء فی الأنعام - فالشعراء- جمع شاعر و اسم سورة- و الأنعام- الابل و البقر و الغنم و اسم سورة أیضا، و سبب حسن هذا الفن ما یحصل للنفس من الالتذاذ بفهم ما فیه غموض و الأول أحسن لزیادة غموضه .. الثالث من المغالطات الألغاز. و اللغز الطریق المنحرف و سمی به هذا لانحرافه عن نمط الكلام، و یسمی أیضا أحجیّة لأن الحجی هو العقل و هذا النمط یقوی العقل عند التمرن و الارتیاض بالاكثار من حله، و إعمال الفكر فیه، و یسمی أیضا المعمّی لما فیه من الخفاء. و من النوع فی أشعار العرب و المخضرمین و الاسلامیین و هو فی أشعار المتأخرین منهم أكثر .. و منه فی القرآن العزیز ما جاء فی أوائل السور من الحروف المفردة و المركبة التی دقّ معناها و بعد غور مغزاها و حارت العقول فی معانیها. و منها قوله تعالی فی قصة إبراهیم علیه السلام حین سئل لما كسّر الأصنام و قیل له:
أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِیرُهُمْ هذا قابلهم بهذه المغالطة لیقیم علیهم الحجة و یوضح لهم المحجة .. و من ذلك قوله تعالی حكایة عن النمرود لما جادل إبراهیم علیه الصلاة و السلام حین قال إبراهیم: رَبِّیَ الَّذِی یُحْیِی وَ یُمِیتُ قالَ أَنَا أُحْیِی وَ أُمِیتُ حكی أنه أتی باثنین فقتل أحدهما و أرسل الآخر، و كان ذلك من النمرود مغالطة لابراهیم علیه الصلاة و السلام لأن إبراهیم علیه السلام أراد إنّ اللّه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 184
یحیی المیت و یمیت الحی بغیر آلة لا یحیی و یمیت كذلك الّا هو .. و منه قول أبی بكر الصدیق رضی اللّه عنه لما سئل عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم حین خرجا من مكة أعزها اللّه تعالی فقال: إنه رجل یهدینی الطریق .. و منه قول إبراهیم علیه الصلاة و السلام لما سأله الجبار عن زوجته سارة قال هی أختی أراد أخوة الدین، و مثله كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 185

القسم السادس عشر الاشارة. و تسمی الوحی أیضا. و الكلام علیها من وجوه‌

الاول: فی حدها. الثانی: فی أقسامها. الثالث: فی الفرق بینها و بین الكنایة.
أما الاول: فقد قال علماء البیان الاشارة أن تطلق لفظا جلیا ترید به معنی خفیا، و ذلك من ملح الكلام، و جواهر النثر و النظام. و منه قوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ أشار بذلك إلی بر الوالدین و ترك التعرض الیهما بیسیر من الإیلام فضلا عن كثیره. و منه قوله تعالی:
فِیهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إشارة إلی عفافهن. و منه قوله تعالی:
وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ اشار إلی نساء كرام. و من هذا النوع فلان طویل النجاد رفیع العماد كثیر الرماد إشارة بقوله- طویل النجاد- إلی تمام خلقته و بقوله- رفیع العماد- إلی أن بیته مرتفع یعرفه الاضیاف و الطرّاق و بقوله- كثیر الرماد- إلی كثرة قراه الاضیاف .. و یقولون أیضا فلان جبان الكلب مهزول الفصیل أشاروا بقولهم- جبان الكلب- الی أنه لكثرة طراقه أنست كلابه الطراق و صارت تلوی رقابها و تحرك أذنابها فرحا بهم و أشاروا بقولهم- مهزول الفصیل- إلی كثرة سقیه الألبان و مداومة حلب مواشیه، فتقل بذلك ألبانها فیهزل الفصیل بسبب ذلك. الاشارات فی القرآن كثیرة خصوصا علی ما یراه أرباب الحقائق، و بعض أرباب هذه الصناعة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 186
یسمی هذا النوع الایماء.
- و منه قول الشاعر:
بعیدة مهوی القرط إما لنهشل‌أبوها و إما عبد شمس و هاشم أشار بقوله- بعیدة مهوی القرط- إلی طول عنقها .. و منه قول امرئ القیس:
كأنّ المدام و صوب الغمام‌و ریح الخزامی و نشر العطر
یعلّ به برد أنیابهاإذا غرّد الطائر المستجر أشار إلی طیب رائحة فیها وقت السحر، و هو وقت تغیر الأفواه.
و أما الثانی: فأقسامها أربعة. الأول ما قدمناه. و الثانی أن یكون اللفظ القلیل مشتملا علی المعنی الكبیر. و منه قوله تعالی: فِیها ما تَشْتَهِیهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْیُنُ جمع ما تمیل إلیه النفوس من الشهوات و تلذه الأعین من المرئیات. و منه قوله تعالی: فَأَوْحی إِلی عَبْدِهِ ما أَوْحی. و الثالث من أنواع الاشارة عمل أرباب هذه الصناعة المعمیات و الالغاز و قد تقدم بیانهما. الرابع من أقسامها التوریة، و هی أن تكون الكلمة تحتمل معنیین فیستعمل المتكلم أحد احتمالیها و یهمل الآخر، و مراده ما أهمله لا ما استعمله، و لهذا مواضع نبینها و أملتها فیه إن شاء اللّه تعالی.
و أما الثالث: فالفرق بینها و بین الكنایة أن الاشارة فی الحسن و الكنایة فی القبیح، و سیأتی بیانه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 187

القسم السابع عشر فی الكنایة. و الكلام علیها من وجوه‌

الاول: فی حدها. الثانی: فی المعنی الذی أتی بها من أجله.
الثالث: فی أقسامها.
أما الاول: فقد قال علماء علم البیان إن الكنایة هی اطلاق لفظ حسن یشیر إلی معنی قبیح كقوله تعالی: وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أراد بالارض الثانیة نساءهم اللاتی كن محل وطئهم وجهة استمتاعهم .. و منه قوله تعالی: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ یَأْكُلُ الطَّعامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْواقِ یریدون أنه یتغوّط فكنوا عن التغوّط بأكل الطعام لأنه سببه .. و منه قوله تعالی: أُحِلَّ لَكُمْ لَیْلَةَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلی نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ كنی بالرفث عن الحدیث فی الجماع و باللباس عن الوطء نفسه .. و منه قوله تعالی:
وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أی هیأناها للولادة بعد الكبر. و منه قوله تعالی:
وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ أی حاضت .. قال بعض المتأخرین من الحذاق فی هذا الفن الكنایة فی اللغة الستر، و فی الصناعة أن تقصد مجازا بعیدا مناسبا للحقیقة مع ضمنه أی ارادتها و اذا استعمل اللفظ فی ذلك كان ضربا من الاستعارة و تقع الكنایة فی المفرد و المؤلف و سیأتی بیانه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 188
و أما الثانی: فالمعنی الذی أتی بها من أجله هو الإجمال فی الخطاب و الدفع بالتی هی أحسن و التجنب للهجر من القول إذا هو أرسخ فی الالفة و أمكن. قال اللّه تعالی: ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَكَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ.
و أما الثالث: فقد اختلفت عبارات أهل هذه الصناعة فیها و آثرها ما ذكره ابن الاثیر فی جامعه قال: إن الكنایة علی قسمین: قسم یحسن استعماله. و قسم لا یحسن استعماله. فأما الضرب الأول و هو الذی یحسن استعماله فینقسم إلی أربعة أقسام: الأول: التمثیل و هو التشبیه علی سبیل الكنایة، و ذلك أن تراد الاشارة إلی معنی فتوضع ألفاظ علی معنی آخر، و تكون تلك لألفاظ، و ذلك المعنی مثالا للمعنی الذی قصدت الاشارة إلیه، و العبارة عنه كقولنا- فلان نقی الثوب- أی منزّه عن العیوب، و للكلام بهذا فائدة لا تكون لو قصد المعنی بلفظه الخاص به، و ذلك لما یحصل للسامع من زیادة التصویر المدلول علیه، لأنه إذا صور فی نفسه مثال ما خوطب به كان ذلك أسرع إلی الرغبة فیه أو الرغبة عنه. فمن بدیع التمثیل قوله تعالی: أَ یُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ یَأْكُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فانه مثل الاغتیاب یأكل الانسان لحم انسان آخر مثله، ثم لم یقتصر علی ذلك حتی جعله لحم لأخ، و لم یقتصر علی لحم الاخ حتی جعله میتا ثم جعل ما هو فی الغایة من الكراهة موصولا بالمحبة، فهذه أربع دلالات واقعة علی ما قصدت له مناسبة مطابقة للمعنی الذی وردت لأجله.
فأما تمثیل الاغتیاب بأكل لحم انسان آخر مثله، فشدید المناسبة جدا، و ذلك لأن الاغتیاب إنما هو ذكر مثالب الناس و تمزیق أعراضهم، و تمزیق العرض مماثل لأكل الانسان لحم من یغتابه لأن أكل اللحم فیه تمزیق لا محالة، و أما قوله لحم أخیه، فلما فی الاغتیاب من الكراهة، لأن أرباب العقل و الشرع قد أجمعوا علی استكراهه و أمروا بتركه و البعد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 189
عنه. و لما كان كذلك كان بمنزلة لحم الأخ فی كراهته، و من المعلوم أن لحم الانسان مستكره عند انسان آخر مثله، الّا أنه لا یكون مثل كراهة لحم أخیه، و هذا القول مبالغة فی الاستكراه لا أمد فوقها.
و أما قوله- میتا- فلأجل ان المغتاب لا یشعر بغیبته و لا یحس بها .. و أما جعله ما هو فی الغایة من الكراهة. موصولا بالمحبة فلما جبلت علیه النفوس من المیل إلی الغیبة و الشهوة لها مع العلم بأنها من أذم الحلال، و مكروه الافعال عند اللّه عز و جل و الناس.
و من هذا القسم قوله تعالی: وَ لا تَجْعَلْ یَدَكَ مَغْلُولَةً إِلی عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فمثل البخل بأحسن تمثیل لأن البخیل لا یمد یده بالعطیة كالمغلول الذی لا یستطیع أن یمد یده و إنما قال- و لا تجعل یدك مغلولة إلی عنقك- و لم یقل و لا تجعل یدك مغلولة من غیر ذكر العنق لأنه قد قال تعالی- و لا تبسطها كل البسط- فناب ذكر العنق عن قوله كل الغل، لأن غل الیدین إلی العنق هی اقصی الغایات التی جرت العادة بغل الید إلیها .. و من امثال العرب- ایاك و عقیلة الملح- و ذلك تمثیل للمرأة الحسناء فی المنبت السوء لأن عقیلة الملح هی الذرة ..
و من التمثیل قول ابن الدّمینة:
أبینی أ فی یمنی یدیك تركتنی‌فأفرح أم صیرتنی فی شمالكی أی ابینی أ منزلتی كریمة عندك أم هینة علیك فذكر الیمین و جعلها مثالا لإكرام المنزلة، و ذكر الشمال و جعلها مثالا لهوان المنزلة، لأن الیمین اشرف مكانة من الشمال و أكرم محلا، و فی القرآن العظیم ما یدل علی ذلك و هو قوله تعالی: وَ أَصْحابُ الْیَمِینِ ما أَصْحابُ الْیَمِینِ فِی سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلی قوله: وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ فلما جاء إلی ذكر الشمال قال تعالی: وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِی سَمُومٍ وَ حَمِیمٍ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 190
وَ ظِلٍّ مِنْ یَحْمُومٍ فاعرف ذلك.
الثانی: الارداف و هو اسم سماه قدامة بن جعفر الكاتب قال: اعلم أن أكثر علماء هذه الصناعة قد أدخلوا الأرداف فی التمثیل، و فی الفرق بینهما اشكال و دقة فأما التمثیل فقد سبق الاعلام به، و هو أن یراد الإشارة إلی معنی فتوضع الالفاظ علی معنی آخر فتكون تلك الالفاظ، و ذلك المعنی مثالا للمعنی الذی قصدت الإشارة الیه، و العبارة عنه كقولنا- فلان نقی الثوب- أی منزه عن العیوب. و أما الأرداف فهو أن یراد الاشارة إلی معنی فیترك اللفظ الدال علیه، و یؤتی بما هو دلیل علیه و رادف له كقولنا- فلان طویل النجاد- و المراد طویل القامة إلّا أنه لم یتلفظه بطول القامة الذی هو الغرض، و لكن ذكر ما هو دلیل علی طول القامة، و لیس نقاء الثوب بدلیل علی النزاهة عن العیوب و إنما هو تمثیل لها فاعرف ذلك.
و اعلم أن الأرداف یتفرع إلی خمسة فروع .. الأول: فعل البداهة كقوله تعالی: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری عَلَی اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أی انه سفیه الرأی بمعنی أنه لم یتوقف فی كلامه وقت ما سمعه، و لم یفعل كما تفعل المراجیح العقول المتثبتون فی الاشیاء، فإن من سفاهتهم إذا ورد علیهم أمر أو سمعوا خبرا أن لا یستعملوا فیه الرویة و تأنوا فی تدبره إلی أن یصح لهم صدقه أو كذبه. أ لا تری أن معنی قوله- كذّب بالحق لما جاءه- أی انه ضعیف العقل عازب الرأی فعدل عن ذلك الی ما هو دلیل علیه و رادف له و ذلك آكد و أبلغ.
و من ذلك قوله تعالی: وَ إِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُنا بَیِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ یُرِیدُ أَنْ یَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ یَعْبُدُ آباؤُكُمْ و مثله فی القرآن كثیر.
الثانی: من الأرداف باب المثل و هو ان العرب تأتی بمثل فی هذا توكیدا للكلام و تشییدا من أمره یقول الرجل إذا نفی عن نفسه القبح-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 191
مثلی لا یفعل هذا- أی أنا لا أفعله فنفی ذلك عن مثله و هو یرید نفیه عن نفسه قصدا للمبالغة فیسلك به طرق الكنایة لأنه إذا نفاه عن مثله و مشابهه فقد نفاه عنه لا محالة. كذلك قولهم أیضا- مثلك إذا سئل أعطی- أی أنت كذلك. و هو كثیر فی الشعر القدیم و المولد و فی الكلام المنثور .. و سبب توكید هذه المواضع بمثل انه یراد أن یجعل نفسه من جماعة هذه أوصافهم تثبیتا للامر و توكیدا له و لو كان فیه وحده لقلق منه موضعه و لم ترثب فیه قدمه. مثل ذلك قولهم لانسان- أنت من القوم الكرام- أی لك فی هذا الفعل سابقة و أنت حقیق به و لست دخیلا فیه ..
و من هذا الباب فی القرآن كثیر كقوله تعالی: لَیْسَ كَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ و هذا كقولك- مثلی لا یفعل كذا- فینفون البخل عن مثله و هم یریدون نفیه عن ذلك قصدا للمبالغة لأنهم إذا نفوه عن من یسد مسدّه و هو علی أخص أوصافه فقد نفوه عنه. و نظیر ذلك قولك للعربی- العرب لا تخفر الذمم- و هذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمم، و لیس فرق بین قوله تعالی: لَیْسَ كَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ و بین قوله لیس كاللّه شی‌ء إلا من الجهة التی نبهنا علیها فاعرفها ..
الثالث: من الأرداف ما یأتی فی جواب الشرط، و ذلك من ألطف الكنایات و احسنها. فمن ذلك قوله تعالی: وَ قالَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِیمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِی كِتابِ اللَّهِ إِلی یَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا یَوْمُ الْبَعْثِ كنایة عن بطلان قولهم و كذبهم فیما ادعوه و ذلك رادف له. و نظیره قولك:
كنت تنكر حضور زید فها هو أی فأنت كاذب، و هذا من دقائق الكنایة ..
الرابع: من الأرداف الاستثناء من غیر موجب و ذلك من غرائب الكنایة كقوله تعالی: لَیْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِیعٍ الآیة.-
و الضریع- نبت ذو شوك تسمیه قریش الشبرق فی حال خضرته و طراوته فإذا یبس سمته الضریع، و الإبل ترعاه طریا و لا تقربه یابسا. و المعنی لیس
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 192
لهم طعام أصلا لأن الضریع لیس بطعام للبهائم فضلا عن الانس، و هذا مثل قولك- لیس لفلان ظل الّا الشمس- ترید بذلك نفی الظل عنه علی التوكید، و ذلك رادف لانتفاء الظل عنه كما ذكر الضریع رادف لانتفاء الطعام .. و علی نحو من هذا جاء قول بعضهم:
و تفرّدوا بالمكرمات فلم یكن‌لسواهم منها سوی الحرمان فالمراد نفی المكرمات عن سواهم لأنهم إذا كان لهم الحرمان من المكرمات، فما لهم منها شی‌ء ..
الخامس: من الارداف و لیس مما تقدم بشی‌ء، و ذلك نحو قوله تعالی: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ و المراد به اذا خوطب بمثل هذا غیر النبی صلّی اللّه علیه و سلّم أنك أخطأت و بئس ما فعلت فقوله- لم أذنت لهم- بیان لما كنی عنه بالعفو أی مالك أذنت لهم و هلا استأنیت فذكر العفو دلیل، و رادف له و ان لم یذكر. و كذلك قوله تعالی: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِینَ قیل لهم ان استندتم إلی العجز فاتركوا العناد فوضع قوله- فاتقوا النار- موضعه لأن اتقاء النار لصیقة و ضمیمة من حیث أنه من نتائجه و روادفه، لأن من اتقی النار ترك المعاندة. و نظیره أن یقول الملك لحشمه- إن أردتم الكرامة عندی فاحذروا سخطی- یرید فأطیعونی و أطیعوا أمری و احذروا ما هو نتیجة حذر السخط و روادفه ..
و من هذا الباب قوله تعالی: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أ لا تری إلی لطافة هذه الكنایة فإنها أفادت تكذیب دعواهم و دفع ما انتحلوه و فائدتها هاهنا أنه روعی فی تكذیبهم أدب حسن لم یصرح بلفظه، فلم یقل كذبتم لأن فیه نوع استقباح فی الخطاب فوضع قوله- قل لم تؤمنوا- الذی هو نفی ما ادعوا اثباته موضعه لأن ذلك رادف له .. و مما یجری هذا المجری قوله تعالی: قالَ الْمَلَأُ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 193
الَّذِینَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ أثبت العلم بارساله و انه من الأمور الظاهرة المسلمة التی لا یدخلها ریب، و لا یعتریها شك، لكن عدل عن ذلك إلی ما هو دلیل علیه، و رادف له و هو الایمان به أعنی صالحا إنما صح عنهم بعد ثبوته عندهم، و العلم بإرساله إلیهم فالإیمان به أدنی دلیل علی العلم بأنه نبی مرسل، و هذا من دقائق الأرداف و لطائفه. و أمثال ذلك كثیرة كقول الاعرابیة فی حدیث أم زرع تصف زوجها له إبل قلیلات المسارح كثیرات المبارك، إذا سمعن صوت المزاهر أیقنّ أنهنّ هوالك .. فإن الظاهر من هذا القول أن إبله یبركن عند بیته بفنائه، و لا تبرح لیقرب علیه نحرها للأضیاف فاذا هزت المزاهر للغناء نحرها لضیوفه، فقد اعتادت هذه الحالة و أیقنتها و غرض الأعرابیة من هذا الكلام أن تصف زوجها بالجود و الكرم، و لكنها لم تذكر ذلك بلفظه الدال علیه، و إنما أتت بمعان دلت علی ذلك من غیر تصریح بمرادها .. و كذلك قال بعضهم:
وددت و ما تغنی الودادة أننی‌بما فی ضمیر الحاجریّة عالم
فإن كان خیرا سرّنی و علمته‌و إن كان شرّا لم تلمنی اللوائم أی أهجرها فأضرب عن ذلك جانبا، و لم یذكر ذلك اللفظ المختص به، لكنه ذكر ما هو دلیل علیه و رادف له .. الثالث من الكنایة و هو المجاورة، و ذلك أن یرید المؤلف ذكر شی‌ء فیترك ذكره جانبا إلی ما جاوره فیقتصر علیه اكتفاء بدلالته علی المعنی المقصود كقول عنترة:
فشككت بالرمح الأصمّ ثیابه‌لیس الكریم علی القنا بمحرّم أراد- بالثیاب- هنا نفسه لأنه وصف المشكوك بالكرم، و لا توصف
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 194
الثیاب به فثبت حینئذ أنه أراد ما تشتمل علیه الثیاب، و فی ذلك من الحسن ما لا ینكره العارف بهذه الصناعة و قال أیضا:
بزجاجة صفراء ذات أشعةقرنت بأزهر فی الشمال مفدّم - الصفراء- هاهنا هی الخمرة، و الذكر للزجاجة حیث هی مجاورة لها و مشتملة علیها. و ذهب بعض المفسرین فی قوله تعالی: وَ ثِیابَكَ فَطَهِّرْ انه أراد بالثیاب القلب أو الجسد أی و قلبك فطهر أو جسدك ..
و منه قول امرئ القیس:
فإن تك قد ساءتك منی خلیقةفسلی ثیابی من ثیابك تنسلی الرابع: من الكنایة ما لیس بتمثیل و لا ارداف و لا مجاورة كقوله تعالی: أَ وَ مَنْ یُنَشَّؤُا فِی الْحِلْیَةِ وَ هُوَ فِی الْخِصامِ غَیْرُ مُبِینٍ فكنی بأنهم یتزینون فی الحلیة أی الزینة و النعمة و هو اذا احتاج إلی مجاراة الخصوم كان- غیر مبین- أی لیس عنده بیان و لا برهان یحاج به من خاصمه، و ذلك لضعف عقول النساء و نقصانهن عن فطرة الرجال ..
و من هذا الباب قال أبی نواس:
تقول التی من بیتها خفّ محملی‌عزیز علینا أن نراك تسیر أ لا تری ما أحسن هذه الكنایة فإنه أضرب عن ذكر امرأته بقوله- من بیتها خف مركبی- فإنه من ألطف الكنایة مذهبا .. و كذلك قول نصیب:
فعاجوا فأثنوا بالذی أنت أهله‌و لو سكتوا أثنت علیك الحقائب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 195
و قال الجاحظ نحن قوم نسحر بالبیان و نموه بالقول .. الثانی من التقسیم الأول من الكنایة و هو الذی یقبح ذكره، و لا یحسن استعماله كقول أبی الطیب المتنبی:
إنی علی شغفی بما فی خمرهالأعفّ عمّا فی سراویلاتها فإنّ هذه كنایة عن النزاهة و العفة و علم اللّه أن الفجور لا حسن منها .. و قد ذكر الشریف الرضی هذا المعنی فأبرزه فی أجمل صورة فقال:
أحنّ إلی ما یضمن الخمر و الحلی‌و أصدف عما فی ضمان المآزر أ لا تری إلی هذه الكنایة ما الطفها و المعنیان سواء. و بهذا یعرف فضل الشاعرین أحدهما علی الآخر، و ذلك إذا أخذا معنی واحدا فصاغه أحدهما أحسن صیاغة تمیزه عن صیاغة الآخر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 196

القسم الثامن عشر التعریض‌

و قد اختلف فیه مذاهب بعض علماء هذا الشأن، فذهب بعضهم إلی أن الكنایة و التعریض بمعنی واحد و بعضهم فرق بینهما .. قال ابن الاثیر فی جامعه فی الكنایة و التعریض إن لهذا النوع من الكلام موقعا شریفا و محلا كریما و هو مقصور علی المیل مع المعنی و ترك اللفظ جانبا، و ذلك نوع من علم البیان لطیف، و قد تكلم جماعة من المؤلفین فی هذا الفن و خلطوا الكنایة بالتعریض و لم یفرقوا بینهما، بل أوردوا لهما من النظم و النثر و أدخلوا أحد القسمین بالآخر و ذكروا للكنایة أمثلة من التعریض، و للتعریض أمثلة من الكنایة فمنهم أبو محمد بن سنان الخفاجی و أبو هلال العسكری و الغانمی، فأما ابن سنان فإنه ذكر فی كتابه قول امرئ القیس:
و صرنا الی الحسنی و رقّ كلامناو رضت فذلت صعبة أیّ إذلال و هذا مثال ضربه للكنایة عن المباضعة، و هو مثال للتعریض.
و سنورد لك أیها الناظر فی كتابنا هذا فرقا بین الكنایة و التعریض، و نمیز أحدهما عن الآخر فنقول و باللّه التوفیق: إن الكنایة هی أن یذكر الشی‌ء بغیر لفظه الموضوع له كما كنی اللّه عز و جل عن الجماع بالمس فإن حقیقة المس هی الملامسة یقال مسست الشی‌ء اذا لمسته و لما كان
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 197
الجماع ملامسة بالابدان و زیادة أمر آخر أطلق علیه اسم المس مجازا و ضد الكنایة التصریح. و أما التعریض فهو أن یذكر شیئا یدل به علی شی‌ء لم یذكره و أصله التلویح عن عرض الشی‌ء و هو جانبه و بیت امرئ القیس ضربه مثالا للكنایة، و هو عین التعریض فان غرضه من ذلك أن یذكر الجماع غیر أنه لما استقبح ذكره لم یذكره، بل ذكر كلاما آخر و دل به علیه، لأن المصیر إلی الحسنی ورقة الكلام یفهم منها ما أراده امرؤ القیس من المعنی و ذلك مما لا خفاء به، و حیث تبین الفرق نشرع فی أقسام كل واحد من الكنایة و التعریض فنقول .. إن الكنایة هی علی قسمین. أحدهما ما یحسن استعماله و هو الذی نحن بصدد ذكره هاهنا و الآخر ما لا یحسن استعماله و قد تقدم بیانهما. و أما التعریض فقد میزه اللّه تعالی فی خطبة النساء فقال جل من قائل: وَ لا جُناحَ عَلَیْكُمْ فِیما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ قال المفسرون التعریض بالخطبة أن یقول لها و هی فی عدّة الوفاة انك لجمیلة و أنك لحسنة، و إنی إلیك لشیق، و إن قدر اللّه شیئا فهو یكون، و ما أشبه ذلك. و مما هو من التعریض قوله حكایة عن عبدة الأصنام حین كسرها إبراهیم علیه السلام: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا یَنْطِقُونَ یعنی أن كبیر الاصنام غضب ان تعبد هذه الاصنام الصغار معه فكسرها، فغرض إبراهیم صلوات اللّه علیه و سلامه من هذا الكلام إقامة الحجة علیهم، لأنه قال- فسألوهم إن كانوا ینطقون- هذا علی سبیل الاستهزاء بهم. و هذا من رموز الكلام و القصد فیه أن إبراهیم علیه السلام لم یكن القصد الصادر عنه إلی الصنم إنما قصد تقریره لنفسه و اثباته لها علی أنه أسلوب من الفصاحة آخر یقتضی أن یبلغ فیه غرضه من إلزام الحجة علیهم و تبكیتهم و الاستهزاء بهم، و من بدیع التعریض قوله تعالی: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا إلی قوله: بَلْ نَظُنُّكُمْ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 198
كاذِبِینَ فقوله- ما نراك إلا بشرا مثلنا- تعریض أنهم أحق بالنبوة منه و أن اللّه لو أراد أن یجعلها فی أحد من البشر لجعلها فیهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملائكة و موازن لهم فی المنزلة فما جعلك أحق منهم بها، أ لا تری إلی قوله تعالی حكایة عنهم- و ما نری لكم علینا من فضل-. و من مشكلات التعریض حدیث عمر بن عبد العزیز رضی اللّه عنه قال: حكت المرأة الصالحة خولة بنت حكیم امرأة عثمان بن مظعون أن النبی صلی اللّه علیه و سلم خرج ذات یوم و هو محتضن أحدا بنی ابنته و هو یقول: «و اللّه إنّكم، لتجبنون و تبخلون و تجهلون و إنّكم لمن ریحان اللّه و إنّ آخر وطئة وطئها اللّه بوج».
اعلم أن- وج- واد بالطائف، و المراد غزاة حنین، واد قبل وج، لأنها آخر غزاة وقع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم علی المشركین، و أما غزوتا الطائف و تبوك اللتان كانتا بعد حنین، فلم یكن فیهما وطأة ای قتال، و إنما كانتا مجرد مخروج إلی الغزاة حسب من غیر ملاقاة العدو أعنی، و لا قتال لهم، و وجه عطف هذا الكلام و هو قوله- و ان آخر وطأة وطئها اللّه بوج- علی ما قبله من الحدیث و هو التأسف علی مفارقة أولاده لقرب وفاته لأن غزوة حنین كانت فی شوال سنة ثمان، و وفاته كانت فی ربیع الاول من سنة احدی عشرة و بینهما سنتان و نصف، و كأنه قال- و إنكم من ریحان اللّه- أی من رزق اللّه، و أنا مفارقكم عن قریب إلا انه صانع عن قوله و أنا مفارقكم عن قریب بقوله- و ان آخر وطأة وطئها اللّه بوج- فكان ذلك تعریضا لما أراده و قصده من قرب وفاته و مفارقته إیاهم یعنی أولاده، و هذا من أغرب التعریضات و أعجبها. و من هذا الباب قول الشمیدر الحارثی:
بنی عمنا لا تذكروا الشعر بعد مادفنتم بصحراء الغمیر القوافیا فإن لیس قصده الشعر، بل قصده ما جری بینهم بهذا الموضع من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 199
الغلبة لهم و القوة علیهم إلا انه لم یذكر ذلك، بل ذكر الشعر و دفنه تعریضا أی لا تفخرون بعد ذلك الواقعة التی جرت لنا و لكم بذلك المكان. و من أحسن التعریضات ما كتبه عمرو بن سعد إلی المأمون فی حق بعض أصحابه: أما بعد فقد استشفع فلان إلی أمیر المؤمنین لیتطول فی إلحاقه بنظرائه من الخاصة، فأعلمته أن أمیر المؤمنین لم یجعلنی فی مراتب المستشفعین و فی ابتدائه بذلك بعد عن طاعته، فوقع المأمون فی كتابه قد عرفنا نصیحتك له و تعریضك لنفسك و أجبناك الیهما.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 200

القسم التاسع عشر الاستطراد

و هو التعریض بعیب انسان بذكر عیب غیره لمتعلق أو نفی عیب عن نفسه بذكر عیب غیره، مثل قوله تعالی: وَ سَكَنْتُمْ فِی مَساكِنِ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَیَّنَ لَكُمْ كَیْفَ فَعَلْنا بِهِمْ. و مثل قوله تعالی:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ. و مثل قوله تعالی: أَلا بُعْداً لِمَدْیَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ و مثل هذا فی القرآن كثیر .. و منه فی الشعر قول السموأل بن عادیا:
إنا لقوم لا نری القتل سبّةإذا ما رأته عامر و سلول
یقرّب حبّ الموت آجالنا لناو تكرهه آجالهم فتطول - و قال آخر:
و لا عیب فینا غیر عرق لمعشركرام و أنّا لا نخطّ علی الرّمل یرید أنا لسنا مجوس فإن المجوس كانت تزعم ان الرجل منهم إذا تزوج أخته، أو ابنته فجاءت منه بولد إن ذلك الولد إذا خط بیده علی داء النملة ابرأه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 201

القسم العشرون فی التوریة

و هو أن یعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنی، ثم یردها بعینها و یعلقها بمعنی آخر و هو فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی:
حَتَّی نُؤْتی مِثْلَ ما أُوتِیَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ الآیة، الجلالة الأولی مضاف إلیها، و الثانیة مبتدأ بها. و قوله تعالی:
وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ، یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا. و مثله قوله تعالی: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَی التَّقْوی مِنْ أَوَّلِ یَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِیهِ فِیهِ رِجالٌ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 202

القسم الحادی و العشرون الاحتجاج النظری‌

و بعض أهل هذا الشأن یسمیه المذهب الكلام .. و هو أن یذكر التكلم معنی یستدل علیه بضرب من المعقول. و منه قوله تعالی: أَ وَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. و قوله عز و جل: لَوْ كانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. و قوله تعالی: قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ .. و منه قول الشاعر:
جری القضاء بما فیه فلا تلم‌و لا ملام علی ما خطّ بالقلم - و قیل إنّ الاحتجاج أن یخرج الكلام علی طریقة الجدل كقول النابغة:
ملوك و اخوان إذا ما أتیتهم‌أحكّم فی أموالهم و أقرّب
كفعلك فی قوم أراك اصطنعتهم‌فلم ترهم فی شكر ذلك أذنبوا یقول لا تلمنی فی مدح آل جفنة، و قد أحسنوا لی، كما أحسنت إلی قوم فشكروك فلم تر ذلك ذنبا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 203

القسم الثانی و العشرون حسن المطالع و المبادی. و یقال فیه حسن الافتتاح‌

قال علماء علم البیان .. و من ضروب هذا العلم حسن المطالع و الفواتح، و ذلك دلیل علی جودة البیان و بلوغ المعانی إلی الاذهان فإنه أول شی‌ء یدخل الأذن، و أول معنی یصل إلی القلب، و أول میدان یجول فیه تدبر العقل، و هو فی القرآن العظیم علی قسمین: جلی و خفی. أما الجلی فكقوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ. و كقوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ. و قوله: تَبارَكَ الَّذِی بِیَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلی كُلِّ شَیْ‌ءٍ قَدِیرٌ و أكثر مطالع سور القرآن علی هذا النمط. و أما الخفی فمثل قوله تعالی: الم ذلِكَ الْكِتابُ. و قوله: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ. و قوله: المص. و قوله: حم. و قوله: ق وَ الْقُرْآنِ. و قوله: ن وَ الْقَلَمِ و ما یجری مجری ذلك من السور التی افتتحت بالحروف المفردة و المركبة، و سیأتی الكلام علیها فی فصل مفرد.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 204

القسم الثالث و العشرون حسن المقطع‌

و هو عند أرباب هذا الشأن أن یختم المتكلم كلامه بكلام حسن السبك بدیع المعنی، فانه آخر ما یبقی فی الذهن، و لأنه ربما حفظ من دون سائر الكلام فیتعین أن یجتهد فی رشاقته و حلاوته و جزالته و جمیع خواتم سور القرآن فی غایة الحسن و نهایة الكمال لأنها بین: أدعیة.
و وصایا. و فرائض. و قضایا. و تحمید. و تهلیل إلی غیر ذلك من الخواتم التی لا یبقی للنفوس بعدها تطلع، و لا إلی ما یعقبها تشوف- كالدعاء- التی ختمت به سورة البقرة- و الوصایا- التی ختمت بها سورة آل عمران- و الفرائض- التی ختمت بها سورة النساء- و التبجیل، و التعظیم- اللذین ختمت بهما سورة المائدة- و الوعد. و الوعید- اللذین ختمت بهما سورة الأنعام. و التحریض- علی العبادة بوصف حال الملائكة الذی ختمت به سورة الاعراف. و الحض علی الجهاد. وصلة الرحم- التی ختمت بهما سورة الأنفال. و وصف رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و مدحه و تسلیته و وصیته بالتهلیل التی ختمت به سورة براءة.
و تسلیته التی ختمت بها سورة یونس، و مثلها خاتمة سورة هود. و وصف القرآن و مدحه اللذین ختمت بهما سورة یوسف. و الرد علی من كذب الرسول صلی اللّه علیه و سلم الذی ختمت به سورة الرعد. و مدح القرآن و ذكر فائدته و العلة فی إنزاله التی ختمت به سورة إبراهیم. و وصیة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 205
الرسول التی ختمت بها سورة الحجر. و تسلیته صلی اللّه علیه و سلم و طمأنینته و وعد اللّه سبحانه الذی ختمت به سورة النحل. و التحمید الذی ختمت به سورة سبحان. و تحضیض الرسول صلی اللّه علیه و سلم علی الإبلاغ و الإقرار بالبشریة و الأمر بالتوحید الذی ختمت به سورة الكهف. و ما ذكر فی نصف القرآن مثل لمن نظر فی بقیته الی غیر ذلك من فواصل القرآن.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 206

القسم الرابع و العشرون فی براعة الاستهلال‌

و هو أن یذكر الانسان فی أول خطبته أو قصیدته أو رسالته كلاما دالا علی الغرض الذی یقصده لیكون ابتداء كلامه دالا علی انتهائه، كما قیل لكاتب أكتب إلی الامیر و عرفه بأن بقرة ولدت حیوانا علی شكل الانسان فكتب. أما بعد حمد اللّه الذی خلق الأنام فی بطون الانعام.
و منه قوله تعالی: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِی أَدْنَی الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ. و منه قوله تعالی: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِینَ. و منه فی القرآن كثیر .. و شرطه أن لا یبتدأ بشی‌ء یتطیر منه كقوله الاخطل:
اذا متّ مات الجود و انقطع النّدی‌و لم یبق إلّا من قلیل مصرّد - و ان یجتنب التشبیب بالاسم المستكره كقول جریر:
و تقول بوزع قد دنیت لغیرناهلّا هویت لغیرنا یا بوزع «1» - بل یبتدئ بالمدیح مثل قول أبزون العمانی:
______________________________
(1) هكذا فی الاصل و المحفوظ:
و تقول بوزع قد دببت علی العصاهلا هزئت بغیرنا یا بوزع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 207 علی منبر العلیاء جدك یخطب‌و للبلدة العذراء سیفك یخطب و فی التهانی بمثل قول المتنبی:
المجد عوفی إذ عوفیت و الكرم‌و زال عنك إلی اعدائك الالم - و قول الآخر:
أبشر فقد جاء ما تریدو باد أعداءك المبید - و فی التشبیب كمثل قوله:
زمّوا الجمال فقل للعاذل الجانی‌لا عاصم الیوم من مدرار أجفانی - و فی المراثی بمثل قول أوس:
أیتها النفس اجملی جزعاإنّ الّذی تحذرین قد وقعا قال المصنف: عفا اللّه عنه هذا النوع، قد قدمناه فی فصل حسن المطلع، لكن الزنجانی رحمه اللّه أفرد له بابا فأفردناه علی حكم ما أفرده، و كان فی فصل حسن المطلع زیادات یحتاج إلیها فذكرناها هاهنا، و هذه الزیادة التی اقتضت افراده.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 208

القسم الخامس و العشرون الانتقال من فن إلی فن. و یسمی التخلص. و الكلام علیه من وجوه‌

الاول: فی حقیقته. الثانی: فی شرطه. الثالث: فی الفرق بینه و بین الاقتضاب. الرابع: فی المعنی الذی جی‌ء به من أجله.
الخامس: فی ذكر من هو أحق باستعماله.
أما الاول: فقال علماء علم البیان التخلص هو أن یأخذ المؤلف فی معنی من المعانی فبینما هو فیه اذ أخذ فی معنی آخر غیره، و جعل الأول سببا الیه فیكون بعضه آخذا برقاب بعض من غیر أن یقطع المؤلف كلامه و یستأنف كلاما آخر، بل یكون جمیع كلامه كأنما أفرغ إفراغا.
و أما الثانی: فمن شرطه أن یكون انتقاله من فن إلی فن ببدیع و حسن رصف و وجازة لفظ و رشاقة معنی لیكون الذی انتقل إلیه أقرب إلی القلب و أعلق بالنفس من المعنی الذی انتقل عنه.
و أما الثالث: فالفرق بینه و بین الاقتضاب أن التخلص لا یكون إلا لعلاقة بینه و بین ما تخلص منه. و أما الاقتضاب فلیس شرطه أن یكون بینه و بین ما قبله علاقة، بل یكون كلاما مستأنفا منقطعا عن الاول.
و أما الرابع: فالمعنی الذی جی‌ء به من أجله شیئان: أحدهما معرفة حذق المتكلم، و قوة ملكته فی التلعب بالكلام، و تصرفه فیه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 209
و طول باعه و اتساع قدرته فی الفصاحة و البلاغة. و الثانی التفنن بحصول ملاذ كثیرة و تكون لذته بأمور اقتضاها اعمال الفكرة فیما یتخلص به من بدیع المعنی و وشیق اللفظ و حسن النسق.
و أما الخامس: فالأحق باستعماله الشاعر، فإن الشاعر تحصره القوافی و الأوزان، فیضیق علیه النطاق إذا اقتصر علی معنی واحد فتدعو حاجته إلی الخروج من فن إلی فن و من معنی إلی معنی لیتسع نطاقه و یتحقق ارفاقه بخلاف الناثر فانه مطلق العنان ممدود الباع منبسط البنان یمضی حیث شاء و یتفنن فی الانشاء ..
و قد ورد فی القرآن العظیم من هذا النوع آیات كثیرة. منها قوله تعالی: قالَ هَلْ یَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ یَنْفَعُونَكُمْ أَوْ یَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ یَفْعَلُونَ قالَ أَ فَرَأَیْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِی إِلَّا رَبَّ الْعالَمِینَ الَّذِی خَلَقَنِی فَهُوَ یَهْدِینِ لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم الی ذكر صفات اللّه عز و جل قال- إن أولئك أعداء لی الّا اللّه- فانتقل بطریق الاستثناء المنفصل، و هو خیر من غیره من الكلام، و مثله فی القرآن كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 210

القسم السادس و العشرون فی الاقتضاب. و الكلام علیه من وجوه‌

الاول: فی حقیقته. الثانی: فی المعنی الذی أتی به من أجله.
الثالث: فی أقسامه. الرابع: فی أدواته. الخامس: فی الفرق بینه و بین التخلص. السادس: فی ذكر اختلاف الأئمة فی الأبلغ منهما.
أما الأول: فقال علماء علم البیان ان الاقتضاب ضد التخلص، و ذلك أن یقطع الناظم كلامه الذی هو فیه، و یستأنف كلاما آخر غیره من مدح أو هجاء أو غیر ذلك، و لا یكون للثانی علاقة بالأول، و لا تلفیق بینه و بینه، و هو مذهب القدماء، و لذلك قال أبو العلاء محمد بن غانم الغانمی: إن كتاب اللّه العزیز خال من الاقتضاب و التخلص.
و هذا القول فاسد لأن حقیقة التخلص إنما هی الخروج من كلام إلی كلام آخر غیره بلطیفة تناسب بین الكلام الذی خرج منه و الكلام الذی خرج الیه، و فی القرآن العظیم مواضع كثیرة من ذلك كالخروج من الوعظ و التذكیر و الانذار و البشارة بالجنة إلی امر و نهی و وعد، و وعید، و من محكم إلی متشابه، و من صفة لنبی و نبإ منزل إلی ذم شیطان مرید و جبار عنید بلطائف دقیقة و معان آخذة بالقلب أنیقة .. فمما جاء من التخلص فی القرآن الكریم قوله تعالی: وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِیمَ إِذْ قالَ لِأَبِیهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِینَ قالَ هَلْ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 211
یَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ إلی قوله: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ الآیات. هذا كلام یذهل العقول و یحیّر الالباب، و فیه كفایة لطالب البلاغة و المنتصب لهذه الصناعة فإنه متی أنعم فیه النظر و تدبر أنباءه و مطاوی حكمته علم أن فی ذلك غنی لمن تصفح الكتب المؤلفة فی هذا الفن. أ لا تری أیها المتأمل ما أحسن ما رتب إبراهیم علیه الصلاة و السلام كلامه مع المشركین حین سألهم أولا عما یعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، ثم أنحی إلی آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر و لا تنفع و لا تبصر، و لا تسمع، و إلی تقلید آبائهم الأقدمین فكشفه و أخرجه من أن یكون شبهة فضلا عن أن یكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلی ذكر الإله الذی لا تجب العبادة إلّا له، و لا ینبغی الرجوع و الإنابة إلا إلیه، فصور المسألة فی نفسه دونهم لقوله- فإنهم عدوّ لی إلّا ربّ العالمین- علی معنی أنی فكرت فی أمری فرأیت عبادتی لها عبادة العدوّ و هو الشیطان، فاجتنبتها و آثرت عبادة من الخیر كله منه و أراهم بذلك أنها نصیحة ینصح بها نفسه لینظروا فیقولوا ما نصحنا إبراهیم إلا بما نصح به نفسه، فیكون ذلك ادعی لهم إلی القبول، و أبعث علی الاستماع منه، و لو قال- فانهم عدوّ لكم- لم تكن بتلك المثابة فتخلص عند تصویره المسألة فی نفسه إلی ذكر اللّه تعالی، و أجری تلك الصفات العظام من تفخیم شأنه و تعدید نعمه من لدن خلقه و إنشائه إلی حین وفاته مع ما یرجو فی الآخرة من رحمته لیعلم بذلك أن من هذه صفاته حقیق بالعبادة و واجب علی الخلق الخضوع له و الاستكانة من عظمته، ثم خرج من ذلك إلی أدعیة مناسبة فدعا اللّه بدعوات المخلصین و ابتهل إلیه ابتهال الأوابین، لأن الطالب من مولاه و الراغب الیه اذا قدّم قبل سؤاله و ضراعته الاعتراف بالنعمة و الاقرار بالاحسان كان ذلك أسرع بالاجابة و أنجح لحصول القصد و الطلبة، ثم أدرج فی ضمن دعائه ذكر البعث یوم القیامة و مجازات اللّه تعالی لمن آمن به باثابة الجنة، و لمن ضل عن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 212
عبادته بالنار فجمع بین الترغیب فی طاعته و الترهیب من معصیته، ثم سأل المشركین عما كانوا یعبدون من الأصنام سؤال موبخ لهم مستهزئ بهم و ذكر ما یدفعون إلیه عند ذلك من الندم و الحسرة علی ما كانوا فیه من الضلال و تمنی العودة لیؤمنوا .. فانظر أیها المتأمل إلی هذا الكلام الشریف الآخذ بعضه برقاب بعض مع احتوائه علی لطیفة دقیقة حتی كأنه معنی واحد و خرج من ذكر الأصنام و تقریره لأبیه و قومه من عبادتهم إیاها مع ما هی علیه من التعری عن صفات الإلهیة حیث لا تضر و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع الی ذكر اللّه تعالی فوصفه بصفات الالوهیة و عظّم شأنه و عدد نعمه لیعلم بذلك أن العبادة لا تصح الّا له ثم خرج من هذا الی دعائه إیاه و خضوعه له، ثم خرج منه إلی ذكر یوم القیامة و ثواب اللّه عز و جل و عقابه، فتدبر هذه التخلیصات اللطیفة و ضم هذا إلی غیره من تضمین هذا الكلام بأنواع من صناعة التألیف و هی الایجاز و الكنایة، و التقدیم و التأخیر، ثم إنابة الفعل الماضی عن الفعل المضارع.
فأما الإیجاز فلا خفاء به علی العارف بما أشرنا الیه فی بابه الذی سبق ذكره أولا، و إن من جملة قوله تعالی: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِینَ وَ بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِلْغاوِینَ فإنه جمع الترغیب فی طاعته، و الترهیب من معصیته مع عظمهما و فخامة شأنهما فی هذه الكلمات الیسیرة.
و أما الكنایة فقوله- و برّزت الجحیم للغاوین- و الغاوون هنا كنایة عن أبیه و قومه، و یدل علی ذلك قوله: و قیل لهم أین ما كنتم تعبدون من دون اللّه- لأن كلامه فی الأول كان معهم فی عبادتهم للأصنام. و أما التقدیم و التأخیر فإنه ذكر إبراهیم النعمة تعدید الاحسان قبل الدعاء و طلب الحاجة. و أما انابة الفعل الماضی عن المضارع فقوله- و أزلفت الجنة للمتقین و برزت الجحیم للغاوین، و قیل لهم أین ما كنتم تعبدون من دون اللّه- بعد قوله- و لا تخزنی یوم یبعثون یوم لا ینفع مال و لا بنون إلّا من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 213
أتی اللّه بقلب سلیم- و فی ذلك من الفائدة ما أشرنا إلیه فی بابه، و قد سبق ذكره.
و أما الثانی: فالمعنی الذی أتی به من أجله تشوف النفس بعد قطع الكلام الأول إلی الكلام الثانی الذی بعده، و لا سیما اذا لم یكن بفاصلة فإنه یدل علی تمكن المتكلم فی البلاغة و قوة ملكته فی التلعب بالكلام، و جودة فكرة المؤلف، و حسن فطرة السامع و صحة ذهنه.
و أما الثالث: فقال علماء البیان هو علی قسمین: منه ما یكون بفاصلة. و منه ما لا یكون بفاصلة، و هو بالفاصلة أحسن لأن بها تتشوف النفس إلی المعنی الثانی، فتكون له لذاذة أشد مما إذا ورد بغتة.
و أما الرابع: فأدواته فواصله و هی- أما بعد- و قیل إنّ أول من تكلم بها رسول اللّه ثم تداولها الناس بعده- و هذا. و هذه- و قد یذكر لهما خبر كقوله تعالی: هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ لَحُسْنَ مَآبٍ و قد لا یذكر لهما خبر كقوله تعالی: هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِینَ لَشَرَّ مَآبٍ و كما قال الشاعر:
هذا و كم لی بالجنینة سكرةأنا من بقایا شربها مخمور و قد قال ابن الأثیر فی جامعه فی قوله تعالی: وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِیمَ وَ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ أُولِی الْأَیْدِی وَ الْأَبْصارِ إلی قوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أ لا تری ما ذكر قبل هذا ذكر من ذكر من ذكر من الأنبیاء، و أراد أن یذكر بعده بابا آخر غیره، و هو ذكر الجنة و أهلها فقال- هذا ذكر- ثم قال- و إنّ للمتقین لحسن مآب- و یدلّ علیه أنه لما أتم ذكر أهل الجنة، و أراد أن یعقبه بذكر أهل النار قال- هذا و إنّ للطاغین لشرّ مآب- و ذلك من فصل الخطاب الذی هو ألطف موقعا من التخلص فاعرفه .. و من بدیع الاقتضاب قوله تعالی: وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ إلی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 214
قوله: لِرَبِّ الْعالَمِینَ ثم اقتضب فقال: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِی عِلِّیِّینَ .. و هو فی القرآن كثیر جدا و أكثر ما یرد فی ذكر القصص و هذا من النوع الاول من الاقتضاب لأنه بلا فاصلة .. و قال ابن الاثیر و مما استطرف من هذا النوع قول ابن الزملكانی «1»:
و لیل كموج البرقعیدیّ ظلمةو برد أعانیه و طول قرونه
سریت و نومی فیه نوم مشرّدكعقل سلیمان بن فهد و دینه علی أولق فیه التفات كأنّه أبو جابر فی خبطه و جنونه
إلی أن بدا ضوء النهار كأنه‌سنا وجه قرواش و ضوء جبینه و قال: إن هذه الابیات لها حكایة، و ذلك أن هذا الممدوح كان جالسا فی ندمائه فی لیلة من لیالی الشتاء، و فی جملتهم هؤلاء الذین هجاهم الشاعر، كان البرقعیدیّ مغنیا، و سلیمان بن فهد وزیرا، و أبو جابر حاجبا فالتمس الممدوح من الشاعر أن یهجو المذكورین و یمدحه.
قال المصنف عفا اللّه عنه: هذا الذی ذكره ابن الاثیر قد أورده علماء علم البیان فی باب الاستطراد هو به أمسّ و ألیق.
______________________________
(1) ابن الزملكانی هذا تصحیح منا اعتمادا علی حفظنا، و فی الاصل ابن الزمكلفة .. و قد أورد الابیات التنوخی فی كتابه الاقصی القریب فی باب التخلص و الاقتضاب و لم یسم القائل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 215

القسم السابع و العشرون فی التطبیق و یسمی المطابقة و الطباق و التكافؤ و التضاد. و الكلام علیه من وجوه:

الاول: فی حقیقته. الثانی: فی اشتقاقه. الثالث: فی أقسامه.
أما الاول: فقال علماء علم البیان هو أن یجمع فی الكلام بین متضادین مع مراعاة التقابل بحیث لا یضم الاسم إلی الفعل، و لا الفعل إلی الاسم، و هو كقوله تعالی: فَلْیَضْحَكُوا قَلِیلًا وَ لْیَبْكُوا كَثِیراً و قوله تعالی: وَ تَحْسَبُهُمْ أَیْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ. و قوله تعالی: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّیْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ.
و قوله تعالی: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِی الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِكَ الْخَیْرُ إلی قوله:
وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَیْرِ حِسابٍ. و قوله تعالی: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكی و مثله فی القرآن كثیر. و من ذلك فی أشعار العرب و مخاطباتهم كثیر .. فمن بدیع أشعار العرب قول الحارث بن حلزة:
بأنّا نورد الرّایات بیضاو نصدرهنّ حمرا قد روینا جمع فی هذا البیت بین الطباق و المقابلة .. و أبدع منه قول بعض المتأخرین:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 216 فأوردها بیضا ظماء صدورهاو أصدرها بالرّیّ ألوانها حمر قال ابن الأثیر: أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة علی أن المطابقة فی الكلام هی الجمع بین الشی‌ء و ضده، كالبیاض و السواد و اللیل و النهار، و خالفهم فی ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب فقال: المطابقة إیراد لفظتین متساویتین فی البناء و الصفة، مختلفتین فی المعنی، و هذا الذی ذكره قدامة هو التجنیس بعینه غیر أن الأسماء لا مشاحة فیها إلا إذا كانت مشتقة، و لننظر نحن فیما حمله علی ذلك.
و الذی حمل قدامة علی ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق و سنبینه.
و أما الثانی: فاشتقاق الطباق و أصله فی اللغة من طابق البعیر فی سیره، اذا وضع رجله موضع یده و هذا یقوی قول قدامة، لأن الید غیر الرجل لا ضدها، و الموضع الذی یقعان فیه واحد، فكذلك المعنیان یكونان مختلفین و اللفظ الذی یجمعهما واحدا .. و أما الجماعة فیحتمل أن یكونوا رأوا أن الرّجل مخالفة للید فراعوا المخالفة و الضد مخالف للضد لا اجتماع لهما، و هذا عین التضاد.
و یجوز أن یكون الجماعة سموا هذا الضرب من الكلام مطابقة تسمیة مرتجلة لا اشتقاق لها و لا مناسبة، و هذا هو الظاهر من هذا الأمر إلا أن یكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطیفة لم یطلع علیها غیرهم و الصحیح هو الأول، لأن بعضهم سماه التضاد و هذا دلیل علی مراعاة الاشتقاق و اما الثالث: فقد قسم أرباب علم البیان الطباق إلی قسمین:
لفظیّ و معنویّ. أما اللفظی فهو علی قسمین: الأول ما قدمناه. و الثانی أن یجمع بین شیئین موافقین و بین ضدیهما، ثم إذا اشترطهما بشرط وجب أن یشترط ضدیهما بضد ذلك الشرط كقوله تعالی: فَأَمَّا مَنْ أَعْطی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 217
وَ اتَّقی وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنی الآیة. فكما جعل التیسیر للیسری مشترطا بالاعطاء و التقی و التصدیق جعل ضده و هو العسر مشترطا بأضداد تلك الامور، و هی المنع و عدم الاتقاء و الاستغناء و التكذیب .. و أما المعنوی فعلی قسمین. الاول: أن یزاوج بین معینین فی الشرط و الجزاء كقول البحتری «1».
و الثانی: فی النفی كقول البحتری أیضا:
یقیّض لی من حیث لا أعلم النوی‌و یسری إلیّ الشوق من حیث أعلم - و الطباق فی القرآن كثیر .. و منه فی السّنّة قوله صلی اللّه علیه و سلم- علم الانساب علم لا ینفع، و جهل لا یضر- و قوله صلی اللّه علیه و سلم فی مدح الأنصار- «إنّكم لتقلون عند الطمع و تكثرون عند الجزع» ..
و من الطباق البدیع قول الشاعر:
إنّ هذا الرّبیع شی‌ء عجیب‌تضحك الارض من بكاء السماء
______________________________
(1) بیاض بالأصل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 218

القسم الثامن و العشرون المقابلة. و الكلام علیها من وجوه‌

الأول: فی حقیقتها. الثانی: فی اشتقاقها. الثالث: فی أقسامها.
الرابع: فی الفرق بینها و بین الطباق.
أما الأول: فقال جماعة من العلماء بهذا الشأن المقابلة ذكر الشی‌ء مع ما یوازیه فی بعض صفاته و یخلفه فی بعضها .. و قال بعضهم المقابلة أن تضع معانی ترید الموافقة بینها و بین غیرها أو مخالفة فتأتی فی الموافق بما وافق و فی المخالف بما خالف و تشترط شروطا، و تعدد أحوالا فی أحد المعنیین، فیجب أن تأتی فی الثانی بما یوافقه بمثل ما شرطت و عدّدت، و فیما یخالفه بأضداد ذلك كقوله تعالی: فَأَمَّا مَنْ أَعْطی وَ اتَّقی وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنی فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْری وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنی وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنی فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْعُسْری و كقول الشاعر:
فیا عجبا كیف اتفقنا فناصح‌وفیّ و مطویّ علی الغلّ غادر قال المصنف عفا اللّه عنه: قال الإمام فخر الدین رحمه اللّه هذا النوع فی فصل الطباق و ذكره الزنجانی فی فصل المقابلة، و الذی اختاره العلماء المتقدمون فی هذا الفن أن المقابلة ذكر الشی‌ء مع ما یوازیه فی بعض صفاته و یخالفه فی بعضها كما تقدم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 219
و أما الثانی: فالمقابلة مصدر من قابل الشی‌ء الشی‌ء یقابله مقابلة إذا واجهه، و صار ماثلا أمامه، و هو من باب المفاعلة كالمضاربة و المقاتلة، و أصله فی الإجرام یقال: قابل الشخص الشخص، و الجبل الجبل إذا واجهه، و ناوحه، إذا صار موازیا له ماثلا أمامه، ثم توسع فیه حتی استعمل فی المعانی، و لما وضع المؤلف الكلمة بإزاء الكلمة الأخری، و المعنی بإزاء المعنی الآخر حصلت المقابلة من جهة اللفظ تارة، و من جهة المعنی أخری.
و أما الثالث: فأقسامها ثلاثة: مقابلة لفظیة. و هی علی قسمین، و قد تقدم. و مقابلة معنویة. و هی علی قسمین أیضا. الأول أن یقابل معنی بمعنی مثل: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِیها وَ لا تَعْری وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِیها وَ لا تَضْحی وجه المقابلة فی هذه الآیة أن- الجوع- هو خلوّ الباطن- و العری- خلوّ الظاهر- و الظمأ- احتراق الباطن- و الضحی- احتراق الظاهر. فقابل الخلو بالخلو، و الاحتراق بالاحتراق. و الثانی أن یجی‌ء فی السلب كقول الفرزدق: الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان 219 القسم الثامن و العشرون المقابلة. و الكلام علیها من وجوه ..... ص : 218
الثالث المقابلة الفاسدة، و هو أن یقابل الشی‌ء بما لا یوافقه، و لا یخالفه كقول الكمیت:
لعمری لئن قلّ الحصی فی رحالكم‌بنی نهشل ما لؤمكم بقلیل
و قد رأین بها حورا منعّمةبیضا تكامل فیها الدّلّ و الشنب - و الشنب- لا یشاكل الدل. و هذان القسمان ذكرهما الزنجانی فی تكملته. و المقابلة قریب من الطباق للمشابهة من بعض الوجوه، و المخالفة من وجهین نذكرهما بعد هذا القسم.
و أما الرابع: فالفرق بین المقابلة و الطباق من وجهین. الأول أن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 220
الطباق لا یكون إلا ضدین غالبا مثل قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَحْیاكُمْ ثُمَّ یُمِیتُكُمْ ثُمَّ یُحْیِیكُمْ و أشباه ذلك. و المقابلة تكون غالبا بالجمع من أربعة أضداد. ضدین فی أصل الكلام. و ضدین فی عجزه. و تبلغ إلی الجمع من عشرة أضداد. خمسة فی الصدر. و خمسة فی العجز ..
الثانی لا یكون الطباق إلا بالاضداد، و المقابلة تكون بالاضداد و غیرها.
و قد ورد فی أشعار العرب و المتأخرین أبیات كثیرة یتضمن البیت منها مقابلتین و طباقین .. فمن ذلك قول الحارث بن حلزة.
بانّا نورد الرّایات بیضاو نصدرهنّ حمرا قد روینا - و من ذلك قول بعض المتأخرین:
فأوردها بیضا ظماء صدورهاو أصدرها بالرّی ألوانها حمر - قال ابن الاثیر فی جامعه ان الطباق أحد أنواع المقابلة لأنه لا یخلو الحال فی ذلك من ثلاثة أقسام. اما أن یقابل الشی‌ء بضده أو بغیره أو بمثله، و لیس لنا قسم رابع. فأما الاول و هو مقابلة الشی‌ء بضده كالسواد و البیاض، و ما أشبه ذلك كقوله تعالی: فَلْیَضْحَكُوا قَلِیلًا وَ لْیَبْكُوا كَثِیراً أ لا تری إلی صحة هذه المقابلة البدیعة حیث قابل الضحك بالبكاء، و القلیل بالكثیر. و كذلك قوله تعالی: لِكَیْلا تَأْسَوْا عَلی ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ و هذا أحسن ما یجی‌ء فی هذا الباب. و قد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم- خیر المال عین ساهرة لعین نائمة- و من هذا قول بعضهم فی السحاب:
و له بلا حزن و لا فرح‌ضحك یراوح بینه و بكا فقابل الضحك بالبكاء و الحزن بالسرور فی بیت واحد الّا أن فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 221
ذلك نظرا من حیث ترتیب التفسیر، لا من حیث المقابلة، لأن ترتیب التفسیر یقتضی أن كان قال- بلا حزن و لا مسرّة بكاء یراوح بینه و ضحك- و هذا لا كبیر عیب فیه. و إنما الأولی و الألیق ما أشرنا إلیه فاعرفه .. و قال آخر:
فلا الجود یفنی المال و الجدّ مقبل‌و لا البخل یبقی المال و الجدّ مدبر - و مثله قوله البحتری:
و أمة كأن قبح الجور یسخطهادهرا فأصبح حسن العدل یرضیها فقابل القبح بالحسن، و الجور بالعدل، و السخط بالرضا و ذلك بدیع فی بابه فاعرفه. و أما القسم الثانی و هو مقابلة الشی‌ء بغیره فهو ضربان. أحدهما ما كان بین المقابل و المقابل له مناسبة و تقارب كقول بعضهم:
یجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةو من إساءة أهل السوء إحسانا و الظلم لیس ضد المغفرة، و انما هو ضد العدل، الّا أنه لما كانت المغفرة قریبة من العدل مناسبة له حسنت المقابلة بینها و بین الظلم، و أمثال هذا كثیر. و أما القسم الثانی أن یقابل الشی‌ء بالشی‌ء و بینهما بعد و لا یناسبه بحال من الأحوال. أقول و ذلك لا یحسن استعماله فی التألیف .. و مما جاء منه قول بعضهم:
أم هل ظعائن بالعلیاء رافعةو ان تكامل منها الدّل و الشنب فإن ذلك غیر مناسب لأنه إنما كان یحسن أن یكون مع الدل الغنج، أو ما قاربه، و مع الشنب اللعس، أو ما یجری مجراه من أوصاف الثغر و الفم. و أما الثالث فهو أن یقابل الشی‌ء بمثله و هو ضربان. أحدهما التقابل فی اللفظ و المعنی. و الآخر التقابل فی المعنی دون اللفظ، و أما التقابل فی اللفظ و المعنی فكقوله تعالی: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً. و قوله تعالی: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِیَهُمْ. و أما
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 222
التقابل فی المعنی دون اللفظ فهی مقابلة الجملة لمثالها مستقبلة كانت أو ماضیة، فإن كانت ماضیة قوبلت بالماضیة، و ان كانت مستقبلة قوبلت بالمستقبلة، و ربما قوبل الماضی بالمستقبل، و المستقبل بالماضی، و ذلك إذا كان أحدهما فی معنی الآخر. فمن ذلك قوله تعالی: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلی نَفْسِی وَ إِنِ اهْتَدَیْتُ فَبِما یُوحِی إِلَیَّ رَبِّی فإن هذا تقابل من جهة المعنی، و لو كان التقابل من جهة اللفظ لقال:
و إن اهتدیت فإنما اهتدیت لها .. و بیان مقابل هذا الكلام من جهة المعنی أن النفس كلما هو علیها فهو بها أعنی أن كل ما هو وبال علیها و ضار لها، فهو بسببها، و منها لأنها أمّارة بالسوء، و كل ما هو لها مما ینفعها فبهدایة ربها و توفیقه إیاها، و هذا حكم عام لكل مكلف و انما أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أن یسند إلی نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع علو محله و سداد طریقته كان غیره أولی به.
و من هذا الضرب قوله تعالی: أَ لَمْ یَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِیَسْكُنُوا فِیهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ فإنه لم یراع التقابل فی قوله- لیسكنوا فیه فیه. و مبصرا- لأن القیاس یقتضی أن یكون و النهار لیبصروا فیه، و إنما هو مراعی من جهة المعنی لا من جهة اللفظ، و هكذا النظم المطبوع الغیر المتكلف، لأن معنی قوله مبصرا لیبصروا فیه طرق التقلب فی الحاجات.
و من مقابلة الشی‌ء بمثله أنه إذا ذكر المؤلف ألفاظا تقتضی جوابا فالمرضی عندنا أن یأتی بتلك الألفاظ فی الجواب من غیر عدول عنها إلی غیرها، مما هو فی معناها. فمن ذلك قوله تعالی: وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها و مما عیب فی هذا الباب قول بعضهم من اقترف ذنبا عامدا أو اكتسب جرما قاصدا لزمه ما جناه و حاق به ما توخاه. و الألیق إن كان قال لزمه ما اقترف و حاق به ما اكتسب لیكون أحسن طباقا، و إن كان ذلك جائزا فی الكلام من حیث أن معناه صوابا لكنه عدول عن الألیق،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 223
و الاولی فی هذا الباب و أمثاله كثیرة فاعرفها .. و اعلم ان فی تقابل المعانی بابا عجیب الأمر یحتاج إلی فضل تأمل و زیادة نظر و تدبر، و هو یختص بالفواصل من الكلام المنثور، و بالإعجاز من أبیات الشعر ..
فمما جاء من ذلك قوله تعالی فی حق المنافقین: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ قالُوا إلی قوله: وَ لكِنْ لا یَشْعُرُونَ. و قوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا إلی قوله: وَ لكِنْ لا یَعْلَمُونَ أ لا تری كیف فصل الآیة الأخیرة بیعلمون، و الآیة التی قبلها بیشعرون، و إنما فعل ذلك لأن أمر الدیانة و الوقوف علی أن المؤمنین علی الحق و هم علی الباطل یحتاج إلی نظر و استدلال حتی یكتسب الناظر المعرفة و العلم، و لذلك قال- و لكن لا یشعرون- و أما النفاق و ما فیه من المعنی المؤدی إلی الفتنة و الفساد فی الأرض فأمر دنیویّ مبنیّ علی العادات معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب، و ما كان فیهم من التجارب و التعاون فهو كالمحسوس عندهم، فلذلك قال- یعلمون- و أیضا فإنه لما ذكر السفه فی الآیة الأخیرة، و هو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال- لا یعلمون- و آیات القرآن العظیم جمیعها فصلت هكذا كقوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ. و قوله: لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ. و كقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِی الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ یُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَی الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ فإنه إنما فصلت الآیة بلطیف خبیر، لأن ذلك فی موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغیث، و إخراج النبات من الأرض، و لأنه خبیر بمنفعتهم و مضرتهم فی انزال الغیث و غیره. و أما الآیة الثانیة فإنما فصلت بغنی حمید لأنه له ما فی السموات، و ما فی الأرض، فعرف الناس أن جمیع ما فی السموات و ما فی الأرض له لا لحاجة، بل غنی عنها جواد بها لأنّ لیس غنیّ نافعا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 224
بغناه إلّا إذا كان جوادا منعما، و إذا جاد و أنعم حمده المنعم علیه، و استحق علیه الحمد فذكر- الحمید- لیدل علی أنه الغنی النافع بغناه خلقه.
و أما الآیة الثالثة فإنها فصلت- برءوف رحیم- لأنه لما عدد للناس ما أنعم به علیهم من تسخیر ما فی الأرض لهم و اجراء الفلك فی البحر لهم و تسییرهم فی ذلك الهول العظیم، و جعله السماء فوقهم و امساكه ایاها عن الوقوع حسن أن یفصل ذلك بقوله- رءوف رحیم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 225

القسم التاسع و العشرون الاحتراس‌

و هو أن یذكر لفظا ظاهره الدعاء بالخیر و النفع، و ذلك بما فی ضمنه مما یوهم الشر، فیذكر فیه كلمة تزیل ذلك الوهم، و تدفع ذلك الوهن مثل قوله تعالی: یُكَلِّمُ النَّاسَ فِی الْمَهْدِ وَ كَهْلًا و كان فی العادة أن من تكلم فی المهد لا یعیش و لا یتمادی به العمر، فحصل الاحتراس بقوله تعالی- و كهلا- یرید أنه لیس یموت عاجلا كأمثاله ممن تكلم فی المهد بل یعیش الی أن یبلغ الكهولة. و منه قوله تعالی:
وَ أَدْخِلْ یَدَكَ فِی جَیْبِكَ تَخْرُجْ بَیْضاءَ مِنْ غَیْرِ سُوءٍ أزال بقوله- من غیر سوء- توهم أن بیاض الید من برص و غیره .. و قد ورد فی أشعار العرب من هذا كثیر. من ذلك قول بعضهم:
فسقا دیارك غیر مفسدهاصوب الرّبیع و دیمة تهمی فاحترس بقوله- غیر مفسدها- لأن تكرار الماء علی الدیار مما یوجب الدمار .. و قال آخر:
ألا فاسلمی یا دار می علی البلاو لا زال مهلا بجرعائك القطر فاحترس بقوله- ألا فاسلمی- و مثله فی القرآن و الشعر كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 226

القسم الموفی ثلاثین الاختصاص‌

و هو عند الأصولیین التخصیص، و اختلفت فیه عبارات أهل العلم .. فقال بعضهم: هو اخراج صورة من حكم كان یقتضیها الخطاب به، لو لا التخصیص، و هو شبیه بالنسخ من حیث اشتراكهما فی اللبس، و من حیث أن كل واحد منهما یقتضی اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ إلا أنهما یفترقان من وجوه خمسة:
الأول أن الناسخ أبدا لا یكون إلا متأخرا عن المنسوخ، كذا وقع فی جمیع ما نسخ من الكتاب و السنة إلا فی آیتین. احداهما قوله تعالی: مَتاعاً إِلَی الْحَوْلِ غَیْرَ إِخْراجٍ فإنها منسوخة بما قبلها و هو قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و هذا علی خلاف الأصل، و قد یعتذر عن هذا بأن آیة الحول إنما نسخت بالسنة، لكن لا یتأتی هذا إلّا علی قول من یقول إن السنة تنسخ الكتاب.
و أما علی قول انها لا تنسخه فلا یتأتی هذا. و قد یقال إن آیة الحول نزلت قبل آیة الأشهر و لكن آیة الأشهر أثبتت فی الصحف قبلها، فكان آیة الحول متقدمة فی النزول متأخرة فی التلاوة.
الثانی: إن النسخ لا یكون الّا بخطاب رفع به حكم الخطاب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 227
الأول و التخصیص قد یقع بقول و فعل و قیاس و غیر ذلك.
الثالث: أن نسخ الشی‌ء لا یكون الّا بما هو مثله فی القوة، أو بما هو أقوی منه فی الرتبة و التخصیص جائز بما هو دون المخصوص فی الرتبة.
الرابع: أن التخصیص لا یقع فی حكم واحد و النسخ جائز فی مثله لا سیما علی أصل من یبنی نسخ الشی‌ء قبل وقته.
الخامس: ان التخصیص ما أخرج من الخطاب ما لم یرد به، و النسخ رافع ما أرید اثبات حكمه. و الذی اعتمد علیه المحققون أن التخصیص اخراج بعض ما تناوله اللفظ العام، أو ما یقوم مقامه بدلیل منفصل فی الزمان إن كان المخصص لفظیا، أو بالحس إن كان عقلیا قبل تقریر حكمه. فقولنا- أو ما یقوم مقامه- احتراز من المفهوم فإنه یدخله التخصیص. و قولنا- بالزمان- احتراز من المستثنی من الاستثناء.
و قولنا- بالحس- لأن العقلی المخصص مقارن. و قولنا- قبل تقریر حكمه- احتراز من أن یعمل بالعام فإن الإخراج بعد هذا یكون نسخا ..
و التخصیص یسمیه أرباب علم البیان الاختصاص عندهم، و لا یحسن إلّا أن یكون اختصاص الشی‌ء بمعنی ظاهر مثل قوله تعالی: وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْری اختصها دون سائر النجوم لأنها عبدت. و قیل ان النجوم تقطع السماء طولا و هی تقطعها عرضا. و قیل لأن المنجمین بطلوعها یتكلمون علی المغیبات و ما یحدثه اللّه فی ملكه من الكائنات و ینسبون ذلك الی طلوعها و إن هذه الحادثات فی كل عام من تأثیرها، فرد اللّه ذلك علیهم بإعلامنا بأنها مدبرة بتدبیره، مقدرة بتقدیره متصرفة بمشیئته إذ هو ربها و ربّ كل شی‌ء، و هو علی كل شی‌ء قدیر .. و من هذا النمط قوله تعالی: فِیهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ و هذا لا یتأتی إلا علی قول من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 228
یقول: أن الرمان و الرطب فاكهة. و أما علی قول من یقول أنهما لیسا من الفاكهة، فلا یكون من هذا النوع .. و من ذلك قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِیلَ وَ مِیكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِینَ أعاد اللّه ذكر جبریل و میكال مع أنهما من الملائكة بلا خلاف لخصوصیة فیهما إما لأمر اختص بعلمه بهما اقتضی تخصیصهما، أو لأن جبریل روح اللّه و أمینه علی وحیه، و میكال أمینه علی خزائن فتحه و رحمته. و فی أشعار العرب كثیر من ذلك نحو قول الخنساء أخت صخر:
یذكّرنی طلوع الشمس صخراو أندبه لكلّ غروب شمس و إنما خصت هذین الوقتین لأن طلوع الشمس یذكرها بغارته علی أعدائه و غروبها یذكرها باقرائه ضیفانه، فاختصت لهذین الوقتین من بین سائر الاوقات لهذین المعنیین. و عبارات التخصیص ثلاثة: الأولی: إنما جاءنی زید. الثانیة: جاءنی زید لا عمرو. و الثالثة: ما جاءنی إلّا زید.
فیفهم من الأولی تخصیص مطلق المجی‌ء أو تخصیص مجی‌ء معین ظنه المخاطب مخصوصا بغیره، أو مشاركا غیره فیه فأفاد اثباته لزید و نفیه عن غیره دفعة واحدة، و من الثانیة فی دفعتین و الثالثة بأصل الوضع تفید نفی التشریك، و لهذا لا یصح ما زید إلّا قائم لا قاعد لأنك بقولك- إلا قائم- نفیت عنه كل صفة تنافی القیام فیندرج فیه نفی القعود فیقع- لا قاعد- تكرارا و یصح إنما زید قائم لا قاعد فإن صیغة- إنما- موضوعة للتخصیص و یلزمه نفی الشركة، فلیس له من القوة ما یدل علیه بالوضع، و لهذا یصح زید هو الجائی لا عمرو فدلالة الأولیین علی التخصیص أقوی، و دلالة الثالثة علی نفی التشریك، و قد تذكر الثالثة فی مثل ما إذا ادعی واحد أنك قلت قولا، ثم قلت بخلافه فتقول ما قلت إلّا ما قلته قبل. و علیه قوله تعالی: حكایة عن عیسی علیه الصلاة و السلام: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِی بِهِ لیس المعنی أنی لم أزد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 229
علی ما أمرتنی به أن أقوله شیئا، و لكن المعنی أنی لم أدع مما أمرتنی به أن أقوله شیئا، و لم یذكر ما یخالفه .. و حكم- غیر- إذا وقع موقع- إلّا- حكم الّا .. و أما- انما- فالاختصاص فیها یقع مع المتأخر، فإذا قلت إنما ضرب عمرا زید، فالاختصاص فی الضارب كما قال سبحانه و تعالی: إِنَّما یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ و إذا قلت إنما ضرب زید عمرا فالاختصاص فی المضروب، و إذا قلت إنما هذا لك فالاختصاص فی- لك- بدلیل أنك تقول بعده لا لغیرك و إذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص فی- هذا- بدلیل أنك تقول بعده لا ذاك.
قال اللّه تعالی: فَإِنَّما عَلَیْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَیْنَا الْحِسابُ فإذا وقع بعدها الفعل فالمعنی أن ذلك الفعل لا یصح إلا من المذكور كقوله تعالی: إِنَّما یَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ .. و قد یجمع معها حرف النفی إما متأخرا. كقولك إنما جاءنی زید لا عمرو، و إما متقدما كقولك ما جاءنی زید، و إنما جاءنی عمرو. فهناك لو لم تدخل- إنما- كان الكلام مع من ظن أیهما جاءك، و إن أدخلها كان الكلام مع من غلط فی الجائی، و لو قلت إن عمرا جاءنی فإن كانت المستغنی عنها فظهرت فائدة دخول- ما- علی- إنّ- فی- انما- .. و اعلم أن موضوع- انما- أن یجی‌ء فی أمر لا یدفع المخاطب صحته كقوله تعالی: إِنَّما یَسْتَجِیبُ الَّذِینَ یَسْمَعُونَ أو ینزل بعده منزلته كقول الشاعر:
إنما مصعب شهاب من اللّه‌تجلّت عن وجهه الظّلماء فادعی كونه بهذه الصفة مما لا ینكره أحد. و مثله قوله تعالی حكایة عن الیهود: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الذی یدعون انهم مصلحون أمر ظاهر معلوم، فلذلك أكد الأمر فی الرد علیهم فجمع فیه بین- ألا- التی هی للتنبیه و- إن- التی هی للتحقیق- و هم- التی هی للتأكید فقال: أَلا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 230
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ .. و قال ابن الاثیر و هم یرون بالتخصیص فی أعمال العام فی النفی و الخاص فی الاثبات مثال ذلك: الحیوانیة و الانسانیة، فإن اثبات الانسانیة یوجب اثبات الحیوانیة و لا یوجب نفیها نفی الحیوانیة، و كذلك نفی الحیوانیة یوجب نفی الانسانیة، و لا یجب من اثباتها اثبات الانسانیة .. و مما یدخل فی هذا الباب الأسماء المفردة الواقعة علی الجنس الذی یكون الفرق بینها و بین واحدها تاء التأنیث، فإنه متی أرید النفی كان استعمال واحدها أبلغ، و متی أرید الإثبات كان استعمالها فی الجنس أبلغ. فالأول هو الخاص و العام نحو قوله تعالی:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و لم یقل بضوئهم، لأن ذكر النور فی حالة النفی أبلغ من حیث أن الضوء فیه الدلالة علی النور و زیادة، فلو قال ذهب اللّه بضوئهم كان المعنی یعطی نفی تلك الزیادة، و بقاء ما یسمی نورا، لأن الإضاءة هی فرط الإنارة دلیله قوله تعالی: هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً فكل ضوء نور، و لیس كل نور ضوأ. و الغرض من قوله- ذهب اللّه بنورهم- إنما هو ازالة النور عنهم رأسا فهو إذا أزاله فقد أزال الضوء. و كذلك قوله تعالی: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و لم یقل أذهب اللّه نورهم لأن كل من ذهب بشی‌ء فقد أذهبه، و لیس كل من أذهب شیئا ذهب به، لأن الذهاب بالشی‌ء هو استصحاب له و مضی به، و فی ذلك نوع احتیاز للمذهوب به، و إمساك له عن الرجوع الی حالته، و العود إلی مكانه، و لیس كذلك الإذهاب للشی‌ء لزوال معنی الاحتیاز، و هذا كلام دقیق یحتاج إلی زیادة تأمل و إنعام نظر، فافهمه و قس علیه ما أشبهه، و باللّه التوفیق.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 231

القسم الحادی و الثلاثون الاختراع‌

قال علماء علم البیان .. الاختراع هو أن یذكر المؤلف معنی لم یسبق إلیه، و اشتقاقه من التلیین و التسهیل یقال: بنت خرع إذا كان لینا فكأن المتكلم سهل طریقه حتی أخرجه من العدم الی الوجود. و منه فی القرآن كثیر .. من ذلك قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَیْئاً لا یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ و لم یسمع بمثل هذا التمثیل البدیع لأحد قبل نزول القرآن، و لو سمع لكان القرآن سابقا، و لا یكون مثله، و لا قریبا منه، و كذلك جمیع أمثال القرآن، لیس لها أمثال .. و مثال ذلك من السنة النبویة قوله صلی اللّه علیه و سلم: «حمی الوطیس»- فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أول من تكلم بهذا حین قدّم المسلمون خالد بن الولید فی غزوة مؤتة، حین حمل خالد فی العدوّ- و الوطیس- هو التنور فعبر بشدة حمیه و وقوده عن شدة الحرب و اتقادها، و اتقاد نارها حین حمل خالد بن الولید رضی اللّه عنه. و من ذلك قوله صلی اللّه علیه و سلم: «السّعید من وعظ بغیره». و من ذلك قوله صلی اللّه علیه و سلم أما بعد- و مثل هذه الكلمات فی السنة كثیر، و لیس هذا موضع إحصائها و لا محل استقصائها.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 232

القسم الثانی و الثلاثون الهدم‌

و هو أن یأتی غیرك بكلام تضمن معنی، فتأتی أنت بضده، فكأنه قد هدم ما بناه المتكلم الأول كقول أبی تمام:
و بروحی القمر الذی بمحجّرأضحی مصونا للنوی مبذولا هدمه بعض الشعراء فقال:
و بروحی القمر الذی لم یبتذل‌بل حلّ وسط القلب لا بمحجّر - و قال البلاذریّ:
و قد یرفع المرء اللئیم حجابه‌ضعة و دون العرف منه حجاب هدمه الآخر فقال:
ملك أغرّ محجّب‌معروفه لا یحجب و منه فی كتاب اللّه العزیز كثیر .. من ذلك قوله تعالی: وَ قالَتِ الْیَهُودُ وَ النَّصاری نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ هدمه اللّه تعالی بقوله: وَ اللَّهُ لا یُحِبُّ الظَّالِمِینَ. و قوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 233
إِلهٍ. و قوله تعالی: فَلِمَ یُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ تقدیره إن كنتم فیما ادعیتم صادقین، فلم یعذبكم بذنوبكم. و منه قوله تعالی: وَ قالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصاری الْمَسِیحُ ابْنُ اللَّهِ هدمه اللّه علیهم بقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ. و قوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ.
و منه قوله تعالی: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ هدمه اللّه بقوله: وَ اللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِینَ لَكاذِبُونَ .. و مثله فی القرآن الكریم كثیر، و فی الشعر هو كثیر أیضا:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 234

القسم الثالث و الثلاثون الاستفهام‌

و هو علی قسمین: استفهام العالم بالشی‌ء مع علمه به. و مراده بذلك معان ستة.
الأول: التقریر و مرادك باستفهامك عن ذلك الشی‌ء أن یقربه الفاعل كقوله تعالی حكایة عن قوم نمروذ: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ و لا شبهة أنه لیس غرضهم أن یقر لهم بوجود كسر الاصنام، و لكن غرضهم أن یقرّ بأن ذلك منه لا من غیره.
الثانی: یراد به الإنكار و هو كقوله تعالی: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِینَ. و قوله تعالی: أَصْطَفَی الْبَناتِ عَلَی الْبَنِینَ و الانكار هاهنا فی نفس الفعل أنكر اللّه علیهم كونهم جعلوا الملائكة إناثا، و قالوا هم بنات اللّه تعالی اللّه عن ذلك علوّا كبیرا.
و كذلك قوله تعالی: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَی اللَّهِ تَفْتَرُونَ المقصود إنكار أصل الإذن لا انكار إنه كان من غیر اللّه، و أضافوه إلی اللّه. و كذلك قوله تعالی: آلذَّكَرَیْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَیَیْنِ تقدیره لو وجدتم التحریم لكان محرما، إما ذا أو ذاك، ثم یستدل ببطلان الأصلین علی بطلان القسمین علی بطلان أصل التحریم. و مثله قولك للرجل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 235
الذی یدعی أمرا و أنت تنكره- متی كان هذا أ فی لیل أم نهار- و تقدیره لو كان لكان إما فی لیل، و إما فی نهار، و لما لم یوجد فیهما ثبت أنه لیس بموجود أصلا. فكذلك تقول فی الآیة فانها نفی لأصل الإذن لنفی أقسامه، و ذلك أبلغ فی النفی. و كذلك قوله تعالی: أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ حصل الانكار هاهنا بنفس الالزام .. و كذلك قول الشاعر:
أ تقتلنی و المشرفیّ مضاجعی
و اعلم أن الاستفهام بمعنی الانكار حاصله راجع إلی تثبیت السامع علی فساد ذلك الشی‌ء حتی یرجع إلی نفسه، فیخجل و یرتد عنه، فعلی هذا لا یتصور الّا بالمحال علی سبیل أن یقال له- أنت فی دعواك كمن یدعی المحال- و علی هذا جعل قوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِی الْعُمْیَ و لیس اسماع الاسم مما یدعیه أحد فیكون لذلك الانكار، و إنما المعنی فیه تنزیل من یحاول اسماعهم منزلة من یحاول اسماع الصم، و إنما قدم الاسم فی هذه الآیة و لم یقل- أ فتسمع الصم- لمعنی و هو اختصاصه صلی اللّه علیه و سلم كأنه تعالی قال له صلی اللّه علیه و سلم: أنت خصوصا تظن أنك تقدر علی اسماعهم، فتكون بمنزلة من ظن أن لنفسه قدرة علی اسماع الصم .. و اعلم أن حال المفعول فی ذلك كحال الفاعل فاذا قدّمت المفعول توجه الانكار إلی كونه بمثابة أن یوقع به مثل ذلك الفعل فإذا قلت- أ زیدا تضرب كان علی هذا الحكم و لهذا قدّم- غیر- فی قوله تعالی: قُلْ أَ غَیْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِیًّا. و من ذلك قوله تعالی: أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ و قد تقدم بیانه فانهم بنوا كفرهم علی أن البشر لیس بمثابة أن یتبع و یطاع ..
و اعلم أن صیغة المستقبل إما أن یكون الاسم مقدما أو الفعل فإن كان الإسم مقدما اقتضی شبیها بما اقتضاه فی الماضی بمطالبته من الاقرار بكونه فاعلا فالانكار لذلك.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 236
فمثال ذلك قوله تعالی: أَ هُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ.
الثالث: الاستفهام للمبالغة فی الاستحقار مثل قولك للرجل تستحقره- أنت تمنعنی أنت تضربنی- و منه قوله تعالی: أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ. و قوله تعالی: قُلْ أَ غَیْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِیًّا.
الرابع: یأتی للمبالغة فی التعظیم كقولك- أ هو یسأل اللّه أ هو یمنعهم حقوقهم- و منه قوله تعالی: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً إلی قوله: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ.
الخامس: یأتی للمبالغة فی بیان الخساسة كقولك- أ هو یسمع لهذا أو یرتاح إلی الجمیل- و منه قوله تعالی: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا یَنْفَعُكُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ.
السادس: یؤتی بالاستفهام لیقع فی النفس عذوبة المستفهم عنه، و استحلاؤه كقول الشاعر:
أیا ظبیة الوعثاء بین جلاجل‌و بین النقا أ أنت أم أمّ سالم تقدیره أ أنت الظبیة أم أمّ سالم. أتی بالاستفهام هاهنا لیوقع فی النفس موقعا عظیما من الحسن، و بدیع المحاسن حتی یشكل حالها كمثل محاسنها، فیبقی عند ناظرها من ذلك تخییل لا یفرق بسببه بینها و بین الظبیة. و هذا النوع یسمی عند أرباب الصناعة التجاهل:
- و من بدیع التجاهل قول مهیار الدیلمی:
أ أنت أمرت البدر أن یصدع الدّجی‌و علّمت غصن البان أن یتمیّلا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 237
- و من بدیعه أیضا قول الآخر:
و عقار عیش من‌عاقرها عیش أنیق
هی للزّهو نظام‌و إلی اللّهو طریق
قلت لمّا لاح لی‌منها شعاع و بریق
أ شقیق أم عقیق‌أم رحیق أم حریق - و أما القسم الثانی من الاستفهام، فهو أن یستفهم عن شی‌ء لم یتقدم له به علم حتی یحصل له به علم. و منه فی القرآن العظیم و فی الشعر كثیر، و هذا هو أصل الباب.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 238

القسم الرابع و الثلاثون المزلزل‌

و هو أن یكون فی الكلام لفظة لو غیّر وضعها أو إعرابها تغیر المعنی. و منه فی القرآن العظیم كثیر .. من ذلك قوله تعالی: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ لو كسرت الكاف لتغیر المعنی. و من ذلك قوله تعالی: أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ لو ضمّت لاختل المعنی. و من ذلك قوله تعالی: فَوَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِینَ. و من ذلك قوله تعالی: وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ. و قوله تعالی: إِنَّما یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ لو غیر اعراب إبراهیم و اعراب العلماء لاختل المعنی .. و منه فی الشعر قول الوطواط:
رسول اللّه كذّبه الأعادی‌فویل ثم ویل للمكذّب إن كسرت ذال المكذب، كان حسنا، و إن فتحت كان قبیحا و كفرا .. و من هذا المعنی قوله تعالی: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِینَ نفتح الذال و لو كسرت الذال كان قبیحا و كفرا.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 239

القسم الخامس و الثلاثون التعجب‌

و منه فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَی النَّارِ- ما- هاهنا تعجب و التقدیر تعجبوا من صبرهم علی النار، و قیل هی الاستفهامیة و التقدیر فأیّ شی‌ء صبّرهم علی النار .. و من التعجب قوله تعالی: یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِیمِ و الخلاف فیها كالخلاف فی الأولی .. و من ذلك قوله تعالی:
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أی ما أشد كفره. و مثله فی القرآن كثیر ..
و منه فی الشعر قول بعضهم:
أیا شمعا یضی‌ء بلا انطفاءو یا بدرا یلوح بلا محاق
فأنت البدر ما سبب انتقاصی‌و أنت الشمع ما سبب احتراقی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 240

القسم السادس و الثلاثون السلب و الایجاب‌

قال علماء علم البیان: هو أن یوقع الكلام علی اثبات شی‌ء، و ینفیه فی كلام واحد و خطبة واحدة أو بیت واحد. و هو فی القرآن العظیم كثیر .. و من ذلك قوله تعالی: هُوَ یُجِیرُ وَ لا یُجارُ عَلَیْهِ.
و قوله تعالی: هُوَ یُطْعِمُ وَ لا یُطْعَمُ .. و منه فی الشعر قول السموأل ابن عادیاء الیهودی:
و تنكر إن شئنا علی الناس قولهم‌و لا ینكرون القول حین نقول
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 241

القسم السابع و الثلاثون الهزل الذی یراد به الجد

و هو فی القرآن العظیم فی قوله تعالی: فَالْیَوْمَ الَّذِینَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ یَضْحَكُونَ روی أن أهل الجنة یفتح لهم باب من النار فیقولون لمن كان یضحك منهم فی الدنیا من الكفار أ تدخلون الجنة فیقولون نعم، فیقولون لهم هلموا فیتبادرون إلی الجنة فیغلق الباب دونهم، و یضحك منهم المؤمنون، و یردون خائبین و لیس مراد المؤمنین بذلك القول الضحك منهم و إنما مرادهم بذلك تبكیتهم و تشدید الحزن علیهم .. و منه قوله تعالی: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ یعنی یوم القیامة .. و منه فی السنة قوله صلی اللّه علیه و سلم للعجوز التی سألته عن دخولها الجنة فقال: «لا یدخل الجنة عجوز» هزل بها و صدق و قال حقا فإن اللّه تعالی أخبر عن أهل الجنة فقال: عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْیَمِینِ و ترب الانسان مساویه فی العمر أو مقاربه .. و منه فی الشعر قوله:
اذا ما تمیمیّ أتاك مفاخرافقل عدّ عن ذا كیف أكلك للضبّ - و أما قوله صلی اللّه علیه و سلم فی وصف القرآن، و هو الجد لیس بالهزل فالمراد به الهزل الذی لا یراد به الجد.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 242

القسم الثامن و الثلاثون التلمیح‌

و هو أن یشیر فی فحوی الخطاب إلی مثل سائر، أو شعر نادر، أو قصة مشهورة من غیر أن یذكره كقول بشار بن عدی:
الیوم خمر و یبدو فی غد خبرو الدّهر ما بین إنعام و إبآس أشار به الی قول امرئ القیس- الیوم خمر و غدا أمر- حین بلغه قتل أخیه «1» و هو یشرب فصار مثلا .. و كقول أبی بكر الخوارزمی:
كأنك لا تروین بیتا لشاعرسوی بیت من لا یظلم الناس یظلم - و كقول أبی فراس:
و لا خیر فی دفع الأذی بمذلّةكما ردّها یوما بسوءته عمرو أشار بذلك إلی قصة عمرو بن العاص مع أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب كرم اللّه وجهه .. و قد یسمی أخذ بعض ألفاظ المثل اقتباسا،
______________________________
(1) لیس هو من قول امرئ القیس، و إنما هو من قول مهلهل حین بلغه قتل جساس أخاه كلیبا.
و امرؤ القیس لم یقتل له أخ فإن كان قاله حین بلغه قتل بنی أسد أباه حجرا فربما اه، كتبه محمد بدر الدین.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 243
و إیراد المثل كما هو تضمینا .. و مما جاء من التلمیح فی الكتاب العزیز قوله تعالی: وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ. و قوله تعالی:
أَلا بُعْداً لِمَدْیَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ. و قوله تعالی: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ الآیة .. و من ذلك قوله تعالی: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِیهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی إلی قوله:
فَإِنَّما هُمْ فِی شِقاقٍ. ثم قال: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. و من ذلك قوله تعالی: هذا نَذِیرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولی أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ثم قال: لَیْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ .. و مثله فی القرآن كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 244

القسم التاسع و الثلاثون النسخ و السلخ و المسخ‌

فأما النسخ ففی القرآن العظیم كثیر. و هو علی ثلاثة أقسام: منه ما نسخ لفظه و حكمه. و منه ما نسخ لفظه و بقی حكمه. و منه ما نسخ حكمه و بقی لفظه .. أما ما نسخ لفظه و حكمه، فقد روی عن قتادة و غیره قالوا: كنّا نقرأ سورة علی عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم- الشیخ و الشیخة إذا زنیا فرجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عزیز حكیم- و قالوا كنا نقرأ علی عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم- لو أعطی ابن آدم وادیین من ذهب لابتغی لهما ثالثا و لا یملأ جوف ابن آدم إلا التراب، و یتوب اللّه علی من تاب- .. و أما ما نسخ حكمه و بقی لفظه ففی القرآن العظیم منه كثیر .. و أما السلخ و المسخ، فلیس فی القرآن العظیم منهما شی‌ء لأنه لم یسبق قبله كلام فیسلخ منه، و لم یتقدم معانیه فیقصر عنها فیمسخ لأنه الكلام القدیم الذی لم یشبهه كلام، و لم یتقدم علیه نثر و لا نظام، و سنذكر فی القسم الذی لیس فی القرآن منه شی‌ء ما قاله أهل هذه الصناعة فی السلخ و المسخ، إن شاء اللّه تعالی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 245

القسم الاربعون التعدید. و یسمی أیضا سیاق الاعداد

هو ایقاع أسماء مفردة علی سیاق واحد، فإن روعی فی ذلك ازدواج أو لزوم تجنیس أو مطابقة أو نحوها، فذلك الغایة فی الحسن كقولهم وضعنا فی یده زمام الحل و العقد. و القبول و الرد. و الامر و النهی. و الاثبات و النفی. و البسط و القبض. و الابرام و النقض، و الهدم و البناء. و المنع و العطاء .. و منه قول المتنبی:
الخیل و اللیل و البیداء تعرفنی‌و الحرب و الطعن و القرطاس و القلم و منه فی القرآن كثیر .. من ذلك قوله تعالی: هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ. و من ذلك قوله تعالی: وَ أَنَّ إِلی رَبِّكَ الْمُنْتَهی وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكی وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْیا وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَیْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثی مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنی وَ أَنَّ عَلَیْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْری وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنی وَ أَقْنی وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْری وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولی وَ ثَمُودَ فَما أَبْقی وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغی .. و منه قوله: وَ اللَّهُ یَقْبِضُ وَ یَبْصُطُ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 246

القسم الحادی و الأربعون الموجّه‌

و هو أن یمدح بشی‌ء یقتضی المدح لشی‌ء آخر كقول المتنبی:
نهبت من الأعمار ما لو حویته‌لهنئت الدّنیا بأنّك خالد أول البیت مدح بفرط الشجاعة و آخره بعلوّ الدرجة. و فی القرآن العظیم منه كثیر .. و منه قوله تعالی: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَی الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ مدحهم فی أول الآیة بالشدة علی الكفار، ثم بالرحمة بینهم، ثم بالخشوع و الخضوع، ثم بالتذلل و حسن المسألة، ثم حسن السیماء و صباحة الوجوه. و مثله قوله تعالی: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ .. و من هذا النوع قوله تبارك و تعالی: وَ یَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَیَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَیْرَ الَّذِی تَقُولُ یجوز ان تكون- تقول- راجعة إلی- الطائفة- و یجوز أن تكون عائدة علی النبی صلی اللّه علیه و سلم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 247

القسم الثانی و الأربعون المحتمل الضدین‌

و هو أن یكون الكلام محتملا للشی‌ء و ضده. و منه فی القرآن العظیم كثیر. من ذلك قوله تعالی: وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ یَأْخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصْباً یحتمل أن یكون أراد بورائهم- أمامهم و یحتمل أن یكون- وراءهم- و هو یطلبهم و منه قوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ- و القرء- یطلق علی الحیض و الطهر. و مثل ذلك قوله تعالی: قالَ إِنَّهُ یَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ قال المفسرون أراد سوداء.
و مثله فی الشعر قول الشاعر:
یغادر الجونة أن تغیبا
- و الجون- الأسود- و الجون- الأبیض و هو من الأضداد .. و منه قول بشار فی رجل خاط له قباء و كان الخیاط أعور:
خاط لی زید قباءلیت عینیه سواء
فأحاجی الناس طرّاأ مدیحا أم هجاء و كان سبب ذلك أن بشارا خاط له زید قباء فقال هذا إن شئت لبسته علی وجهه و إن شئت لبسته علی بطانته فقال له بشار و أنا أقول فیك شعرا إن شئت جعلته مدحا و إن شئت جعلته ذمّا و أنشده البیتین .. و قد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 248
أخذ المتنبی هذا المعنی فقال:
أیا ابن كروّس یا نصف أعمی‌و ان تفخر فیا نصف البصیر و كان ابن كروّس أعور .. و ینخرط فی هذا السلك قوله تعالی:
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِیمُ الرَّشِیدُ إذا جعل هذا من باب التهكم به و الإزراء علیه كان ذما. و لهذا قال بعض المفسرین أرادوا- إنّك لأنت الأحمق السفیه- و إن أرید به المدح فالتقدیر- انك أنت الكامل الحلیم الرشید فكیف یبدو منك مثل هذا لأنه ذكر الحلیم و الرشید بالالف و اللام التی هی لاستغراق الجنس أو للعهد .. و مثله فی السنة قول النبی صلی اللّه علیه و سلم- من جعل قاضیا ذبح بغیر سكین- فإن أرید به الذم یكون التقدیر من جعل قاضیا فقد قتل بغیر سكین لأنه لیس فی قدرته إقامة الحق علی وجهه و اجراء الأحكام علی القانون المستقیم، فیكون قد كلف ما لا طاقة به، و من كلف ما لا طاقة له به فهو فی ألم شدید یشبه ألم من ذبح بغیر سكین، و من أراد المدح قال إنه لشدة تحرزه فی أحكامه و اجتهاده فی نقضه و ابرامه و إنعامه النظر فیما یحدث من الوقائع و یتجدد من خفایا الاحكام و النظر فی أمر الوصایا و مال الایتام إلی غیر ذلك من الأمور المشقة یحصل له من الألم مقدار ألم من ذبح بغیر سكین، بل أشد لأن من ذبح بغیر سكین یقاسی الألم فی حال ذبحه، ثم یستریح، و الحاكم بهذه الأمور مستمر التعب دائم النكد مشتغل القلب منقسم الفكر دائم النظر، فنسأل اللّه اللطف بنا و به إنه علی ما یشاء قدیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 249

القسم الثالث و الأربعون التجرید

و هو علی قسمین .. الأول خطاب الغیر، و المراد به المتكلم، و هو أولی باسم التجرید، و فائدته مع التوسع فی الكلام أن یثبت الإنسان لنفسه ما لا یلیق التصریح بثبوته له، و ذلك قد یكون فضیلة كقول الحیص بیص:
إلام یراك المجد فی زیّ شاعرو قد نحلت شوقا فروع المنابر
و أنت نصبت الشعر علما و حكمةببعضهما ینقاد صعب المفاخر
أما و أبیك الخیر انك فارس‌المقال و محیی الدّارسات الغوائر
و إنك أتعبت المسامع و النّهی‌بقولك عما فی بطون الدّفاتر - و قد تكون لنقیصه و لكن یؤثر إبداؤه إما لتشكّ كقول النابغة:
حننت إلی ریّا و نفسك باعدت مزارك من ریّا و شعبا كما معا
فما حسن أن تأتی الأمر طائعاو تجزع إن داعی الصبابة أسمعا
و أذكر أیام الحمی ثم انثنی‌علی كبدی من خشیة أن تقطّعا
بنفسی تلك الأرض ما أطیب الرّباو ما أحسن المصطاف و المتربعا - أو یكون لغیر التشكی و ذلك كالاعتذار كما قال المتنبی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 250 لا خیل عندك تهدیها و لا مال‌فلیسعد النطق إن لم تسعد الحال
و اجز الأمیر الّذی نعماه بادیةبغیر قول و نعمی القوم أقوال - القسم الثانی خطاب المتكلم لنفسه مخیلا لها أنّ معه غیره كما قیل:
أقول للنفس تأساء و تعزیةإحدی یدیّ أصابتنی و لم ترد و هذا النوع فی القرآن العظیم منه كثیر و سنذكره فی فصل تلوین الخطاب إن شاء اللّه تعالی، و قد ذكرنا منه طرفا فی أنواع الالتفات، فانظره هناك فهو كثیر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 251

القسم الرابع و الأربعون الرجوع و الاستدراك‌

و هو من أنواع الاعتراض، و لكن علماء هذا الشأن أفردوا له بابا.
و هو علی قسمین .. الأول أن تذكر شیئا و ترجع عنه كقولهم: و اللّه ما معه من العقل شی‌ء، الّا مقدار ما یوجب الحجة علیه كقول زهیر:
قف بالدّیار التی لم یعفها القدم‌بلی و غیرها الأرواح و الدّیم - القسم الثانی من الاستدراك: هو أن یبتدئ كلامه بما یوهم السامع أنه هجو، ثم یستدرك و یأخذ فی المدح كقول أبی مقاتل الضریر:
لا تقل بشری و لكن بشریان‌غرّة الدّاعی و یوم المهرجان و هذا النوع غیر مستحسن عند الحذاق، فإنّ السامع ربما یتطیر من أول الكلام فیتأذی و لا یلتذ بما بعده، و الاستدراك فی الكتاب العزیز كثیر كقوله تعالی: بَلی مَنْ كَسَبَ سَیِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِیئَتُهُ. و قوله تعالی: بَلی مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ. و قوله تعالی:
لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ علی قراءة من خفف فرفع- البرّ- و قوله تعالی: وَ إِنْ مِنْ شَیْ‌ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ و قوله تعالی: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلی وَ لكِنْ لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِی.
و فی القرآن كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 252

القسم الخامس و الأربعون السؤال و الجواب‌

و هو أن یحكی كلاما بقال، ثم یجیبه بقال أیضا. و هو فی القرآن العظیم كثیر .. من ذلك قوله تعالی: وَ إِذْ قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ إلی قوله: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا یَفْعَلُونَ. و منه قوله تعالی:
قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِینَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِینَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِینَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِی أُرْسِلَ إِلَیْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَیْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَیْرِی لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِینَ قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَیْ‌ءٍ مُبِینٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِینَ. و فی الشعر منه كثیر من ذلك قول امرئ القیس:
و یوم دخلت الخدر خدر عنیزةفقالت لك الویلات إنك مرجلی
فقلت لها سیری و ارخی زمامهاو لا تمنعینا من جناك المعلّل و من بدیعه قول بعض المتأخرین:
و كاملة الأوصاف وافرة الحیاإذا افتخرت بالحسن اعجزها المثل
شكوت إلیها ما أجنّ من الجوی‌فقالت إذا اشتدّ الجفا عذب الوصل
فقلت أصمّ العاذلون مسامعی‌فقالت إذا صحّ الهوی بطل العذل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 253 فقلت فما ذا عندكم لمدلّةفقالت له إما الحیاة أو القتل
اذا شئت أن تحظی لدینا فكن لنافریدا فلا مال لدیك و لا أهل
فكم هلكت فی حبّنا من معاشرو ما نهلوا صفو الحیاة و لا علّوا
و لا ظفروا منا بأیسر طائل‌أ تطمع بالتفریط فی وصلنا جهل - و من ذلك قول الباخرزی:
قد قلت لها هجرتنی ما العلّه‌صدّت و تمایلت و قالت قل له قال علماء البیان: أحسن هذا النوع ما كثرت فیه القلقلة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 254

القسم السادس و الأربعون التوهم. و یسمی الإیهام أیضا

و هو أن یجاء بكلمة توهم أخری. و منه قوله تعالی: یَوْمَئِذٍ یُوَفِّیهِمُ اللَّهُ دِینَهُمُ الْحَقَ یوهم من لا یفهم أو یعلم العربیة أن دینهم حقّ لأن دینهم اذا قرأها بالرفع من لا یفهم و لا یعلم العربیة، اقتضی ذلك أن دینهم حق، و لیس كذلك. و منه قوله تعالی: قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ من لا یفهم العربیة و لا یفهم المعنی یعتقد أن ما نافیة و أنه لیس عند اللّه خیر من اللهو و من التجارة. و منه قوله تعالی:
إِنَّما یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ و من لا یعرف العربیة إذا سمع هذه الآیة اعتقد أن اللّه تعالی یخشی العلماء و العارف بالعربیة و القراءة ینصب الجلالة، و یرفع العلماء فیظهر له أن العلماء هم الذین یخشون اللّه.
و منه قوله تعالی: فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ من لا یعلم المعنی اعتقد أن الویل لاحق بالمصلین، و لهذا قال بعض الجهال:
ما قال ربك ویل للذین سهوابل قال ربّك ویل للمصلّینا - و قد یقع من ذلك فی الشعر كثیر. و منه قول سحیم:
فجال علی وحشیّه و تخاله‌علی ظهره سبّا جدیدا یمانیا فقوله- یمانیا- یوهم أنه شباّ بالشین. و كذلك قول المتنبی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 255
فإنّ الفئام الذی حوله لتحسد أرجلها الأرؤسا فقوله- أرجلها- یوهم أنه القیام بالقاف، و إنما هو بالفاء و الفئام الجماعات.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 256

القسم السابع و الأربعون التشعیب‌

و هو أن یكون فی صدر الكلام كلمة من عجزه مثل قوله تعالی:
قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. و قوله تعالی: وَ لَئِنْ أَتَیْتَ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آیَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ.
و مثل قول الشیخ أبی العلاء:
قد أورقت عمد الخیام و أعشبت‌شعب الرحال و لون رأسی أغبر
و لقد سلوت عن الشباب كما سلاغیری و لكنّ للحزین تذكّر - و قال آخر:
و ما هجرتك النفس یا عزّ أنّهاقتلتك و لكن قلّ منك نصیبها
و لكنّهم یا أحسن النّاس أولعوابقول إذا ما جئت هذا حبیبها
أهابك إجلالا و ما بك قدرةعلیّ و لكن مل‌ء عین حبیبها
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 257

القسم الثامن و الأربعون الاستثناء

و هو أن یذكر شیئا ثم یرجع عنه، أو یدخل شیئا ثم یخرج منه بعضه. أما الاستثناء ففی القرآن منه كثیر. فمنه قوله تعالی: حُرِّمَتْ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ إلی قوله تعالی: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَیْهِ. و منه قوله تعالی: قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ یَكُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ. و مثله فی القرآن كثیر. و أما الرجوع فلا ینبغی أن یكون فی القرآن منه شی‌ء لأن المتكلم به لا یلیق بجلاله أن یوصف بالرجوع عن شی‌ء. و أما ما سوی القرآن ففیه منه كثیر من ذلك فی الاستعمال قولهم- لیس له عقل الا ما تقوم علیه به الحجة- و أما فی الشعر فقد ورد فی أشعار كثیرة ..
منها:
أ لیس قلیلا نظرة إن نظرتهاإلیك و لكن لیس منك قلیل - و منه قول الآخر:
و ما بی انتصار إن عدا الدّهر ظالماعلیّ بلی إن كان من عندك النّصر - و منه قول النابغة:
و لا عیب فیهم أنّ سیوفهم‌بهنّ فلول من قراع الكتائب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 258

القسم التاسع و الاربعون الغرابة .. و الظرافة .. و السهولة

أما الغرابة فقال ابن قدامة .. هی أن یكون المعنی مما لم یسبق إلیه علی جهة الاستحسان فیقال ظریف و غریب، و إذا كان عدیم المثال، أو قلیله، و القرآن العظیم كله سهل ممتنع ألفاظه سهلة و معانیه نادرة و أسلوبه غریب قد مازجت القلوب عذوبته و حلت فی العیون طلاوته، وراق فی الأسماع سماعه، و استقر فی الطباع انطباعه، فلهذا لم یسأم علی ترداده و لم تمله النفوس علی دوام ایراده، فكل آیة منه حسنة المساق، و كل كلمة منه عذبة المذاق، و كل معنی منه دقّ و رقّ .. و من هذا النوع فی أشعار العرب المخضرمین و المتأخرین كثیر لا یحصی .. فمن ذلك قول بعض العرب:
هوی صاحبی ریح الشمال إذا جرت‌و أشفی لقلبی أن تهبّ جنوب
یقولون لو عزّیت قلبك لارعوی‌فقلت و هل للعاشقین قلوب - و قال آخر:
و لا تحسبنا هندا لها الغدر وحدهاسجیة نفس كلّ غانیة هند
فما خلف أجفانی شئون بخیلةو لا بین أضلاعی لها حجر صلد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 259
- و قال آخر:
تقول نساء الحیّ تأمل أن تری‌محاسن لیلی مت بداء المطامع
و كیف تری لیلی بعین تری بهاسواها و ما طهّرتها بالمدامع
و تلتذّ منها بالحدیث و قد جری‌حدیث سواها فی خروق المسامع - و قال آخر:
لا خیر فی الحبّ وقفا لا تحركه‌عوارض الیأس أو یرتاحه الطمع
لو كان لی صبرها أو عندها جزعی‌لكنت أملك ما آتی و ما أدع
إذا دعی باسمها داع لیحزننی‌كادت له شعبة من مهجتی تقع
لا أحمل اللوم فیها و الغرام بهاما كلّف اللّه نفسا فوق ما تسع - و قال مسلم بن الولید:
عینی لعینك حین تنظر «1»لكنّ عینك سهم حتف مرسل
و من العجائب أنّ معنی واحداهو منك سهم و هو منی مقتل - و قال آخر:
و ما ذا عسی الواشون أن یتحدّثواسوی أن یقولوا إننی لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت عزیزةعلیّ و إن لم تصف منك الخلائق - و قال أبو تمام:
أقول و قد قالوا استرحت بموتهامن الكرب روح الموت شرّ من الكرب
______________________________
(1) كذا فی الأصل و لم نقف علیه فی المطبوع من شعره.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 260
- و قوله أیضا:
و قالوا عزاء الموت للنّفس مدفع‌فقلت و لا للحزن مذ مات مدفع و من الغریب السهل الظریف قول أبی تمام فی قصیدته التی أولها:
ما فی وقوفك ساعة من بأس‌تحیی بقایا الأربع الأدراس
إقدام عمرو فی سماحة حاتم‌فی حلم أحنف فی ذكاء إیاس
لا تنكروا ضربی له من دونه‌مثلا شرودا فی الندی و البأس
فاللّه قد ضرب الأقلّ لنوره‌مثلا من المشكاة و النّبراس و هذه الأبیات علی غایة من الغرابة، و علی نهایة من الظرافة و الإطابة، أغرب ما فیها أن أبا تمام لما أنشد قوله:
إقدام عمرو فی سماحة حاتم‌فی حلم أحنف فی ذكاء إیاس قال بعض من حضر فی مجلس الخلافة، شبه أمیر المؤمنین بكل بوال علی عقبیه، فأنشد فی الحال بدیها:
لا تنكروا ضربی له من دونه‌البیتین فقال له الخلیفة تمنّ فقال تمنیت الموصل، فكأن الخلیفة توقف عن ذلك فقال له حكیم عنده اعطها له فانه لا یصل إلیها فإننی من قوة فكرته شممت رائحة كبده، فتوجه إلیها فمات فی الطریق. و هذا النوع القرآن كله منه فإنه من غرابة الأسلوب و بداعة السیاق و جودة الاتساق علی غایة لا تدرك و طریقة لبعد مثالها لا تسلك .. و من هذا النوع قول زهیر:
و ما كان من خیر كبیر فإنّماتوارثه آباء آبائهم قبل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 261 و هل ینبت الخطی الّا وشیجه‌و تغرس إلّا فی منابتها النخل
علی مكثریهم حقّ من یعتریهم‌و عند المقلّین السماحة و البذل قال المصنف عفا اللّه عنه: هذا البیت قد ذكر أرباب هذه الصناعة أنه أمدح بیت قالته العرب، و قد طعن علیه بعض الحذاق منهم، و ذكر فیه عیوبا منها أنهم لو كانوا كرماء ما كان فیهم مقل. و منها أنه جعل حق المعتری علی المكثرین واجبا علیهم، و لم یوجبه علی المقلین، فكان المكثرون علیهم إكرام الضیف واجبا، و لم یكن واجبا علی المقلین، فاقتضی ذلك أن یكون إعطاء المكثرین عن كظم، و إعطاء المقلین عن كرم، فصار المقلون أحسن حالا من المكثرین و أكرم أنفسا، و علیه مآخذ غیر هذه، و لسنا بصدد استیفائها، و هذا الباب واسع جدا، و ما ذكرناه فیه مقنع.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 262

القسم الموفی خمسین ما یوهم فسادا. و لیس بفساد

و هو أن یقرن الناظم أو الناثر كلاما بما لیس یناسبه، أو یقدم التشبیه علی ذكر المشبه .. و منه فی القرآن كثیر، و كذلك فی أشعار العرب .. أما القرآن. فمنه قوله تعالی: حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطی قرنها بقوله: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ الآیة و اتبعها. بقوله:
وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِیَّةً الآیة فلیس قبلها و بعدها ما یناسبها. و منه قوله تعالی: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِیها وَ لا تَعْری وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِیها وَ لا تَضْحی الذی یقتضیه المعنی المناسب ظاهرا أن یقول أنّ لك أن لا تجوع فیها و لا تظمأ، و أنك لا تعری فیها و لا تضحی.
و منه قوله تعالی: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِی الْیَتامی فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و غیر العالم المطلع علی خفایا معانی القرآن العظیم یظن فی ذلك كله عدم المناسبة، و لیس الأمر كذلك بل ما ورد به القرآن العزیز هو الأحسن، و سنذكر إن شاء اللّه المناسبة فی ذلك .. فأما آیة الیتامی فقد ذكر أئمة التفسیر فی المناسبة وجوها. أحدها ما روی عن عائشة رضی اللّه عنها قالت هذا فی الیتیمة تكون عند وصیها فیعجبه حسنها و مالها فیمنعها عن الأزواج لیتزوجها بمهر دون مهر مثلها، و یحوز مالها فأعلم اللّه المؤمنین أن من خشی منهم أن یقع فی مثل ذلك مع الیتامی، فلینكح ما طاب له من النساء من غیر الیتامی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 263
و قیل المعنی فإن كنتم من التقوی علی حد تخشون أن تلوا مال الیتیم خشیة عدم الاقساط، فانكحوا ما طاب لكم من النساء یعنی اثنتین أو ثلاثا أو أربعا فإنّ من كان بهذه المثابة من خوف اللّه و التقوی لا یخشی علیه من الجور و المیل، و عدم العدل بین نسائه بدلیل ما عقبه به من قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً و قد ذكر أئمة التفسیر فی الجمع غیر ذلك اقتصرنا علی هذا خشیة التطویل. و أما آدم علیه السلام فقد تقدم فی المناسبة انها تارة یقصد فیها مناسبة اللفظ، و المعنی، و تارة یراعی فیها مناسبة اللفظ فقط و تارة یراعی فیها مناسبة المعنی، و هذه الآیة منه و هو الذی أرید لأن- الجوع- خلو الباطن عن الغذاء- و التعری- خلو الظاهر عن الثیاب- و الظمأ- احتراق الباطن بالحرارة- و الضحی- احتراق الظاهر فظهرت المناسبة من حیث المعنی فیها .. و أما آیة الصلوات و المحافظة علیها فقد سئل عنها بعض أجلة أهل العلم رضی اللّه عنهم فقال لما أمر اللّه تبارك و تعالی بالمحافظة علی حقوق الخلق ذكر لهم حقوقه و هو الصلاة لیجمع لهم فی التعلیم بین مراعاة حقوق الخلق و الحق، لیحصل لهم الكمال، ثم لما كانت حقوق الآدمیین منها ما هو متعلق بالحیاة، و قد ذكر ذلك قبلها ناسب أن یذكر الحقوق المتعلقة بالممات بعدها.
و قد ذكر أهل التفسیر رضی اللّه عنهم فیها أجوبة كثیرة اقتصرنا علی هذا منها. و قد وقع فی اشعار العرب الأقدمین و المتقدمین من الإسلامیین و المتأخرین من هذا النوع كثیر. من ذلك قول امرئ القیس:
كأنی لم أركب جوادا للذةو لم اتبطّن كاعبا ذات خلخال
و لم أسبأ الزق الرّویّ و لم أقل‌لخیلی كرّی كرّة بعد إجفال - قال بعض النقاد إن هذا فاسد لأنه جعل التغزل مجاورا للشجاعة فی البیتین و الأجود أن یجاور الشجاعة بالشجاعة، و الغزل بالغزل فیقول:
«كأنی لم أركب جوادا و لم أقل‌لخیلی كرّی كرّة بعد اجفال
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 264 و لم أسبأ الزّق الروی للذةو لم أتبطن كاعبا ذات خلخال - و من هذا النوع قول المتنبی:
وقفت و ما فی الموت شك لواقف‌كأنّك فی جفن الرّدی و هو نائم
تمرّ بك الابطال جرحی هزیمةو وجهك وضّاح و ثغرك باسم - و هذا الذی ذكره النقاد قد رده جماعة من الحذاق بما حكی أن سیف الدولة قال للمتنبی، هذا فاسد المجاورة، لأنك أتیت بالتشبیه قبل ذكر المشبه و الأجود أن تقول:
وقفت و ما فی الموت شك لواقف‌و وجهك وضاح و ثغرك باسم
تمرّ بك الابطال كلمی هزیمةكأنك فی جفن الرّدی و هو نائم - فقال المتنبی أیّد اللّه مولانا الأمیر إن صح الذی استدرك صح الذی استدرك علی امرئ القیس، و هو أعلم بالشعر منّی، فقد أخطأ امرؤ القیس و أسأت أنا و مولانا یعرف أن الثوب لا یعرفه البزاز كمعرفة الناسج، لأن البزّاز یعرف جملته و الحائك یعرف جملته و تفاریقه لأنه هو الذی أخرجه من الغزلیة إلی الثوبیة ..
و إنما قرن امرؤ القیس لذة النساء بلذة ركوب الخیل للصید، و قرن السماحة فی سباء الخمر للأضیاف بالشجاعة فی منازلة الاعداء، و أنا ذكرت الموت فی أول البیت فأتبعته بذكر الردی، و هو الموت لتجانسهما، و لما كان الجریح المنهزم لا یخلو وجهه من أن یكون عبوسا و عینه من أن تكون باكیة قلت- و وجهك وضّاح و ثغرك باسم- لأجمع بین الأضداد فی المعنی، و ان لم یتسع اللفظ لجمعهما فأعجب سیف الدولة بقوله و وصله بخمسین دینارا .. و من ذلك قول بعضهم:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 265 فإنّك إن تهجو تمیما و ترتشی‌سرابیل قیس أو سحوق العمائم
كمهرق ماء فی الفلاة و غرّه‌سراب أذاعته ریاح السمائم - و قال آخر:
إنی و تركی ندا الأكرمین‌و قدحی بكفّی زنادا شحاحا
كتاركة بیضها بالعراء و ملبسة بیض أخری جناحا یجب ان یكون كل بیت من الأولین مع بیت من الآخرین، لأنه أجود و أنسب .. و من هذا النوع أیضا قول الشاعر:
فیا أیها الحیران فی ظلمة الدّجی‌و من خاف أن یلقاه بغی من العدا
تعال الیه تلق من نور وجهه‌دلیلا و من كفّیه بحرا من النّدا قال النقّاد هذا فاسد التفسیر، لأنه قابل البغی بالسماحة، و كان یجب أن یقابل بغیر ذلك فیقول تنظر أسدا حامیا و لیثا مانعا. و قد قیل فی هذا البیت انه دل علی الشجاعة بلازمها لأن الشجاع لا یكون بخیلا، و لذلك قال الشاعر:
لا تطلبنّ من البخیل شجاعةإنّ البخیل یخاف أسباب الرّدی
من لا یجود بماله یوم النداأنّی یجود بنفسه یوم اللقا و قد تعسف لهذه الابیات وجوه من المعانی، و ضروب من التصحیح تخرج بها من أن تكون فاسدة، لیس هذا موضع استیفائها و فیما ذكرت كفایة و مقنع و اللّه الهادی و الموفق.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 266

القسم الحادی و الخمسون فی النادر و البارد

فأما البارد فلیس فی القرآن العظیم منه شی‌ء، و سیأتی بیانه فی الفن الثالث الذی لیس فی القرآن العظیم منه شی‌ء .. و أما النادر فالقرآن مشحون به فإن أكثر ألفاظه نادرة الوجود و معانیه مستوفیة للمقصود كل كلمة منه جامعة لمعان شتی، و كل آیة تحتوی علی معان لغیر المتكلم به لا تتأتی، و كل سورة إحكام أحكامها لا ینحصر، و إعجاز إیجازها قد أعجز البشر، و فیه النادر الحسن و الأحسن .. فمن الآیات التی لم ینسج علی منوالها و لا سمحت قریحة بمثالها قوله تعالی: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ إلی قوله: وَ قِیلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ و لهذا انّ ابن المقفع لما عارض القرآن و وصل إلی هذه الآیة قال هذا مما لا یستطیع البشر أن یأتوا بمثله، و ترك المعارضة و مزق ما كان اختلقه. و من ذلك أیضا قوله تعالی: وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ جمعت هذه الآیة أمرین و نهیین و خبرین و وعدین .. و من هذا النوع فی القرآن كثیر، بل القرآن كله حسن و أحسن، و لیس هذا موضع استقصاء الاحسن، و فی أشعار العرب من هذا كثیر و قد تقدم بیانه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 267

القسم الثانی و الخمسون المساواة و التقصیر

و هو أن یكون اللفظ مساویا للمعنی بحیث لا یزید علیه و لا ینقص.
و القرآن العظیم جله بل كله علی هذا النمط. و أما التقصیر فلیس فی القرآن منه شی‌ء و سیأتی بیانه فی الفن الثالث.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 268

القسم الثالث و الخمسون التصریح بعد الإبهام. و یسمی التفسیر

قال أئمة هذا الشأن المراد بالتفسیر بعد الابهام تفخیم المبهم و اعظامه، لأنه هو الذی یطرق السمع أولا فیذهب السامع فیه كل مذهب كقوله تعالی:
وَ قَضَیْنا إِلَیْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِینَ فسر ذلك الأمر بقوله- أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحین- و فی ابهامه أولا و تفسیره بعد ذلك تفخیم للمبهم و تعظیم لشأنه فانه لو قال تعالی- و قضینا الیه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحین- لما كان بهذه المثابة من الفخامة فإنّ الابهام أولا یوقع السامع فی حیرة و تفكر و استعظام لما قرع سمعه فیتشوف إلی معرفة كنهه و الاطلاع علیه و علی حقیقته .. و من هذا الباب قوله تعالی: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ لما جاء فی الاول من التنبیه و الاشعار بأن- الصراط المستقیم- هو صراط المؤمنین فدل علیه بأبلغ وجه كما تقول- هل أدلك علی أكرم الناس و أفضلهم- ثم تقول- فلان- فیكون ذلك أبلغ فی وصفه بالكرم و الفضل من قولك هل أدلك علی فلان الأكرم و الأفضل لأنك بدأت بذكره مجملا ثم بینته مفصلا فجعلته علما فی الكرم و الفضل كأنك قلت من أراد رجلا جامعا للخصلتین جمیعا فعلیه بفلان. و علی نحو من هذا جاء قوله تعالی: وَ قالَ الَّذِی آمَنَ یا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِیلَ الرَّشادِ إلی قوله:
یُرْزَقُونَ فِیها بِغَیْرِ حِسابٍ أ لا تری كیف قال- أهدكم سبیل الرشاد- فأبهم سبیل الرشاد فلم یبین أی سبیل هو، ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنیا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 269
و تصغیر شأنها لأن الإخلاد الیها أصل الشر كله، ثم ثنی ذلك بتعظیم الآخرة و الاطلاع علی حقیقتها و أنها هی الوطن المستقر، ثم ثلث بذكر الأعمال سیئها و حسنها و عاقبة كل منها لیثبط عما یتلف و ینشط لما یزلف، فكأنه قال: سبیل الرشاد هو الإعراض عن الدنیا و الرغبة فی الآخرة، و الامتناع عن الأعمال السیئة خوف المقابلة علیها، و المسارعة إلی الاعمال الصالحة رجاء المجازاة علیها .. و كذلك قوله تعالی: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ و لم یقل قواعد البیت لما فی ابهام القواعد، و لما فی تبیینها بعد ذلك من الإیضاح و تفخیم حال المبهم بما لیس فی الاضافة .. و من هذا الباب قوله تعالی:
وَ قالَ فِرْعَوْنُ یا هامانُ ابْنِ لِی صَرْحاً إلی قوله: فَأَطَّلِعَ إِلی إِلهِ مُوسی الآیة لما أراد تفخیم ما التمس من بلوغه اسباب السموات أبهمها أولا، ثم فسرها ثانیا، و لأنه لما كان بلوغهما أمرا عجیبا أراد أن یورده علی صورة مشوقة إلیه لیعطیه السامع حقه من التعجب، فأبهمه لتتشوف الیه نفس هامان، ثم أوضحه بعد ذلك ..
و مما یدخل فی هذا الباب الابتداء بذكر الضمیر، ثم الافصاح بذكر صاحبه وحده كقوله تعالی: وَ ما تَكُونُ فِی شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فإنه لما أتی بالضمیر الذی هو منه قبل صاحبه الذی هو فی القرآن كان ذلك تفخیما له و تعظیما من أمره و لو قال- و ما تكون فی شأن و ما تتلو من قرآن- و لم یذكر الضمیر لما كان للكلام تلك الفخامة التی كانت له مع ذكر الضمیر .. و مثل هذا قولهم الكریم العالم الفاضل- ثم یقال- فلان- و قد سبق الكلام علیه ..
و أما الابهام من غیر تفسیر فكثیر شائع فی القرآن العزیز كقوله تعالی:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ أی الطریقة أو الحالة أو الملة التی هی أقومها و أشدها، و أیّ ذلك قدرت لم تجد له مع الافصاح ذوق البلاغة الذی تجده مع الإبهام، و ذلك لذهاب الوهم فیه كل مذهب و ایقاعه علی محتملات كثیرة، و هذا لا یخفی علی العالم برموز صناعة التألیف فاعرفه .. و مما یدخل فی هذا الباب الاستثناء العددی، و هو ضرب من التألیف لطیف المأخذ عجیب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 270
المغزی، و إنما یفعل ذلك طلبا للمبالغة لأن له تأثیرا شدیدا فی القلب، و موقعا عظیما فی النفس و فائدته أنه أول ما یطرق سمع المخاطب ذكر العقد فی العدد فیكبر موقع ذلك عنده، و هو شبیه بما ذكرنا من الإبهام، ثم التفسیر بعدهما یسوّی بینهما .. فمن ذلك قوله تعالی: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلی قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِیهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِینَ عاماً فانه انما قال- ألف سنة إلا خمسین عاما- و لم یقل تسعمائة و خمسین عاما لفائدة حسنة و هی ذكر ما ابتلی به نوح علیه الصلاة و السلام من أمّته، و ما كابده من طول المقام لیكون ذلك تسلیة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و تنبیها له، فإن ذكر رأس العدد الذی هو منتهی العقود و أعظمها أوقع و أوصل إلی الغرض من استطالة السامع قوّة صبره، و ما لاقاه من قومه .. و من بدیع التفسیر بعد الابهام قوله تعالی: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنی وَ فُرادی و لو حذف- واحدة- كان الأمر كما ذكرنا و ذهبت تلك الفخامة التی فی الابهام و زال ما فیه من الغموض و انقطع شوق النفس إلی التفسیر و فسر- الواحدة- بقوله أن تقوموا للّه مثنی و فرادی .. و منه قوله تعالی: وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوی فَغَشَّاها ما غَشَّی. و منه قوله تعالی:
فَغَشِیَهُمْ مِنَ الْیَمِّ ما غَشِیَهُمْ. و منه وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِی فَعَلْتَ. و منه فی الاستعمال قولهم فؤاد فیه ما فیه .. و منه قول الشاعر فی وصف الخمر:
فقد مضی ما مضی من عقل شاربهاو فی الزجاجة باق یطلب الباقی - و منه قول الآخر:
مضی ما مضی حتی علا الشیب رأسه‌فلمّا علاه قال للباطل ابعد - و قال آخر:
سأغسل عنی العار بالسّیف جالباعلیّ قضاء اللّه ما كان جالبا فاعرف ذلك و قس علیه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 271

القسم الرابع و الخمسون التعقیب المصدری‌

و انما یعمد إلی ذلك لضرب من التأكید لما تقدّمه و الاشعار بتعظیم شأنه أو بالضد من ذلك .. مثال الأول قوله تعالی: وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ إلی قوله: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فقوله- صنع اللّه- من المصادر المؤكدة لما قبلها و هو كقوله:
وَعَدَ اللَّهُ. و صِبْغَةَ اللَّهِ أ لا تری أنه لما جاء ذكر هذا الأمر العظیم الدال علی القدرة الباهرة من النفخ فی الصور و إحیاء الموتی و الفزع و احضار الناس للحساب، و تسییر الجبال كالسحاب فی سرعتها، و هی عند الرؤیة لها و المشاهدة كأنها جامدة عقّب ذلك بأن قال- صنع اللّه- أی هذا الأمر العجیب البدیع صنع اللّه، و المعنی: و یوم ینفخ فی الصور، و كان كیت و كیت من الأشیاء الباهرة و اثابة اللّه المحسنین، و معاقبة المجرمین، فجعل هذا الصنع من جملة الأمور التی هی أنفسها، و أتی بها علی الحكمة و الصواب حیث قال- صنع اللّه الذی أتقن كل شی‌ء- یعنی أن مقابلة الحسنة بالثواب و السیئة بالعقاب من إحكام الاشیاء و اتقانه لها و اجرائه ایاها علی الحكمة، أی انه عالم بما یفعل العباد، و بما سیرجعون إلیه فیكافئهم علی حسب أفعالهم، ثم لخص ذلك بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلی آخر الآیتین. فانظر أیها المتأمل إلی بداعة هذا الكلام و حسن نظمه و ترتیبه و مكانة ایجازه و فصاحة تفسیره، و أخذ بعضه برقاب بعض، كأنه أفرغ افراغا واحدا، و لأمر ما أعجز القوی و أخرس
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 272
الشقاشق.
و نحو هذا المصدر اذا جاء عقیب الكلام كان كالشاهد بصحته و المنادی علی سداده، و أنه ما كان ینبغی أن یكون إلا ما قد كان أ لا تری إلی قوله- صبغة اللّه. و صنع اللّه. و وعد اللّه. و فطرة اللّه- بعد ما وسمها باضافتها إلیه بسمة التعظیم كیف تلاها بقوله- الذی أتقن كل شی‌ء- .. و أما الثانی و هو ضد الأول و ذلك ما یراد به تصغیر الشأن كقولهم إذا ذكر انسانا یریدون ذمه- قد ركب هواه. و استمر علی غیه. و تمادی علی جهله. و سحب ذیل عجبه- و ما أشبه ذلك ثم یقول- صنع الشیطان الذی غلب النفوس، و میل الألباب- و مثل هذا كثیر فاعرفه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 273

القسم الخامس و الخمسون النفی و الإثبات‌

و هو أعلی ضرب من البلاغة كثیر الفوائد عذب الموارد. و قد تكلم فیه أرباب علم الكلام، و أرباب علم البیان، و قالوا إن نفی الخاص یدل علی ثبوت العام، و لا یدل نفیه علی نفیه. و قد بینا أن زیادة المفهوم فی اللفظ توجب زیادة الالتذاذ به لحصول جملة من الملاذ دفعة واحدة، و لذلك كان نفی العام أحسن من نفی الخاص و إثبات الخاص أحسن من اثبات العام. أما الأول فكقوله تعالی: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و لم یقل بضوئهم لأن النور أعمّ من الضوء إذ یطلق علی الكثیر و القلیل، و إنما یقال الضوء علی القدر الكثیر.
و لذلك قال تعالی: هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً و هاهنا دقیقة و هو أنه قال- ذهب بنورهم- و لم یقل أذهب نورهم لأن الإذهاب بالشی‌ء لا یمنع من عود ذلك الشی‌ء بخلاف الذهاب إذ یفهم من ذلك استصحابه فی الذهاب، و مقتضی ذلك منعه من الرجوع. و كذلك قوله تعالی: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ قالَ یا قَوْمِ لَیْسَ بِی ضَلالَةٌ معناه لا ضلالة واحدة بی و یلزم من ذلك أن لا یثبت له فرد من الضلال البتة و لا كذلك لو قال لیس بی ضلال، لأن اسم الجنس یقال علی الكثیر و القلیل فیجوز أن یكون المنفی هو الكثیر. و مما یشبه ذلك قوله تعالی:
فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فإن هذا یدل علی النهی عن الضرب أیضا، لا علی أن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 274
التأفیف اعم، بل لأن المقصود من منع التأفیف هو الإكرام، و عدم الإهانة، و الإهانة بالضرب أكثر من الإهانة بالتأفیف.
الثانی كقوله تعالی: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ و لم یقل طولها لأن العرض أنقص إذ كلما له عرض فله طول و لا ینعكس. و مما یتعلق بهذا انه إذا كان الشی‌ء یشبه أشیاء بعضها أتم فی التشبیه، أو أوفق من بعض فالأولی و الأهم الاقتصار علی ما هو أتم و أوفق، فإن ذكر الكل فالأولی الابتداء بالأدنی، و الأضعف لیكون انتقال الذهن إلی الأعلی بتدریج، و لأن التشبیه بالأعلی ألذّ، و الانتقال من لذّة إلی ما هو دونها غیر ملذّ و لا مستحسن فلذلك قال الأشتر النخعی:
حمی الحدید علیهم فكأنه‌لمعان برق أو شعاع شموس و إذا كان للشی‌ء صفة یغنی ذكرها عن ذكر صفة أخری، أو یدل علیها كان الاقتصار علیها أولی من ذكرهما، لأن ذكرهما كالتكرار و هو ممل، و إذا ذكر فالأولی تقدیم المدلول علیها و تأخیر الدالة حتی لا تكون الآخرة قد تقدمت الدلالة علیها، و قد یخل بذلك لمقصود آخر كما فی قوله تعالی: وَ كانَ رَسُولًا نَبِیًّا فإنه أخر نبیا لأجل السجع. و إذا كان ثبوت شی‌ء أو نفیه یدل علی ثبوت آخر أو نفیه، كان الأولی الاقتصار علی الدال علی الآخر، فإن ذكرا فالأولی تأخیر الدال، و قد یخل بذلك لمقصود كما فی قوله تعالی: ما لِهذَا الْكِتابِ لا یُغادِرُ صَغِیرَةً وَ لا كَبِیرَةً إِلَّا أَحْصاها و علی قیاس ما قلنا ینبغی أن یقتصر علی صغیرة، و إن ذكرت الكبیرة فلتذكر أولا. و مثله قوله تعالی:
فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما و علی ذلك القیاس یكتفی بقوله- و لا تقل لهما أف- و ان ذكرا فیقول- و لا تنهرهما و لا تقل لهما أفّ- .. و إذا تكررت الصفات فإن كان للمدح فالأولی الانتقال من الأدنی إلی الأعلی لیكون المدیح مزیدا لتزاید الكلام، و إن كان للذم فقد قالوا ینبغی الابتداء بالأشد ذما، و هو مشكل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 275
و قد یجوز أن یستعمل نفی الخاص لنفی العام، و یسمی هذا عكس الظاهر، و هو من المجاز البدیع. و مثاله قول علی رضی اللّه عنه فی وصفه لمجلس رسول اللّه صلی الله علیه و سلم- إنه لا تنثی فلتاته- أی تذاع و المراد أنه لا فلتات له البتة، و إنما یعرف ذلك لأنه نكرة فی معرض المدح و انما یكون كذلك إذا كان المراد ما ذكرناه. و منه- لیس بها ضب فینجحر- و المراد أنه لا ضب بها .. و كذلك قول بعضهم:
تردین جلباب الحیاء فلم یری‌لذیولهنّ علی الطریق غبار
و المراد انهن لا یخرجن و لا یمشین‌و هذا ینبغی أن یكون من باب تنسیق الصفات لكن فیه زیادة و اقتضت إفراده.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 276

القسم السادس و الخمسون فی الضمائر و ما یتعلق بها

اعلم وفقنا اللّه و ایاك ان الضمیر لا یخلو إما أن یكون معلوما أو لا یكون كذلك. فالأول تأكیده بضمیر آخر، و عدم تأكیده بذلك سواء فی البلاغة كما فی قوله تعالی: بِیَدِكَ الْخَیْرُ إِنَّكَ عَلی كُلِّ شَیْ‌ءٍ قَدِیرٌ مع قوله تعالی:
تَعْلَمُ ما فِی نَفْسِی وَ لا أَعْلَمُ ما فِی نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ و ذلك لأن قدرة اللّه تعالی، و علمه معلومان فاستوی حذف الضمیر المؤكد و ثباته معهما.
و الثانی الأولی فیه، و الأفصح تأكید الضمیر بضمیر آخر، و ذلك إذا أرید تقویة المتعلق به، و حینئذ إما أن یكون الضمیران متصلین أو منفصلین أو أحدهما متصل و الآخر منفصل. أما المتصلان فكقوله تعالی: قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِیَّةً بِغَیْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَیْئاً نُكْراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْراً و إنما أكد هنا دون قصة السفینة لارادته فی قصة الغلام زیادة النكر ..
و أما المنفصلان فكقول المتنبی:
فإنّك أنت أنت و أنت منهم‌و جدّك بشر الملك الهمام و الغرض المبالغة فی زیادة المدح .. و أما إذا كان أحد الضمیرین منفصلا و الآخر متصلا فكقوله تعالی: قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلی و هاهنا دقائق. أحدهما الإتیان بلفظة- إنّ- المشددة لتفید تأكید ثبوت ما بعدها.
و ثانیها تكریر الضمیر یدل علی تأكید ما یتعلق به. و ثالثها ذكر- الأعلی- معرّفا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 277
یدل علی أن غیره لا یكون كذلك بخلاف عالی و أعلی. و رابعها أن- الأعلی- بصفة أفعل یشعر بزیادة العلو. و خامسها حذف لام العلة یفید زیادة علة لعدم الخوف لأن قوله- لا تخف- علة لعدم الخوف لأنه نهی عنه و اشتقاقه بعد ذلك بقوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلی- منع أیضا من الخوف لأن الأعلی لا یخاف الأدنی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 278

القسم السابع و الخمسون الفصل و الوصل‌

اشارة

و هو العلم بمواضع العطف و الاستئناف و التهدی إلی كیفیة ایقاع حروف العطف فی مواقعها، و هو من أعظم أركان البلاغة حتی قال بعضهم: حد البلاغة معرفة الفصل و الوصل .. و اعلم أن فائدة العطف التشریك بین المعطوف و المعطوف علیه، ثم من الحروف العاطفة ما لا یفید إلّا هذا القدر، و هو الواو، و هو المراد بالذكر هاهنا و العطف و المعطوف علیه علی ثلاثة أقسام: الأول: عطف مفرد علی مفرد و هو یقتضی التشریك فیما یوجب الإعراب. الثانی: عطف الجمل التی فی قوة الإفراد و یقتضی التشریك أیضا.
الثالث: الجمل التی لیست فی قوة المفرد. و هی علی قسمین: قسم یكون فیه معنی أحد الجملتین لذاته متعلقا بمعنی الأخری، كما إذا كانت كالتوكید لها فلا یجوز إدخال العاطف، لأن التوكید و الصفة متعلقان بالمؤكد و الموصوف لذاتیهما و التعلق الذاتی یغنی عن لفظ یدل علیه، فالتأكید كقوله تعالی:
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ. و كقوله تعالی: وَ إِذا تُتْلی عَلَیْهِ آیاتُنا وَلَّی مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ یَسْمَعْها كَأَنَّ فِی أُذُنَیْهِ وَقْراً و لم یقل و كأن لأن المقصود من التشبیه بمن فی أذنیه وقر التشبیه بمن لا یسمع إلا أن الثانی أبلغ .. و كذلك قوله تعالی: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِینٌ. و قوله تعالی: وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی الاثبات فی الآیتین جمیعا تأكید لنفی ما نفی ..
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 279
و أما قوله تعالی: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِیمٌ فیحتمل أن یكون تأكیدا لقوله: ما هذا بَشَراً إذ المرتفع عن البشریة من المخلوقات إنما هو الملك، و لأن الناس إذا شاهدوا فی الانسان من الخلق الحسن و الخلق الجمیل ما یعجبوا منه، قالوا: ما هذا بشر لأن غرضهم أن یقولوا أنه ملك، فلما كان ذلك مفهوما قبل التصریح به كان التصریح به تأكیدا، و یحتمل أن یكون صفة له فإن اخراجه عن جنس البشریة یتضمن دخوله تحت جنس آخر لا تحت الملك علی الخصوص، فإن القسمة غیر محصورة فی النوعین، فجعله ملكا تعیین لذلك النوع و تمییز له عن غیره. الثانی أن لا یكون بین الجملتین تعلق ذاتیّ، فإن لم یكن بینهما مناسبة فیجب ترك العطف، و لذلك عابوا أبا تمام فی قوله:
لا و الذی هو عالم أنّ الهوی‌صبر و أنّ أبا الحسین كریم إذ لا مناسبة بین مرارة الهوی، و بین كرم أبی الحسین. ثم إن كان المحدث عنه فی الجملتین شیئین لغیر المناسبة فی الذی أخبر بهما، و الذی أخبر عنهما و المراد بالمناسبة أن یكونا متشابهین كقولك: زید كاتب و عمرو شاعر أو متضادین تضادا علی الخصوص، كقولك: زید طویل، و عمرو قصیر، و كقولك العلم حسن، و الجهل قبیح. فلو قلت زید طویل و الخلیفة قصیر أخلّ المعنی عند السامع إذ لم یكن لزید تعلق بحدیث الخلیفة، و لو قلت زید طویل، و عمرو شاعر اختل اللفظ، إذ لا مناسبة بین طول القامة و الشعر ..، و إن كان المحدث عنه فی الجملتین شیئا واحدا كقولك: فلان یقول: و یفعل فیجب الاتیان بالعاطف فإن الغرض جعله فاعلا للأمرین، و ترك العاطف یوهم أن الثانی رجوع عن الأول و الاجتماع لزیادة الاشتراك كقولك العجب من إنك تنهی عن شی‌ء و تأتی مثله. و كقول الشاعر:
لا تطمعوا أن تهینونا و نكرمكم‌و أن نكفّ الأذی عنكم و تؤذونا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 280
أی لا تطمعوا أن تروا اكرامنا ایاكم یوجد مع اهانتكم ایانا و یجامعها فی الحصول .. و العاطف تارة یجب اسقاطه، و تارة یجب كإثباته، و تارة یخیر بین اسقاطه و اثباته .. أما الذی یجب اسقاطه، فهو اذا كان اثباته یخل بالمعنی كقوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فقوله- ألا انهم هم المفسدون- كلام مستأنف و هو إخبار من اللّه تعالی، فلو أتی بالواو العاطفة لكان اخبارا عن الیهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم مفسدون فیختل المعنی و یتناقض الكلام .. و كذلك قوله تعالی: وَ إِذا خَلَوْا إِلی شَیاطِینِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ یَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فهذا إخبار من اللّه تعالی، و فی الحقیقة جواب سؤال مقدر لأنه تعالی لما أخبر عنهم بأنهم قالوا: كیت و كیت تشوّف السامعون إلی العلم بمصیر أمرهم، فكأنه قیل: فما ذا فعل اللّه بهم؟ فقال: اللَّهُ یَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ یَمُدُّهُمْ فِی طُغْیانِهِمْ یَعْمَهُونَ .. و أما ما یجب اثبات العاطف فیه فقوله تعالی: یُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ فان كل واحدة من الجملتین خبر من اللّه تعالی.
و مثله فی القرآن و اثباته لا یفید معنی زائدا. و سیأتی بیان ذلك إن شاء اللّه تعالی.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 281

فصل یشتمل علی ذكر جمل عطف بعضها علی بعض بالواو. و الفاء. و ثم. و اختلاف معانیها

فمن ذلك قوله تعالی: هُوَ یُطْعِمُنِی وَ یَسْقِینِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ وَ الَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحْیِینِ عطف أولا بالواو، لأن الاطعام و الاسقاء لیس فیهما ترتیب واجب مع أن تأخیر الإسقاء أولی، و لذلك أخره فی الذكر، و عطف ثانیا بالفاء إذ لا مهلة بین المرض و الشفاء و عطف بثم لما بین الإماتة و الاحیاء من المهلة، و مع ذلك نسب الموت الی اللّه لما فی ذلك من إظهار القدرة و القهر، و نسب المرض إلی نفسه، لأن الادب أن لا ینسب الی اللّه تعالی الّا ما یحمد و الموت، و إن كان مذموما لكنه عند قاتل هذا محمود لأنه علی یقین من السعادة الأخرویة.
و من ذلك قوله تعالی: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِیًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلی جِذْعِ النَّخْلَةِ إنما عطف بالفاء مع أن بین مجی‌ء المخاض و الحمل مهلة، لأن المهلة التی بین حملها و مخاضها كانت مدة یسیرة قیل كانت یوما، و قیل كانت ثلاث ساعات، و علیه أكثر المفسرین حتی یتمیز حملها عن سائر النساء، و یكون ذلك كرامة لها. فعلی هذا یكون المراد بالآیة بیان ذلك .. و جمیع أفعال المطاوعة إذا كانت علی معانیها فإنما یعطف علیها بالفاء، لا الواو، و تقول دعوته: فأجاب و أعطیته فأخذ و لا یحسن أعطیته، و أخذ و لا دعوته و أجاب قال اللّه تعالی حكایة عن ابلیس: وَ ما كانَ لِی عَلَیْكُمْ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 282
مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی و كذلك تقول كسرته فانكسر و لا تقول كسرته و انكسر. و أما إذا كان فعل المطاوعة علی غیر معناه فقد یحسن العطف علیه بالواو كما فی قوله تعالی: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ. و من المعطوف بالواو أیضا قوله تعالی: وَ إِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلی هُدیً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ و لو قال لفی هدی، أو علی ضلال لم یحسن لأن- علی- تفید الاستعلاء، و هو مناسب للحق- و فی- تفید الوعاء و الكافر كأنه مغموس فی الضلال .. و من هذا النوع قوله تعالی: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ ما عدل عن اللام فی الأصناف الأخیرة الا لبیان أن تلك الأصناف أحق بالصدقات ینبغی أن توضع فیهم وضع الشی‌ء فی الوعاء، و كرر فی البیان أن سبیل اللّه أولی بذلك فتأمله فهو كثیر فی القرآن.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 283

القسم الثامن و الخمسون فی الوصف‌

و الوصف أصله الكشف و الاظهار من قولهم- وصف الثوب الجسم- إذا لم یستره و نم علیه .. و أحسنه ما یكاد یمثل الموصوف عیانا، و لأجل ذلك قال بعضهم: أحسن الوصف ما قلب السمع بصرا .. و منه فی القرآن العظیم كثیر مثل قوله تعالی فی وصف البقرة التی أمر بنو اسرائیل بذبحها لما سألوا أن توصف لهم بقولهم: ادْعُ لَنا رَبَّكَ یُبَیِّنْ لَنا ما هِیَ قالَ إِنَّهُ یَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَیْنَ ذلِكَ و قوله لما سألوه أن یصف لهم لونها: قالَ إِنَّهُ یَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِینَ و قوله لما سألوه بیان فعلها قال انه: یَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِیرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِی الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِیَةَ فِیها فجمع فی هذه الآیة جمیع الأحوال التی یضبط بها وصف الحیوان فإن الحیوان عند البیع و الإجارة و سائر وجوه التملیكات یحتاج فیه إلی معرفة سنه و لونه و عمله، ثم یفتقر فیه إلی معرفة عیوبه فنفی اللّه سبحانه و تعالی عن تلك البقرة كل عیب- بقوله- لا شیة فیها- فجمع فی هذه الآیة جمیع وجوه الوصف فإنه فی الأول وصف سنها و فی الثانی وصف لونها، و فی الثالث وصف خلقها و عملها .. و من ذلك قوله تعالی: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أی صفة الجنة التی وعد المتقون كیت و كیت. و منه قوله تعالی: مَثَلُ ما یُنْفِقُونَ فِی هذِهِ الْحَیاةِ الدُّنْیا. و قوله تعالی: الَّذِینَ یُنْفِقُونَ الآیة. و قوله تعالی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 284
مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا الآیة .. و من هذا الباب فی القرآن كثیر لا یحصی، و كذلك فی السنة النبویة، و كذلك فی الشعر .. و من بدیع ما ورد فی الشعر قول أبی تمام فی وصف سحابة:
دیمة سحت العهاد سكوب‌مستغیث بها الثری المكروب
لو سعت بقعة لا عظام أخری‌لسعی نحوها المكان الجدیب - و الوصف قریب من التشبیه الّا أن الفرق بینهما أن التشبیه مجاز و الوصف راجع إلی حقیقته و ذاته. و فی القرآن العظیم و الكلام الفصیح منه كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 285

القسم التاسع و الخمسون تنسیق الصفات بغیر حرف نسق‌

و هو أن تصف الشی‌ء بصفات عدیدة متوالیة، إما لتعظیمه، و إما لتحقیره، و إما لبیان خصوصیة فیه. و منه فی الكتاب العزیز كثیر .. أما فی التعظیم فمثل قوله تعالی: هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِیمُ الی آخر السورة. و أما فی التحقیر فكقوله تعالی: وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِینٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِیمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَیْرِ مُعْتَدٍ أَثِیمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِیمٍ.
و ما لبیان الخصوصیة و اظهار الكرامة فكقوله تعالی: عَسی رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ یُبْدِلَهُ أَزْواجاً الآیة. و منه فی السنة النبویة قوله صلی اللّه علیهم و سلم-» أ لا أخبركم بأحبكم إلیّ و أقربكم منی مجالس یوم القیامة أحاسنكم أخلاقا المؤطئون أكنافا الّذین یألفون و یؤلفون»- و من الذم- أ لا أخبركم بأبغضكم إلیّ و أبعدكم منی مجالس یوم القیامة أساوئكم أخلاقا الثرثارون المتفیهقون- .. و من هذا النوع فی الشعر كثیر. من ذلك قول العباس یمدح رسول اللّه صلی علیه و سلم:
و أبیض یستسقی الغمام بوجهه‌ثمال الیتامی عصمة للأرامل - و قول حسان:
بیض الوجوه كریمة أحسابهم‌شمّ الأنوف من الطراز الأوّل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 286

القسم الستون حسن النسق‌

و هو أن تأتی بكلمات من النثر أو النظم متتالیات و متعاقبات منسوقة بعضها علی بعض بحرف العطف، كل كلمة إذا أفردت كانت تقوم بمعنی مفرد مستقبل، و كل بیت إذا جرد من تلوه استقل معناه و لم یفتقر إلی غیره، و إن ضم إلیه تلوه صارا كأنهما بیتا واحدا .. و منه فی الكتاب العزیز قوله تعالی: وَ قِیلَ یا أَرْضُ ابْلَعِی ماءَكِ وَ یا سَماءُ أَقْلِعِی وَ غِیضَ الْماءُ وَ قُضِیَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَی الْجُودِیِّ وَ قِیلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ فأنت تری هذه الجمل معطوفا بعضها علی بعض بواو النسق علی الترتیب الذی تقتضیه البلاغة، لأنه سبحانه بدأ بالأهم إذ كان المراد إطلاق أهل السفینة من سجنها، و لا یتهیأ لذلك الّا بانكشاف الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض فأمرها بالانقلاع، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما علیها و لم تنقطع مادة السماء تأذّی بذلك اهل السفینة عند خروجهم منها، و ربما ینزل من السماء أكثر مما تبتلع الأرض فأمرها بالاقلاع بعد أن أمر الارض بالابتلاع، ثم أخبر بعیض الماء عند ما ذهب ما علی الأرض، و انقطعت مادة السماء، و ذلك یقتضی أن تكون ثالثة الجملتین المتقدمتین، ثم قال تعالی- و قضی الامر- أی هلك من قدر هلاكه و نجی من قضیت نجاته و هذا كنه الآیة و حقیقة المعجزة، و لا بد أن تكون معلومة لأهل السفینة، و لا یمكن علمهم بها إلّا بعد
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 287
خروجهم منها، و خروجهم موقوف علی ما تقدم، و بذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الجملة رابعة الجمل، و كذلك استواء السفینة علی الجودی أی استقرارها علی المكان الذی استقرت فیه استقرارا لا حركة معه لتبقی آثارها عبرة لمن یأتی بعد أهلها، و ذلك یقتضی أن تكون بعد ما ذكرنا.
و قوله سبحانه و تعالی: وَ قِیلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ و هذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن یظن أن الهلاك ربما شمل من لا یستحق فدعا اللّه سبحانه و تعالی علی الهالكین و سماهم و وصفهم بالظلم احتراسا من هذا الاحتمال، و ذلك یقتضی أن یكون بعد كل ما تقدم و اللّه أعلم. فانظر إلی حسن هذا النسق كیف وقع القول فیه وفق الفعل سواء .. و قد حكی أن ابن المقفع العبدی عارض آی القرآن، فلما بلغ إلی هذه الآیة أمسك عن المعارضة و قال هذه الفصاحة التی لا تباری، و البلاغة التی لا یسابق المتكلم بها و لا یجاری، و القول الفصل الذی لا یختلف فیه و لا یتماری. و هذا فی الشعر كثیر .. و من أحسنه قول ابن شرف القیروانی:
جور علیّا و لا تحفل بحادثةإذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل
سل عنه و انطق به و انظر إلیه تجدمل‌ء المسامع و الأفواه و المقل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 288

القسم الحادی و الستون المدح و الذم‌

و فی كتاب اللّه تعالی منه كثیر. المدح للمؤمنین. و الذم للكافرین.
و مدحه هو المدح علی الحقیقة. و ذمه هو الذم علی الحقیقة .. و قد مدح اللّه تعالی نفسه بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ. و قوله تعالی: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ وَ لَمْ یَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ حتی قال بعض العلماء لكل أحد نسبة و نسبة اللّه تعالی- قل هو اللّه أحد- و مدح اللّه عز و جل نبیه بآیات كثیرة كقوله تعالی: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً وَ داعِیاً إِلَی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِیراً و مدح نبیه صلی اللّه علیه و سلم و المؤمنین فی آیات كثیرة. منها قوله تعالی:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَی الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً و مدح المؤمنین بقوله تعالی: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ.
ذم سبحانه و تعالی الكافرین بآیات كثیرة. منها قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا یُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ الآیة. و ذم المنافقین بقوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ یُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 289
أَلِیمٌ .. و أما مدح الناس بعضهم بعضا فینبغی لمن أراد أن یمدحه بألفاظ حسنة مستعذبة واضحة المعنی رائقة اللفظ غیر حوشیة و لا قلقة، و أن تكون القصیدة أو الرسالة حسنة المطلع بدیعة التخلص عذبة المقطع، و أن یكثر فی وصف الممدوح و نشر مآثره و تعدید مكارمه و نحو ذلك ..
و قد قال قدامة الأوصاف التی یمدح بها اربعة، الاول: العقل و یدخل فیه الحیاء و الثبات و السیاسة و الكفاءة و ثقافة الرأی و الصدع بالحجة و الحلم عن سفاهة السفهاء و أمثال ذلك. الثانی: الشجاعة و یدخل فیها المهابة و الحمایة و الدفاع و الاخذ بالثأر و النكایة فی العدو، و قتل الأقران، و السیر فی المهامة و أشباه ذلك. الثالث: العفة و یدخل فیها القناعة و قلة الشره و طهارة الإزار و نحو ذلك. الرابع: العدل و یدخل فیه السماحة و الإطلاق و التبرع بالنائل و اجابة السائل و قراء الضیف. و یحدث من تركیب الشجاعة مع العفة إنكار الفواحش، و الغیرة علی الحریم.
و مع العدل الإتلاف و ترك الخلاف. و یحدث من تركیب العفة مع العدل الإسعاف بالقوة و الإیثار علی النفس و نحو ذلك .. و استوعب زهیر الأقسام الأربعة فقال:
أخی ثقة لا تهلك الخمر ماله‌و لكنّه قد یهلك المال نائله وصفه بالعفة لقلة إمعانه فی اللذات و بالسخاء و وصفه بالشجاعة و العقل فقال:
و من مثل حصن فی الحروب و مثله‌لإذهاب ضیم أو لخصیم یجادله
و أما قوله- أخی ثقة- فهو وصف‌بالوفاء، و هو داخل فیما ذكرناه .. و فی الذم یأتی بأضداد ما تقدم. و قیل أحسن الهجاء ما لا تستحی العذراء من انشاده. و قیل فی الذم أن تأتی بالألفاظ المنكیة، و المعانی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 290
المشجیة و المقاصد المؤلمة المبكیة، و یتوخی أقبح معایب المهجوّ و أعظم وجوه الازدراء به، و لهذا المعنی حرّمه اللّه و رسوله و عم بالذم و الانكار كل من یحفظه أو یقوله.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 291

القسم الثانی و الستون الحمد و الشكر

و قد اختلف العلماء فیهما، فقال قوم و هم الجمهور: الحمد هو ذكر ما فی الانسان من المآثر الحسنة و الصفات المستحسنة و الشكر ثناء یقصد به مجازاة المنعم .. و قال بعض أهل العلم ان الحمد وصف الحلال كقول الخنساء أخت صخر:
و ما بلغت كفّ امرئ متناولامن المجد إلّا و الّذی نلت أطول
و ما بلغ المهدون للناس مدحةو إن أطنبوا إلا التی فیك أفضل و الشكر وصف الأفعال كقول الشاعر:
و انكم بقیة حیّ قیس‌و هضبته التی فوق النصاب
تبارون الریاح إذا تبارت‌و تمتنّون أفعال السحاب
یذكرنی مقامی فی ذراكم‌مقامی أمس فی ظلّ الشباب و قیل ان الحمد و الشكر سواء. و قال أهل اللغة- حمدت الرجل- اذا شكرت له صنیعه- و أحمدته- إذا وجدته محمودا .. و قال ابن الانباری- حمد- مقلوب مدح، و قد قیل كیف یكون الحمد و الشكر سواء و الحمد نقیضه الذم و الشكر نقیضه الكفران، و الذی أختاره أن الحمد أعمّ من الشكر، و انه قد یحمد الشخص علی ما فیه من الأخلاق الجلیلة و الصفات الجمیلة، و یحمد علی حسن خلقه من الصباحة و الجمال
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 292
و الكمال و یحمد علی ما فیه من الفصاحة و البلاغة و النجابة، و یحمد علی كثرة انعامه و احسانه و الشكر، إنما یكون للمنعم علیك فقط، فإذا حمدت أحدا إن نویت بالحمد الشكر له علی ما اسدی إلیك من الانعام و الإحسان، كان هذا الحمد هو الشكر لأنه مجازاة لصنیع و مكافأة لاحسان فقد اتیت بأعلی درجات الشكر هو الذی أشار إلیه رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم بقوله الحمد رأس الشكر، و هو الذی یجوز إطلاقه علی الشكر، و إطلاق الشكر علیه، و إن أردت بالحمد الثناء علی صفاته الجمیلة الكاملة التی خلقه اللّه علیها، فهذا اخو المدح، و هو اعلاه و یجوز إطلاقه علی المدح و حسن الشیم و الخلال و الثناء علیه بما أسدی إلیك و إلی غیرك من الانعام و الإفضال، فهذا هو الحمد الكامل، و لا یجوز أن یطلق علیه الشكر و المدح، فهذا هو الحق .. و قد تكلم المفسرون فی الحمد و الشكر و الفرق و الجمع بینهما و بین المدح، و من علم ما ذكرته هنا سهل علیه الاختلاف و الائتلاف، و اللّه الموفق للصواب لا رب غیره.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 293

القسم الثالث و الستون تأكید المدح بما یشبه الذم‌

و هو كقولهم: بحار العلم إلا أنهم جبال الحلم .. و منه قول بدیع الزمان:
هو البدر إلّا أنه البحر زاخراسوی انه الضرغام لكنّه الوبل و هذا من نوع الغلوّ و الإغراق، و سیأتی بیانه عقیب هذا القسم ان شاء اللّه تعالی. و هذا النوع فی القرآن كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 294

القسم الرابع و الستون المبالغة و تسمی الافراط و الغلوّ و الایغال و معنی هذه الاسماء متقاربة و بعضها أرفع من بعض‌

قال علماء علم البیان: المبالغة الزیادة علی التمام، و سمیت مبالغة لبلوغها إلی زیادة علی المعنی لو أزیلت تلك الزیادة و أسقطت كان المعنی تاما دونها، لكن الغرض بها تأكید ذلك المعنی فی النفس و تقریره .. و فی القرآن العظیم و الكلام الفصیح و الأشعار منه كثیر ..
أما الكتاب العزیز فقوله تعالی: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
و منه قوله تعالی: وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ و قد قیل إن هذه الآیة لیست من باب المبالغة بل حكایة عما وقع.
و منه قوله تعالی: تَكادُ السَّماواتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. و قوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی الآیة .. و أما الكلام الفصیح فقد روی عن العرب أنهم قالوا فلان یهدّ الجبال و یصرع الطیر و یفزّع الجن و یزوی الماء ..
و قال بعض العرب فی فرسه- یحضر ما وجد أرضا، و إن الوابل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 295
لیصیب عجزه و لا یبلغ معرفته حتی أنال حاجتی-. و ذم اعرابی رجلا فقال- یكاد یعدی لؤمه من تسمی باسمه-. و قالت سكینة- ما لبست بنتی الدرّ إلّا لتفضحه- و منه فی الشعر كثیر .. فمن ذلك:
أضاءت لهم أحسابهم و وجوههم‌دجی اللّیل حتی نظّم الجزع ثاقبه و قال المتنبی:
لقیت الرّوابی و الشناخیب دونه‌وجبت هجیرا یترك الماء صادیا و قال آخر:
لو كان یقعد فوق النّجم من كرم‌قوم لقیل اقعدوا یا آل عباس و قال آخر:
فكنت إذا جئت لیلی بأرضهاأری الأرض تطوی لی و یدنو بعیدها
من الخفرات البیض ودّ جلیسهااذا ما مضت أحدوثة لو تعیدها
و كیف یودّ القلب من لا یودّه‌بلی قد ترید النفس من لا یریدها - و قال آخر:
و حدیثها السحر الحلال لو انه‌لم یجن قتل المسلم المتحرّز
إن طال لم یملل و ان هی أوجزت‌ودّ المحدّث أنها لم توجز
شرك النفوس و نزهة ما مثلهاللمطمئنّ و عقلة المستوفز و الاشعار فی هذا الباب كثیرة لا تحصی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 296

القسم الخامس و الستون الرثاء و التعزیة

فأما الرثاء فهو مدح المیت بما كان فیه من المناقب المذكورة و المحاسن المأثورة. و منه قوله تعالی فی حق إبراهیم علیه الصلاة و السلام: وَ تَرَكْنا عَلَیْهِ فِی الْآخِرِینَ سَلامٌ عَلی إِبْراهِیمَ كَذلِكَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ. و قوله تعالی: إِنَّ إِبْراهِیمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِیفاً وَ لَمْ یَكُ مِنَ الْمُشْرِكِینَ. و قوله تعالی فی حق نوح علیه الصلاة و السلام. وَ تَرَكْنا عَلَیْهِ فِی الْآخِرِینَ سَلامٌ عَلی نُوحٍ فِی الْعالَمِینَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ .. و أما التعزیة فهو ان یذكر ما یتوصل به الی تسلیة مخلفی المیت و تصبیرهم و اطفاء نار ثكلهم. و فی القرآن من ذلك كثیر و هی كثیرة فی أشعار المتقدمین و المتأخرین .. أما القرآن فقوله تعالی: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.
و قوله تعالی: وَ كَأَیِّنْ مِنْ نَبِیٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ كَثِیرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا. و قوله تعالی: أَیْنَما تَكُونُوا یُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَةٍ و قوله تعالی:
الَّذِینَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِیبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَیْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. و قوله تعالی:
وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصَّابِرِینَ و أما الأشعار فقد ورد منها فی هذا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 297
كثیر لا یحصی .. فمن أحسن ذلك قول بعضهم:
مضی ابن سعید حیث لم یبق مشرق‌و لا مغرب إلا له فیه مادح
و ما كنت أدری ما فواضل كفّه‌علی النّاس حتی غیّبته الصفائح
و أصبح فی لحد من الأرض مفرداو كانت به حیا تضیق الصحاصح
لئن عظمت فیه و حسنهالقد عظمت من قبل فیه المدائح - و من بدیع التعزیة قول بعضهم:
أیتها النفس أجملی جزعاإن الذی تحذرین قد وقعا - و قول بعضهم:
قسمة الموت قسمة لا تجوركلّ حیّ بكاسها مخمور - و قول الخنساء:
یذكّرنی طلوع الشّمس صخراو أندبه لكل غروب شمس
و لو لا كثرة الباكین حولی‌علی إخوانهم لقلت لقتلت نفسی
و ما یبكون مثل أخی و لكن‌أسلّی النّفس عنه بالتأسّی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 298

القسم السادس و الستون فی الشكایة

و هی فی القرآن علی قسمین: ملفوظ بها. و غیر ملفوظ بها .. أما الملفوظ بها ففی قوله تعالی: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّی وَ حُزْنِی إِلَی اللَّهِ ..
و من الشعر قول بعضهم:
إلی اللّه أشكو لا إلی النّاس أننی‌أری الأرض تطوی و الأخلّاء تذهب - و قال آخر:
و لا خیر فی شكوی إلی غیر مشتكی‌و لا بدّ من شكوی إذا لم یكن صبر - و أما غیر الملفوظ بها ففی القرآن منه كثیر. من ذلك قوله تعالی:
قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَ كادُوا یَقْتُلُونَنِی. و قوله تعالی حكایة عن نوح علیه الصلاة و السلام: قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعائِی إِلَّا فِراراً إلی قوله: وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً.
و قوله تعالی: وَ أُفَوِّضُ أَمْرِی إِلَی اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ و مثله فی القرآن كثیر و فی الشعر كثیر .. فمن بدیعه قول الشاعر:
یا إلهی قد أثقلتنی الذنوب‌فاعف عنی فالعفو منك قریب
و تجاوز عن مذنب بخطایاه عن الخیر قلبه محجوب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 299 كل یوم یمضی علیه و یدری‌إنّه من حیاته محسوب
و هو فی غفلة بعید من الخیر قریب منه الخطا و الذنوب - و من بدیعه أیضا قول بعضهم:
یا من یناجی بالضمیر فیسمع‌أنت المعدّ لكلّ ما یتوقع
یا من یناجی للشدائد كلّهایا من إلیه المشتكی و المفزع
یا من خزائن جوده فی قول كن‌امنن فإن الفضل عندك أجمع
ما لی سوی قرعی لبابك حیلةفإذا رددت فأیّ باب أقرع
و من الذی أدعو و اهتف باسمه‌إن كان برّك عن فقیرك یمنع
حاشی لجودك أن یقنط راجیاالفضل أجزل و المواهب أوسع - و فی هذا الباب أشعار كثیرة لا تحصی:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 300

القسم السابع و الستون الحكایة

و هو ان یحكی كلام المتكلم، اما بلفظه أو بمعناه و القرآن العظیم مشحون بذلك. و هو علی قسمین: ظاهر. و مقدر .. أما الظاهر فكما حكاه اللّه سبحانه و تعالی من قول الملائكة: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ. و منه قوله تعالی: وَ قالَتِ الْیَهُودُ لَیْسَتِ النَّصاری عَلی شَیْ‌ءٍ وَ قالَتِ النَّصاری و كذلك كل ما حكاه اللّه تعالی من أقوال القرون الخالیة و الأمم الماضیة.
و أما المقدر فكقوله تعالی: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ التقدیر یقولون- ما أصابك من حسنة فمن اللّه و ما أصابك من سیئة فمن نفسك- دلیل ذلك انه ردّ علیهم بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا یَكادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثاً و مثله فی القرآن العظیم كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 301

القسم الثامن و الستون الاقتضاء

و هو طلب الموعود بالوعد السالف. و هو علی ضربین: حسن و خشن. فالحسن مرغوب فیه، لأنه یحصل المقصود و ینجز الموعود ..
و أما المذموم فهو سبب الحرمان و حسم لمادة الاحسان. و قد وقع منه فی الكتاب العزیز القسمان .. أما الحسن فمثل قوله تعالی: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلی رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِیعادَ. و قوله تعالی: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلی ما تَصِفُونَ. و قوله تبارك و تعالی: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَیْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الْكافِرِینَ استنجزوا وعده الكریم و هو قوله تعالی:
وَ كانَ حَقًّا عَلَیْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِینَ .. و أما الخشن فورد منه فی القرآن كثیر أیضا. فمنه قوله تعالی: وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الآیة. و قوله تعالی: وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ یَوْمِ الْحِسابِ. و قوله تبارك و تعالی: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِینَ. و فی الشعر منه كثیر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 302

القسم التاسع و الستون التذكیر

و هو التنبیه لمن غفل أو سهی عن شكر نعمة أسدیت إلیه، و منن أزلفت لدیه نسیها أو تناساها لتقوم علیه حجة المنعم، و لیوقظ من نوم غفلته فی لیل نسیانه أو تناسیه المظلم. و فی الكتاب العزیز منه كثیر من ذلك قوله تعالی: یا بَنِی إِسْرائِیلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْكُمْ وَ أَنِّی فَضَّلْتُكُمْ عَلَی الْعالَمِینَ. اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَیْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِیكُمْ أَنْبِیاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ یُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِینَ. و قوله تعالی:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَكَّرُ أَوْ یَخْشی و معناه لعله یتذكر سترنا له و انعامنا علیه فی أمر النیل إذ تضرع الینا، فأجرینا له النیل لما التمس قومه منه إجراء النیل، أو یخشی انتقامنا منه فی الدنیا بالغرق و فی الآخرة بالنار و الحرق .. و الفرق بین الاقتضاء و التذكیر أن التقاضی لاستبعاد حصول المطلوب لطول مدة انتظار المرغوب. و التذكار إنما یكون عن غفلة أو نسیان كقول بعضهم:
جئتك للأذكار مستحرضالا لتقاضیك و حوشیتا
و لست بالمهمل لكنّمالكثرة الأشغال أنسیتا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 303

القسم الموفی السبعین الوعد و الوعید

أما الوعد فهو اطماع بإحسان فی المستقبل، و هو علی قسمین متحقق الوقوع، و هو وعد اللّه سبحانه و تعالی لقوله تعالی: وَعْدَ اللَّهِ لا یُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. و قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ لا یُخْلِفُ الْمِیعادَ و وعد مرجو وقوعه، و هو وعد العباد. و الوعد یكون فی الخیر و الشر، لكن استعماله فی الخیر أكثر قال اللّه تعالی: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِی وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِیًّا. و قال تعالی: الشَّیْطانُ یَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ یَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ یَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا. و فی هذه الآیة شاهد للمعنیین. و قد ورد فی القرآن العظیم و فی الشعر منه كثیر. أما القرآن فمنه ما قدمناه. و منه قوله تعالی: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً. و قوله تعالی: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِیرَةً تَأْخُذُونَها. و قوله تعالی: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلی رُسُلِكَ ..
و أما الوعید فهو تخویف بسوء المجازاة فی المستقبل تحذیرا من الوقوع فی المخالفات. و فی القرآن العظیم منه كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلی أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. و قوله تعالی: وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 304
فِیها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَیْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِیماً. و قوله تعالی:
وَ مَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَتَعَدَّ حُدُودَهُ یُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِیها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِینٌ. و قوله تعالی: وَ الَّذِینَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا یُقْضی عَلَیْهِمْ فَیَمُوتُوا وَ لا یُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِی كُلَّ كَفُورٍ إلی قوله:
وَ ما لِلظَّالِمِینَ مِنْ نَصِیرٍ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 305

القسم الحادی و السبعون العتاب و الانذار

و هو دلیل بقاء المودة و دوام عقد الالفة و الصحبة. و الغرض به إزالة ما فی النفوس من الوحشة، لأن بجریانه یظهر ما فی القلوب من آثار الجنایة، و یبدو ما فی البواطن من تأكید أسباب العنایة إذ لو لا بقاء المودة الخفیة لحلت القطیعة بالكلیة، و لم یحتج إلی عتاب، و لم یرغب فی الأعتاب و لهذا قیل:
و یبقی الودّ ما بقی العتاب
و منه فی القرآن العظیم كثیر .. فمن ذلك قوله عز و جل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. و قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. و قوله تعالی: عَبَسَ وَ تَوَلَّی أَنْ جاءَهُ الْأَعْمی.
و قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ إلی قوله: وَ اللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ .. و فی القرآن من جمیل العتاب شی‌ء كثیر ..
و أما الانذار ففی القرآن منه كثیر لا یحصی. فمنه قوله تعالی:
إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا یُؤْمِنُونَ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 306
و منه قوله تعالی: وَ أَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَی الْحَناجِرِ الآیة. و قوله تعالی: وَ أَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِیَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِی غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا یُؤْمِنُونَ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 307

القسم الثانی و السبعون الاعتاب‌

و هو رجوع الانسان عما عتبت علیه بسببه یقال: عتبته فاستعتب أی أرجعته فارتجع. و منه قوله تعالی: فَإِنْ یَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْویً لَهُمْ وَ إِنْ یَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِینَ. و فی الحدیث: «اما محسنا فیزداد و إمّا مسیئا فیستعتب» .. و منه قول الشاعر:
عتبت علیه فما أعتباو عنه اعتذرت و قد أذنبا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 308

القسم الثالث و السبعون الاعتذار

و هو التوسل إلی محو الذنب و إزالة أثر الجرم مأخوذ من قولهم اعتذرت المنازل اذا درست .. و منه قوله تعالی: یَعْتَذِرُونَ إِلَیْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَیْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا الآیة. و قوله تعالی: وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِیداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلی رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ. و قوله تعالی: تَبَرَّأْنا إِلَیْكَ ما كانُوا إِیَّانا یَعْبُدُونَ.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 309

القسم الرابع و السبعون تأكید الضمیر المتصل بالمنفصل‌

یفعل ذلك لضرب من المبالغة. و فی القرآن العظیم منه كثیر ..
فمن بدیع ما جاء منه قوله تعالی: قالُوا یا مُوسی إِمَّا أَنْ تُلْقِیَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِینَ قولهم- یا موسی إما أن تلقی- تخییر منهم له، و حسن أدب راعوه معه، كما یفعل أرباب الصناعات إذا تلاقوا فی تقدیم بعضهم علی بعض، كالمتناظرین قبل أن یتخاوضوا فی الجدال، و إنما قالوا- و إما أن نكون نحن الملقین- و لم یقولوا و إما أن نلقی كما قالوا- یا موسی إما أن تلقی- لرغبتهم فی أن یلقوا قبله و تشوفهم إلی التقدم علیه، و ذلك لما فیه من تأكید الضمیر المتصل بالمنفصل .. و مما یجری علی هذا المنهاج قوله عز و جل: فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُوسی قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلی فتوكید الضمیر هاهنا فی قوله- لا تخف انك أنت الأعلی- نفی الخوف من قلب موسی، و أثبت فی نفسه الغلبة و القهر و لو قال: لا تخف إنك الأعلی أو- و أنت الاعلی- لم یكن فی التأكید لنفی الخوف من قلب موسی كما له من القوة فی تقریر الغلبة، و نفی الخوف بقوله- إنك أنت الأعلی- و ذلك لأن فی هذه الثلاث كلمات و هی قوله تعالی: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلی ست فوائد. الاولی إنّ المشددة التی من شأنها التأكید لما یأتی بعدها كقولك: زید قائم، ثم تقول إنّ زیدا قائم ففی قولك إن زیدا قائم من الإثبات لقیام زید،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 310
و التقریر له ما لیس فی قولك زید قائم. الثانیة تكریر الضمیر فی قوله تعالی- انك أنت- و لو قال فأنت الأعلی لما كان بهذه المثابة من التقریر لغلبة موسی و الإثبات لقهره. الثالثة: لام التعریف فی قوله- الأعلی- فلو قال إنك أنت أعلی فنكّره و كان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه یصلح أن یقع علی كل واحد من الرجال و اذا قلت الرجل فقد خصصته من بین الرجال بالتعریف و جعلته علما فیهم.
و كذلك قوله- إنك أنت الاعلی- أی أنت الأعلی دون غیرك.
الرابعة: لفظ أفعل الذی هو من شأنه التفضیل، و لم یقل العالی.
الخامسة: اثبات الغلبة من عال. السادسة: الاستئناف فی قوله- انك أنت الاعلی- و لم یقل لأنك أنت الاعلی، لأنه لم یجعل علة انتفاء الخوف عنه، لأنه عال و إنما نفی الخوف عنه أولا بقوله- لا تخف- ثم استأنف الكلام بقوله- إنك أنت الاعلی- فكان ذلك أبلغ فی تقریر الغلبة لموسی علیه الصلاة و السلام و اثبات ذلك فی قلبه و نفسه. فهذه ست فوائد فی هذه الكلمات الثلاث فانظر أیها المتأمل إلی هذه البلاغة العجیبة التی تحیّر العقول و تذهب الألباب و معجز هذا الكلام العزیز الذی أعجز البلغاء و أفحم الفصحاء و رجّل فرسان الكلام.
فإن قیل: لو كان توكید الضمیر المتصل بالمنفصل أبلغ من الاقتصار علی أحدهما لورد ذلك عند ذكر اللّه تعالی نفسه فی كتابه حیث هو أحق بما هو أبلغ من الكلام، و قد رأینا فی الكتاب العزیز مواضع تختص بذكر اللّه تعالی و قد ورد فیها أحد الضمیرین دون الآخر كقوله تعالی: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِی الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِكَ الْخَیْرُ إِنَّكَ عَلی كُلِّ شَیْ‌ءٍ قَدِیرٌ فما الموجب لذلك ان كان تأكید الضمیر المتصل بالمنفصل أبلغ فی بابه من الاقتصار علی أحدهما دون الآخر، فقد كان یجب عند ذكر اللّه تعالی نفسه، لأنه أحق بالأبلغ من العلاء، و إن كان الأمر بخلاف
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 311
ذلك فكیف قلنا أن توكید الضمیر المتصل بالمنفصل أبلغ؟
الجواب: عن ذلك انا نقول: توكید المتصل بالمنفصل إنما یرد فی الكلام لتقریر المعنی و اثباته فی الذهن و ما یختص باللّه تعالی لا یفتقر إلی تقریر و لا اثبات، لأنه إذا قیل عنه انه علی كل شی‌ء قدیر، لم یحتج فی ذلك إلی توكید حتی یتحقق و یتبین أنه علی كل شی‌ء قدیر، بل علم و عرف أنه علی كل شی‌ء قدیر، و أن قدرته جاریة علی كل مخلوق، فصار هذا من الأمر المعروف الذی لا یعتریه شك، و لا یعترضه ریب، و ما هذا سبیله فی الوضوح و البیان فلا حاجة فیه إلی التوكید إذ كان التوكید من شأنه التقریر للمعنی المراد اثباته فی النفس، و كون اللّه سبحانه علی كل شی‌ء قدیر ثابت فی النفوس، فلم یحتج إلی تقریر و اثبات.
فإن قیل: فقد ورد فی القرآن العزیز عند ذكر اللّه تعالی نفسه التأكید بالضمیر المنفصل للضمیر المتصل كقوله تعالی: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلی قوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ كما انك علی كل شی‌ء قدیر.
فما السبب فی هذا، و هلا كان الجمیع شرعا واحدا؟
فالجواب علی ذلك: إنا نقول توكید الضمیرین أحدهما بالآخر فی هذه الآیة لا ینقص علینا ما أشرنا الیه أولا، لأنه إن وقع الاقتصار علی أحدهما دون الآخر، فإن القول فی ذلك ما تقدم فی الآیة الأولی، و إن جی‌ء بهما معا، فإن ذلك أبلغ فی بابه و آكد، و اللّه تعالی أحق بما هو أبلغ من الكلام و آكد. و لنمثل لك فی استعمال الضمیرین معا و الاقتصار علی أحدهما دون الآخر مثالا تتبعه فنقول: إذا كان المعنی المقصود أمرا معلوما قد ثبت فی النفس و رسخ فی الالباب، فأنت بالخیار بین أن توكد أحد الضمیرین بالآخر فی الدلالة علیه، و بین أن تقتصر علی أحدهما دون الآخر، لأنك إن وكدت الكلام فیه أعطیت المعنی حقه، و إن لم
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 312
توكد فإنه لا یحتاج إلی تأكید لبیانه و ظهوره، فإن كان المعنی المقصود خفیا لیس بظاهر و لا معلوم فالأولی توكید أحد الضمیرین بالآخر لتقرره و تكسبه وضوحا و بیانا. أ لا تری إلی قوله لموسی علیه السلام- قلنا لا تخف إنك أنت الأعلی- فإنه كان ظهور موسی علیه السلام علی السحرة و قهره لهم أمرا مستقرا فی ضمن الغیب لا یعلم و لا یعرف، و أراد اللّه عز و جل أن یخبره بذلك لیذهب عنه الخوف و الحذر بالأبلغ من الكلام، لیكون ذلك أثبت فی نفس موسی و أقوی دلیلا عنده فی انتفاء الخوف عنه، فوكد الضمیر المتصل بالمنفصل، فجاء المعنی كما تری، و لو لم یؤكد كان ذلك أیضا اخبارا لموسی علیه الصلاة و السلام بنفی الخوف عنه و استظهاره علی السحرة، و لكن لیس له من التقریر فی نفس موسی علیه الصلاة و السلام ما لقوله إنك أنت الاعلی فاعرف.
و علی نحو من ذلك قوله تعالی- قالوا یا موسی إما أن تلقی، و إما أن نكون نحن الملقین- فإن إرادة الإلقاء قبل موسی لم یكن معلوما عنده، لأنهم لم یصرحوا بما فی أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقالة خطابهم لموسی إلی ما هو توكید ما هو لهم بالضمیرین علم أنهم یریدون التقدم علیه، و الإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم لموسی علیه الصلاة و السلام بمثله أن یقولوا: إما أن تلقی، و إما أن نلقی لتكون الجملتان متقابلتین، فحیث قالوا عن أنفسهم- و إما أن نكون نحن الملقین- استدل بذلك علی إرادتهم الإلقاء قبله فهذه معان لطیفة و رموز غامضة، لا ینتبه لها إلّا الفطن اللبیب فاعرفها.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 313

القسم الخامس و السبعون الخطاب بالجملة الفعلیة و الخطاب بالجملة الاسمیة المؤكدة بأنّ المشددة و تفضیل إحداهما علی الأخری‌

و ذلك كقولنا قام زید و ان زیدا قائم، فقولنا قام زید معناه الإخبار عن زید بالقیام، و قولنا إن زیدا قائم إخبار عن زید بالقیام أیضا إلّا أن فی الثانیة زیادة لیست فی الأولی، و هی توكیده بأن المشددة التی من شأنها الإثبات لما یأتی بعدها من الكلام .. و من هذا النحو قوله تعالی:
وَ إِذا لَقُوا الَّذِینَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلی شَیاطِینِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فإنهم انما خاطبوا المؤمنین بالجملة الفعلیة و شیاطینهم بالجملة الاسمیة المحققة بأن المشددة فقالوا فی خطاب المؤمنین- آمنا- و لاخوانهم- إنا معكم- لأنهم فی مخاطبة إخوانهم بما أجروا به عن أنفسهم من اثبات علی اعتقاد الكفر، و البعد من أن ینزلوا عنه علی صدق و رغبة و وفور نشاط، و كان ذلك متقبلا منهم و رائجا عند اخوانهم و ما قالوه للمؤمنین، فإنما قالوه تكلفا و اظهارا لایمان خزیا و مداجاة، و كانوا یعلمون أنهم لو قالوا بأوكد لفظ و أشده لما راج لهم عندهم إلّا رواجا ظاهرا لا باطنا، و لأنهم لیس لهم من عقائدهم باعث قویّ علی النطق فی خطاب المؤمنین بمثل ما خاطبوا به اخوانهم من العبارة المؤكدة، فلذلك قالوا فی خطاب المؤمنین بخلاف ما قالوه فی خطاب اخوانهم، و صرّحوا فی كلامهم لإخوانهم أن ما خاطبوا به
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 314
المؤمنین إنما هو هزء فقالوا: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ .. و هذه نكت دقیقة و لطائف خفیة لا توجد فی نوع من الكلام العربی الّا فی القرآن الكریم، و ما أكثر ذلك و أمثاله فی آیاته و أوفره مودعا فی غضونه فاعرفه و قس علیه ترشد.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 315

القسم السادس و السبعون فی لام التأكید

اعلم وفقنا اللّه و إیاك أن علماء علم البیان و علماء العربیة اتفقوا علی أن هذه اللام تدخل فی الكلام لنوع من المبالغة و ذلك أنهم اذا عبروا عن أمر یعز وجوده أو یعظم أمر إحداثه و وقوعه جی‌ء بها محققة لذلك و شاهدة .. فمن ذلك قوله تعالی: أَ فَرَأَیْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً. و قوله تعالی:
أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أ لا تری كیف دخلت اللام فی آیة المطعوم دون آیة المشروب، و إنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحا لیس بعظیم، و لأن كثیرا ما إذا جرت المیاه العذبة علی الأراضی المتغیرة التربة أحالتها إلی الملوحة و المرارة، فلم یحتج فی جعل الماء العذب ملحا، إلی زیادة تأكید، فلذلك لم تدخل علیه لام التأكید المفیدة زیادة التحقیق، و أما المطعوم فإن جعله صعب، فلذلك قرن بلام التأكید زیادة فی تحقیق، و أما المطعوم فإن جعله صعب، فلذلك قرن بلام التأكید زیادة فی تحقیق أمره، و تقریر ایجاده. و كونه هكذا یفعل بكل كلام فیه نوع خصوصیة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 316

القسم السابع و السبعون فی الاقتصاد و الإفراط و التفریط

قال ابن الاثیر رحمه اللّه: الاقتصاد أن یكون المعنی المضمن فی العبارة علی حسب ما یقتضیه المعبر عنه فی منزلته .. و أما التفریط و الإفراط فهو أن یكون المعنی المضمن فی العبارة بخلاف ما یقتضیه منزلة المعبر عنه، إمّا لانحطاطه دونها و هو التفریط، و إمّا تجاوزا عنها و هو الإفراط لأن أصل التفریط فی وضع اللغة من فرط فی الأمر إذا قصر فیه و ضیعه، و أصل الافراط فی وضع اللغة من أفرط فی الأمر إذا تجاوز عنه .. و التفریط عیب فی الكلام فاحش كقول الأعشی:
و ما مزبد من خلیج الفرات جون غواربه تلتطم
بأجود منه بماعونه‌إذا ما سماؤهم لم تغم فإنه قد مدح ملكا یجود بماعونه- و الماعون- هو كل ما یستعمل من قدوم، أو فاس أو قصیعة، أو قدر، و ما أشبه ذلك فلا سبیل إلی جعله مدحا البتة، بل هو إلی الذم أقرب منه إلی المدح، فهذا من أقبح التفریط فاعرفه. و أما الإفراط فهو بمنزلة ما روی عن النبی صلی اللّه علیه و سلم، و ذلك أن رجلا جاءه فكلمه فقال ما شاء اللّه و شئت فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلم أ جعلتنی للّه ندّا، قل ما شاء اللّه وحده .. و من هذا الباب قول عنترة:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 317 و أنا المنیّة فی المواطن كلّهاو الطعن منی سابق الآجال فإن الطعن لا یسبق الأجل، لأن الأجل لا یتقدم و لا یتأخر بالیاء باثنتین من تحتها و هو أقرب أمرا من كونه بالباء الموحدة غیر أن كلیهما افراط .. و اعلم أن علماء علم البیان فی استعمال الإفراط علی ثلاثة أضرب. فمنهم من یكرهه و لا یراه صوابا كأبی عثمان الجاحظ فیما روی عنه، و منهم من یختاره و یؤثر كقدامة بن جعفر الكاتب، فإنه كان یقول الغلوّ عندی أجود المذهبین فإن أحسن الشعر أكذبه. و منهم من یذهب إلی التوسط بین الغلوّ و التفریط و هو الاقتصاد، و ذلك أن یجعل الغلوّ و هو الافراط مثلا، ثم یستثنی فیه بأو، أو یكاد أو ما جری هذا المجری، فیدرك مراده و یسلم من عیب عائب أو طعن طاعن، و ذلك كقول بعضهم فی مدح الحسین:
یكاد یمسكه عرفان راحته‌ركن الحطیم إذا ما جاء یستلم - و كقول أبی عبادة البحتری:
و لو أنّ مشتاقا تكلّف فوق مافی وسعه لسعی إلیك المنبر و هذا المذهب المتوسط ألیق المذاهب الثلاثة و أدخلها فی الصنعة فاعرفه.
قال المصنف عفا اللّه عنه: أما الاقتصاد و الافراط فقد ورد فی الكتاب العزیز منه شی‌ء كثیر، و قد تقدم بیانه، و أما التفریط فلیس فی القرآن منه شی‌ء.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 318

القسم الثامن و السبعون الغزل‌

و هو من محاسن النظم، و الغزل التصابی، و الاشتهار بمودة النساء، و لهذا قال بعضهم:
أیّام تدعوننی الشیطان من غزل‌و كن یهویننی إذ كنت شیطانا و اشتقاقه من الرقة لأن المتغزل یرقق ألفاظه حتی یستمیل بها القلوب و یعدها للرسائل، و الوسائل بین المحب و المحبوب. و ینبغی أن تكون ألفاظه مستعذبة و معانیه ملهیة مطربة. و ینبغی أن یكثر فیه من ذكر الأجرع و الحمی. و لعلع. و التقی. و طویلع. و قبا. و العقیق. و حاجز.
و المنحنی و ما أشبه من الألفاظ مثل ذكر المنازل التی تترشف ذكرها القلوب، و تصبو إلیها النفوس من غیر أن تراها، و كذلك یكثر فیه من ذكر الحنین و التشویق و التحزین. و قد یحتاج فی بعض المواضع إلی ذكر الكرم و الشجاعة و الفصاحة و البراعة لیمیل بذلك قلب المحبوب، و یكون مدعاة إلی نیل المطلوب أ لا تری إلی قول بعض الشعراء:
یودّ بأن یمسی علیلا لعلّهاإذا سمعت منه بشكوی تراسله
و یهتزّ للمعروف فی طلب العلی‌لتحمد یوما عند سلمی شمائله - و مثل قول المتنبی:
أیقنت أنّ سعیدا آخذ بدمی‌لمّا بصرت به بالرّمح معتقلا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 319
اراد انها اذا رأته علی هذه الصورة الملیحة هویته، فنالها من هواه كما نال المتنبی من هواها، فكأنه أخذ بثأره .. و منه قوله فی هذه القصیدة أیضا:
علّ الأمیر یری ذلّی فیشفع لی‌إلی التی جعلتنی فی الهوی مثار یشیر إلی أنها إذا أحبت الامیر علمت مقدار المحبة و عززت من یحبها كما قیل:
إنّما یرحم المحبّ المحبّون و یحنو علی المشوق المشوق و القرآن العظیم من جملة إعجازه كثرة الشجا، و ترقیقه للقلوب و استمالته للنفوس بحیث أنه لا یسمعه أحد الّا و مال إلیه قلبه و امتلأت به جوانحه و انطوت علی مثل جمر الغضا ضلوعه و جرت علی صفحات خده دموعه، و فیه من وصف الجنة و نعیمها و منازل الزلفی و طیب رسومها ما یشوق القلوب إلی لقائها، و یسوق النفوس إلی الحلول بفنائها مثل قوله تعالی: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِیها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَیْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ یَتَغَیَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِینَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّی وَ لَهُمْ فِیها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. و قوله تعالی: إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُقْتَدِرٍ. و قوله تعالی: وَ لَكُمْ فِیها ما تَشْتَهِی أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِیها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِیمٍ و قوله تعالی: إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً إلی آخر السورة. و قوله تعالی: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ذَواتا أَفْنانٍ إلی آخر السورة. و فی القرآن العظیم من هذا النوع كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 320

القسم التاسع و السبعون فی التشبیب‌

و هو اللفظ الدال علی محاسن النساء، و محاسن أخلاقهن، و تصرف أحوال الهوی معهن، و یدخل فیه الشوق و التذكر لمعاهد الأحبة و تغیرها بالریاح الهابّة و البروق اللامعة و أمثالها .. و من محاسن التشبیب قول بعضهم.
لو جادهنّ غداة رمن رواحاغیث كدمعی ما أردن براحا
ماتت بفقد الظاعنین دیارهم‌فكأنّهم كانوا لها أرواحا
النائیات النافذات نواظراو النّافذین أسنّة و سلاحا
و أری العیون و لا كأعین عامرقدرا مع القدر المتاح متاحا
متوارثی مرض العیون و إنّمامرض العیون بأن یكنّ صحاحا
لا عیب فیهم غیر شحّ نسائهم‌و من السماحة أن یكنّ شحاحا
طرقته فی أترابها فجلت له‌و هنا من الغرر الصباح صباحا
و بسمن عن برد تألّف نظمه‌فرأیت ضوء البرق ثمّت لاحا
أبرزن من تلك العیون أسنّةو هززن من تلك القدود رماحا
یا حبّذا ذاك السّلاح و حبّذاوقت یكون الحسن فیه سلاحا و الأشعار فی مثل هذا كثیرة. و فی القرآن العظیم من وصف النساء كثیر مثل قوله تبارك و تعالی: عَسی رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ یُبْدِلَهُ أَزْواجاً
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 321
خَیْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَیِّباتٍ وَ أَبْكاراً. و قوله تعالی: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِی الْخِیامِ. و قوله تعالی: قاصِراتُ الطَّرْفِ الآیة. و فی القرآن العظیم كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 322

القسم الموفی ثمانین الاستدراج‌

قال ابن الاثیر و هو التوصل إلی حصول الغرض من المخاطب و الملاطفة له فی بلوغ المعنی المقصود من حیث لا یشعر به. و فی ذلك من الغرائب و الدقائق ما یؤنق السامع و یطربه، لأن بناء صناعة التألیف علیه و منشأها .. و من هذا الباب قوله تعالی: وَ اذْكُرْ فِی الْكِتابِ إِبْراهِیمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا إِذْ قالَ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ إلی قوله:
فَتَكُونَ لِلشَّیْطانِ وَلِیًّا هذا الكلام یهز أعطاف السامعین، و یبهج نفوس المتأملین، فعلیك أیها المترشح لهذه الصناعة امعان النظر فی مطلوبه، و ترداد الفكر فی اثنائه و اتخاذه قدوة لك و نهجا تعتقبه، أ لا تری حین أراد إبراهیم النظر فی مطلوبه، و ترداد الفكر فی اثنائه و اتخاذه قدوة لك و نهجا تعتقبه، أ لا تری حین أراد إبراهیم أن ینصح أباه و یعظه فیما كانت متورطا فیه من الخطأ العظیم الذی عصی به أمر العقل، كیف رتب الكلام معه فی أحسن سیاق و انتظام مع استعمال المجاملة و اللطف و اللین و الأدب الجمیل، و الخلق الحسن مستصحبا فی ذلك نصیحته و ذلك انه طلب منه أولا نقله عن خطیئته طلب منبه علی تمادیه موقظ له من إفراطه و قلة تناهیه، لأن المعبود لو كان حیا ممیزا سمیعا بصیرا مقدرا علی الثواب و العقاب إلا أنه بعض الخلق لا یشك فی نقص عقل من أهله للعبادة و وصفه بالربوبیة، و لو كان أشرف الخلق كالملائكة
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 323
و النبیین، فكیف بمن جعل المعبود جمادا لا یسمع و لا یبصر؟ ثم ثنی ذلك بدعوته إلی الحق مترفقا به و متطلفا فلم یتهم أباه بالجهل المطلق و لا نفسه بالعلم الفائق، و لكن قال: إن معی لطائف و شیئا منه، و ذلك علم الدلالة علی الطریق السویّ، فلا تستنكف و هی أنی و إیاك فی مسیر و عندی معرفة بالهدایة دونك فاتّبعنی أنجّك من أن تضل فتنبه ثم ثلّث بتنشیطه و نهیه عما كان علیه بأن الشیطان الذی استعصی علی ربك الرحمن الذی جمیع ما عندك من النعم من عنده و هو عدوّك و عدوّ أبیك آدم هو الذی ورّطك فی هذه الورطة و ألقاك فی هذه الضلالة، إلا أن إبراهیم علیه الصلاة و السلام لامعانه فی الخلاص لم یذكر من جنایة الشیطان إلا الذی یختص منها باللّه عز و جل و هی عصیانه و استكباره، و لم یلتفت الی ذكر معاداته لآدم و بنیه، ثم ربع ذلك بتخویفه سوء العاقبة، و ما ینتج علیه من الوبال و لم یخل هذا الكلام من حسن أدب حیث لم یصرح بالعقاب اللاحق بأبیه، و لكنه قال- انی أخاف أن یمسّك عذاب من الرحمن- فذكر الخوف و المس اعظاما لهما و ترك العقاب و جعل ولایة الشیطان و دخوله فی جملة أشیاعه أكثر من العذاب، و صدر كل نصیحة من النصائح الأربع بقوله- یا أبت- توسلا إلیه و استعطافا فقال له فی الجواب: أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِی یا إِبْراهِیمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِی مَلِیًّا أ لا تری كیف أقبل علیه الشیخ بفظاظة الكفر و غلظ العناد فناداه باسمه، و لم یقابل قول- یا أبت- بیا بنی و قدم الخبر علی المبتدأ فی قوله- أ راغب أنت عن آلهتی یا إبراهیم- لأنه كان أهم عنده و فیه ضرب من التعجب و الإنكار لرغبة إبراهیم عن آلهته و أن آلهته لا ینبغی أن یرغب أحد عنها، و من هذا الباب قوله تعالی: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَكْتُمُ إِیمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ یَقُولَ رَبِّیَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَیِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ إلی قوله: إِنَّ اللَّهَ لا یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أ لا تری ما أحسن مأخذ هذا الكلام و ألطف مغزاه، فإنه أخذهم
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 324
بالاحتجاج علی طریقة التقسیم، فقال لا یخلو هذا الرجل من أن یكون كاذبا فكذبه یعود علیه و لا یتخطاه، و إن كان صادقا فیصیبكم بعض الذی یعدكم إن تعرضتم له. و فی هذا الكلام من حسن الأدب و الإنصاف ما أذكره لك أیها المتأمل و أقول: إنما قال: یصبكم بعض الذی یعدكم، و قد علم أنه نبی صادق، و إن كل ما یعدهم به لا بد من أن یصیبهم لا بعضه، و لأنه احتاج مع أدلة خصم موسی أن یسلك معهم طریق الإنصاف و الملاطفة فی القول، و یأتیهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلی تسلیمهم لقوله: و أدخل فی تصدیقهم له و قبولهم منه فقال: و إن یك صادقا یصبكم بعض الذی یعدكم و هو كلام المنصف فی مقابلة خصمه غیر المشتط فیه، و ذلك حین وصفه اللّه بكونه صادقا فقد أثبت أنه صادق فی جمیع ما یقر به، لكنه أردفه بقوله: یُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِی یَعِدُكُمْ لیهضمه بعض حقه فی ظاهر الكلام فیریهم أنه لیس بكلام من أعطاه حقه وافیا فضلا من أن یتعصب له، و تقدیم الكاذب علی الصادق من هذا القبیل، و كذا قوله: إِنَّ اللَّهَ لا یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أی لو كان مسرفا كذابا لما هداه اللّه بالنبوة و لا عضده بالبینات، فتبین أیّها المتأمل لهذه الدقائق اللطیفة الصنع تدل علی التیقظ فی صناعة التألیف.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 325

القسم الحادی و الثمانون خذلان المخاطب‌

و هو الأمر بعكس المزاد و یدل ذلك علی الاستهانة بالمأمور و قلة المبالاة بأمره أی انا مقابلك علی فعلك و مجازیك بحسبه. فمن ذلك قوله تعالی: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِیباً إِلَیْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِیَ ما كانَ یَدْعُوا إِلَیْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِیلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. فقوله- قل تمتع بكفرك- من باب الخذلان كأنه قال له إذ قد أبیت ما أمرت به من الإیمان و الطاعة فمن حقك ان لا تؤمر به بعد ذلك و نأمرك بتركه. و هذا مبالغة فی خذلانه، لأن المبالغة فی الخذلان أشد من أن یبعث علی ضدّ ما أمر به .. و من هذا الباب قوله تعالی: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِینِی فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ فإن المراد بهذا الأمر الوارد علی وجه التخییر المبالغة فی الخذلان علی ما سبق ذكره. و فی هذا الكلام معنیان لطیفان الأول أی أن عبادتكم للّه و عبادتكم لغیره إنما تنفع أو تضر لكم لا لسواكم فاللّه تعالی مستغن عن عبادتكم له. الثانی: توعده لهم بالمقابلة علی فعلهم من غیر تصریح بالوعید، و ذلك أبلغ من الإصراح به لوقوع الموعود فی حیرة من أمره، و ترامی وهمه عند ذلك إلی كل خطب عظیم من المجازاة و المقابلة، كقولك لمن عصاك افعل ما شئت أی إنی مقابلك علیه. و هذا نوع من علم البیان شریف.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 326

القسم الثانی و الثمانون التعلیق و الإدماج‌

و هو أن یدمج مدحا بمدح أو هجوا بهجو، أو معنی بمعنی كما قال المتنبی:
إلی كم تردّ الرّسل عما أتوا به‌كأنهم فیما وهبت ملام أدمج رد الرسل برد اللوم، و كلاهما مدح .. و قوله أیضا:
حسن فی وجوه أعدائه‌أقبح من ضیفه رأته السّوام أدمج الحسن مع القبح و كلاهما مدح وصفه بالكلام، لأن ابله إذا رأت ضیفه علمت أنه ینحرها له، و قد سمی العسكری هذا النوع فی كتاب الصناعتین له المضاعف، و أنشد فیه:
و أسرعت نحوك لما دعوت كأنی نوالك فی سرعته - و مثله فی وجیه الدولة:
و بات أسعدنا حظّا بصاحبه‌من كان فی الحبّ أشقانا بصاحبه و قاعدة هذا الباب أن یكون أحد المعنیین تلویحا و الآخر تصریحا.
و فی القرآن العظیم من هذا النوع كثیر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 327

القسم الثالث و الثمانون الاستخدام‌

و هو أن تكون الكلمة لها معنیان فیحتاج إلیهما فیذكرها وحدها فیستخدم المعنیین كما قال اللّه تبارك و تعالی: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكاری و الصلاة هاهنا یحتمل ان تكون فعل الصلاة، أو موضع الصلاة فاستخدم الصلاة بلفظ واحد، لأنه قال سبحانه: إِلَّا عابِرِی سَبِیلٍ فدل علی أنه أراد موضع الصلاة. و قال تعالی: حَتَّی تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فدل علی أنه أراد فعل الصلاة .. و أنشد للبحتری:
فسقی الغضا و الساكنیه و إن هم‌شبّوه بین جوانح و قلوب - الغضا- یحتمل أن یكون الموضع، و یحتمل أن یكون الشجر فاستخدم المعنیین به- و الساكنیه- أراد المكان و الشجر بقوله- و إن هم شبوه- و من ذلك لبعض العرب:
إذا نزل السماء بأرض قوم‌رعیناه و إن كانوا غضابا - و السماء- یحتمل معنیین المطر و النبات فاستخدم المعنیین بقوله- إذا نزل- یعنی المطر- رعیناه- یعنی النبات .. و كما قال الشیخ أبو العلاء:
و فقیه أفكاره شدن للنعمان ما لم یشده شعر زیاد یحتمل معنیین: أحدهما أن یكون النعمان بن المنذر الملك،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 328
و الآخر أن یكون النعمان بن ثابت الفقیه، فاستخدم المعنیین بلفظ واحد فقال- شدن للنعمان- یعنی أبا حنیفة رضی اللّه عنه و قال- شعر زیاد- یعنی النعمان بن المنذر، لأن زیادا هو النابغة مدح النعمان .. و كما قال أبو تمام:
و إذا مشت تركت بصدرك ضعف مابحلیّها من شدّة الوسواس لأن- الوسواس- یحتمل معنیین و هو بلابل الصدر، و صوت الحلیّ فاستخدم المعنیین بقوله:- تركت بصدرك- یعنی البلابل و بقوله- ضعف ما بحلیها- یعنی صوت الحلی .. و منه:
اسم من ملّنی و من صدّ عنی‌و جفانی لغیر ذنب و جرم و الذی ضنّ بالوصال علینا مثل ما ضنّ بالهوی قلب نعم هذا استخدام فی الاعراب، لأن قلب مرفوع بالخبر فاعل ضن و هو أیضا استخدام فی المعنی، لأنها بمعنی قلب من المقلوب، لأن الاسم- معن- فهو معكوس- نعم- فاعرفه. و منه فی الكتاب العزیز كثیر من ذلك قوله تعالی: وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ یَأْخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصْباً یحتمل أن یكون أراد- وراءهم- أی فی طلبهم و یحتمل أن یكون أراد أمامهم. و من ذلك قوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ- و القرء- الحیض و القرء أیضا الطهر، و اللفظ یحتمل المعنیین فاعرفه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 329

القسم الرابع و الثمانون التفقیر

و هو أن یأتی فی البیت ذكر نكتة، أو بیت أو رسالة أو خطبة، أو غیر ذلك فیومئ إلیها الشاعر، أو الناثر مثل قوله تعالی: فِیهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ فإن امرأ القیس أومأ إلیه بقوله:
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول‌من الذّرّ فوق الأنف منها لأثرا - و منه قول الآخر:
ألوم زیادا فی ركاكة رأیه و فی قوله أیّ الرّجال المهذّب
و هل یحسن التهذیب منك خلائقاأرقّ من الماء الزّلال و أطیب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 330

الفن الثانی‌

اشارة

ما یتعلق بالألفاظ من الفصاحة كما أن ما یتعلق بالمعانی من البلاغة، و لهذا قیل معنی بلیغ و لفظ فصیح یقال أفصح الأعجمی و فصح اللحان. و هذا الفن یسمی أیضا البدیع. و البدیع علم یبحث فیه عن أحوال اللفظ المؤلف من حیث لا یمكن أن یؤتی به إلا بحسن انتظام و هو ینقسم إلی أقسام:

[القسم] الأول التهذیب:

و هو تخلیص الألفاظ من ثقل العجمیة، و هجنة الحوشیة، و فظاظة النبطیة، و أن یترك الكلام عذب المساق حسن الاتساق قریبا من فهم السامع عذب المساغ فی اللهوات و المسامع یدخل الأذن بغیر إذن و یتصور معناه فی العقل بدقیق التدبر و لطیف التفكر. و القرآن العظیم كله من أوله الی آخره علی هذه المثابة غیر ما فیه من المتشابه، فإنه یحتاج إلی الإمعان فی التذكر، و تردید التدبر، و ذلك أیضا علی غایة ما یكون من الحسن، فكل فی بابه قد استوفی بدیع نصابه قد بسقت اشجاره و عذبت ثماره و اتسقت ألفاظه، و استحكمت معانیه، و حسن رونقه، و عظمت حلاوته و طلاوته، لا تمله الأسماع مع كثرة ترداده، و لا تنفر منه الطباع مع ابراقه و إرعاده، بل هو الذی أحكمت آیاته و فصلت و كملت
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 331
معانیه فی ألفاظه، و حصلت و أحكمت أحكامه، و أصلت فهو كما قال اللّه تعالی: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آیاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ قد سلم من حوشی الألفاظ و رذلها، و تخلص من فظاظة العجمة و ثقلها، و كل كلمة منه حلت محلها و قرنت بمثلها فهو كما قال البحتری:
و إذا دجت أقلامه ثم انتحت‌برقت مصابیح الدّجی فی كتبه
فاللفظ یقرب فهمه فی بعده‌منّا و یبعد نیله فی قربه
حكم سحائبها خلال بنانه‌هطالة و قلیبها فی قلبه
كالروض مؤتلفا بحمرة نوره‌و بیاض زهرته و خضرة عشبه
و كأنها و السمع معقود بهاشخص الحبیب بدا لعین محبه و هذه الأبیات من أحسن ما قیل من التهذیب، و أبلغ ما نظم فی التنقیح و الترتیب و یتعین علی كل ناظم و ناثر أن لا یملی قصیدة، أو رسالة أو خطبة حتی یتلمحها بعین بصیرته. و یقدح لها زناد فكرته و قریحته و یهذب ألفاظها و یحقق معانیها، و یحسن مساغها و یؤسس مبانیها كما قیل:
لا تعرضنّ علی الرواة قصیدةما لم تبالغ قبل فی تهذیبها
فإذا عرضت الشعر غیر مهذّب‌عدّوه مثل وساوس تهذی بها
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 332

القسم الثانی الانسجام:

و هو أن یأتی الكلام سهل المساق عذب المذاق، حسن الاتساق منحدرا فی الأسماع كتحدر الماء المنسجم حتی یكون للجملة من المنثور، و البیت من الموزون موقعا فی النفوس و عذوبة فی القلوب ما لیس لغیره مع بعده من التصنع، و أكثر ما یقع غیر مقصود كمثل الكلام الموزون الذی تأتی به الفصاحة فی ضمن النثر عفوا كانصاف أبیات وقعت فی أثناء الكتاب العزیز، و فی السنة. و قد وقع من ذلك كثیر فی الخطب و الرسائل و من «1» أن یكون بیتا أو نصف بیت. و قد وقع فی غیر القرآن بیتان فصاعدا و لیس بشعر و إن لم یقصد. فأما القرآن العزیز فلم یقع فیه من ذلك إلّا مثل البیت الواحد أو النصف و البیت المفرد لا یسمی شعرا، و أیضا فإن الشعر إنما سمی شعرا لكونهم شعروا به أی فطنوا.
و هذا إنما جاء عفوا فی درج الكلام .. فمما ورد من ذلك فی القرآن العزیز قوله تعالی: وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِیاتٍ فوافق هذا فی درج الكلام قول امرئ القیس:
امرؤ القیس رهین‌مولع بالفتیات
______________________________
(1) كذا فی الاصل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 333 مكرم الضیف بلحم‌و شحوم البكرات
فی جفان كالجواب‌و قدور راسیات - و قد قال بعض أهل العلم بالعروض ان الذی فی القرآن من ذلك لیس بمتزن، و لا موافق لبحر بیت امرئ القیس و هو صحیح .. و من ذلك قوله تعالی: إِنْ یَنْتَهُوا یُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. و قوله عز و جل:
نَبِّئْ عِبادِی أَنِّی أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِیمُ. و قوله تعالی: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ و التلاوة أیضا لا تستقیم علی الوزن إنما الوزن یكون علی تحبوا دون النون كما قال بعض الشعراء:
لن تنالوا البرّ حتی‌تنفقوا مما تحبوا و قد جوّز الحذاق الماهرون بأوزان القریض العالمون بضروبه و اجزائه و تقطیعه هذه الأبیات، فلم یجدوها موزونة، بل مباینة لأوزان الشعر، إما بزیادة أو نقصان، و لو لا خشیة التطویل لبینت ذلك.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 334

القسم الثالث الاشتقاق و یسمیه بعضهم الاقتضاب أیضا و هو من باب التجنیس، و إن عدّ أصلا برأسه‌

و هو أن یجی‌ء بألفاظ یجمعها أصل واحد فی اللغة كقوله تعالی:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّینِ الْقَیِّمِ .. و قول أبی تمام:
عممت الخلق من نعماك حتی‌غدا الثقلان منها مثقلان قال المصنف عفا اللّه عنه: هذا الباب أولی بأن یكون من أجناس التجنیس، و الآیة التی استشهد بها هی من التجنیس المغایر، و البیت الذی استشهد به من التجنیس المماثل. و سنذكر أجناس التجنیس و أقسامه فی فصل مفرد بعد ان شاء اللّه تعالی .. و مما یشبه هذا النوع و لیس منه و یسمی المشابهة قوله تعالی: إِنِّی لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِینَ ..
و قول البحتری:
و إذا ما ریاح جودك هبّت‌صار قول العداة فیها هباء ذكره الزنجانی فی تكلمته ..
قال ابن الاثیر: الاشتقاق علی قسمین: صغیر. و كبیر. فالصغیر أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بین معانیه، و إن اختلفت صیغه و مبانیه كتركیب س ل م فإنك تأخذ معنی السلامة فی تصرفه، نحو سلم و سالم و سلمان و سلیم و السلیم للدیغ أطلق علیه ذلك تفاؤلا بسلامته. و علی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 335
هذا جاء غیره من الأصول كقولنا هشمتك هاشم و حاربك محارب، و سالمك سالم و أصاب الأرض صیّب لأن الصیب هو المطر الذی یشتد صوته و وقعه علی الأرض. و أمثال ذلك كثیر .. و لهذا الضرب من الكلام رونق لا یخفی علی العارف بهذه الصناعة .. فمما جاء منه قول بعضهم:
أ محلّتی سلمی بكاظمة أسلما
- و كذلك قول الآخر و هو جریر بن عطیة:
و ما زال معقولا عقال عن النداو ما زال محبوسا عن الخیر حابس - و قال غیره:
إنّ قومی لهم جداد الجدید
و شكی إلی بعض الخلفاء جور عامل له و سئل أن یكتب إلیه كتابا فقال ما ترك فضة إلّا فضها و لا ذهبا إلّا أذهبه، و لا غنیمة إلّا غنمها، و لا مالا الّا مال علیه فأی شی‌ء بعد یكتب الیه. و أمثال هذا كثیر فاعرفها .. قال ابن الأثیر، و أما الاشتقاق الكبیر فهو أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد علیه و علی تراكیبه معنی واحدا یجمع تلك التراكیب، و ما تصرّف منها، و إن تباعد شی‌ء من ذلك ردّ بلفظ الصیغة و التأویل الیها كما یفعل الاشتقاقیون. و لنضرب لذلك مثلا فنقول ان لفظة ق ر م من الثلاثی لها ستة تراكیب و هی قرم. قمر. رمق. رقم. مقر. مرق. فهذه التراكیب الستة یجمعها معنی واحد و هو القوة و الشدة- و القرم- شدة شهوة اللحم- و قمر- الرجل إذا غلب من یقامره- و الرقم- الداهیة و هی الشدة التی تلحق الانسان من أمره و عیش- مرمق- أی ضیق و ذلك نوع من الشدة أیضا- و المقر- شبه الصبر یقال أمقر الشی‌ء إذا أمرّ و فی ذلك شدة علی الذائق و كراهة- و مرق- السهم إذا نفذ من الرمیة، و ذلك لشدة مضائه و قوته .. و اعلم أنه إذا سقط من تركیب الكلمة شی‌ء فجائز ذلك فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 336
الاشتقاق، لأن الاشتقاق لیس من شرطه كمال تراكیب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كیف تقلبت بها تراكیبها من تقدیم حروفها و تأخیرها أدّت الی معنی واحد یجمعها .. فمثال ما سقط من تركیب الثلاثی لفظة و س ق فإن لها خمسة تراكیب و هی: و س ق. و ق س. س و ق. ق س و. ق و س. و سقط من جملة التركیب قسم واحد و هو س ق و و جمیع هذه الكلمة تدل علی القوة و الشدة- فالوسق- من قولهم استوسق الامر أی اجتمع و قوی- و الوقس- ابتداء الحرب و فی ذلك شدة علی من یصیبه- و السوق- متابعة السیر، و فی هذا عناء و شدة علی السائق و المسوق- و القسوة- شدة القلب و غلظه- و القوس- معروف و فیه نوع من الشدة و القوة لسرعة السهم و اخراجه إلی ذلك الرمی المتباعد .. و اعلم أنا لا ندعی أن هذا یطّرد فی جمیع اللغة، بل قد جاء شی‌ء منها كذلك، و هذا مما یدل علی متانتها و حكمها لأن الكلمة الواحدة تتقلب علی ضروب من التقالیب، و هی مع ذلك دالة علی معنی واحد، و هذا من أعجب الأمور التی توجد فی لغة العرب و أعذبها فاعرفه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 337

القسم الرابع الجزالة و الرذالة

أما الجزالة فقد تقدم الكلام علیها و القرآن العظیم من وجوه اعجازه جزالة ألفاظه، و هو من أوله إلی آخره لابس حلل الجزالة و الفصاحة، سالم من الرذالة و الفظاعة .. و أما الرذالة فهی فی غیر القرآن، فمنها فی المنظوم و المنثور كثیر .. اما المنظوم فمثل قول بعض العرب:
زیاد بن عین عینه تحت حاجبه‌و اسنانه بیض و قد طرّ شاربه و مثله ما أنشد سیبویه فی كتابه:
إذا ما الخبر تأدمه بلحم‌فذاك أمانة اللّه الثرید - و مثل قول أبی العتاهیة:
مات الخلیفة أیّها الثقلان‌فكأننی أفطرت فی رمضان و أما النثر فمثل قولهم- فلان لئیم الخیم كأنّ كفه میم، و كأن عقله جیم، إن واصلته منع و ان أعطیته قطع- و القرآن العظیم أجلّ و أعظم من أن یكون فیه شی‌ء من ذلك، او یماثله.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 338

القسم الخامس السهل الممتنع‌

و هو الذی یظن من سمعه لسهولة ألفاظه، و عذوبة معانیه أنه قادر علی الاتیان بمثله، فإذا أراد الاتیان بمثله عزّ علیه مثاله، و امتنع عن طالب معارضته، فلا یناله و القرآن العظیم كله علی هذا المنوال خلا ما فیه من المتشابه و الحروف التی فی أوائل السور، فإذا فسرت كانت كذلك. و منه فی السنة كثیر .. من ذلك قوله صلی اللّه علیه و سلم- تنكح المرأة لجمالها و مالها و حسبها علیك بذات الدین تربت یداك»-.
و قوله صلی اللّه علیه و سلم- «إیاكم و خضراء الدّمن قالوا و ما خضراء الدّمن؟ قال المرأة الحسناء فی المنبت السّوء». و قوله صلی اللّه علیه و سلم- «المعدة بیت الدّاء و الحمیة رأس كل دواء و عوّدوا كل جسد ما اعتاد»- و قوله صلی اللّه علیه و سلم.-» الخیل معقود فی نواصیها الخیر إلی یوم القیامة ظهورها عزّ و بطونها كنز»-. و أما فی النثر و النظم فقلیل مثاله فی النثر قول العماد الكاتب- و لو جعل اللّه حظه من الذهب كحظه من الادب لاستجدی من سعته قارون و استعان بفصاحته هارون- ..
و منه فی الشعر مثل قول مروان بن أبی حفصة:
بنو مطر یوم اللّقاء كأنّهم‌أسود لها من غیل خفان أشبل
هم یمنعون الجار حتّی كأنّمالجارهم بین السماكین منزل
هم القوم إن قالوا أصابوا و إن دعواأجابوا و إن أعطوا أطابوا و أجزلوا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 339 بها لیل فی الإسلام سادوا و لم یكن‌كأوّلهم فی الجاهلیة أول
و لا یستطیع الفاعلون فعالهم‌و إن أحسنوا فی النائبات و أجملوا
تلاث بامثال الجبال حباهم‌و أحلامهم منها لدی الوزن أثقل
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 340

القسم السادس الرشاقة و الجهامة

فأما الرشاقة فقد ذكرناها آنفا، و فی القرآن العظیم منه كثیر .. و أما الجهامة فلیس فی القرآن منها شی‌ء فإن الجهامة لا تكون إلا عن غلظ طبع و شدة حصر، و لكن و القرآن العظیم منزه عن ذلك.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 341

القسم السابع الفك و السبك‌

أما الفك فهو أن یفصل المصراع الأول من المصراع الثانی أو الفقرة الأولی من الفقرة الثانیة، أو الجملة الأولی من الجملة الثانیة، و لا تتعلق الثانیة بشی‌ء من معنی الأولی مثل قول زهیر:
حیّ الدّیار التی لم یعفها القدم‌بلی و غیرها الأرواح و الدیم و من ذلك قول المتنبی:
جللا كما بی فلیك التبریح‌أغذاء ذا الرّشإ الأغن الشیح و هذا النوع منه فی القرآن كثیر، فإنه یأتی بجملة أثر جملة لیس لها تعلق بالتی قبلها و النحاة یسمون ذلك الجمل المعترضة .. و أما السبك فهو أن تتعلق كلمات البیت أو الرسالة، أو الخطبة بعضها ببعض من أوله إلی آخره، و لهذا قیل خیر الكلام المسبوك المحبوك الذی یأخذ بعضه برقاب بعض، و القرآن العظیم آیاته كلها كذلك فاعرفه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 342

القسم الثامن الحل و العقد

و هو أن یأخذ لفظا منظوما أو منثورا فینظمه مع الاتفاق فی المعنی .. و هذا القسم یختص بالإنشاء معروف بالكتّاب البلغاء الفصحاء، و هو من أجلّ ما یمتّون به و أعظم ما یترفعون بسببه .. و فی القرآن العظیم من جنسه و هو ما ورد فیه من آیة مجملة فسرتها آیة أخری أو مفسرة أجملتها آیة أخری فأشبه ذلك الحل و العقد .. و أكثر ما یقع هذا النوع فی الشعر و الرسائل، فإن الشعر معقود و النثر یحلله و النثر محلول و الشعر یعقده و للماهرین فی صناعة الانشاء من هذا كثیر، لیس هذا موضع ذكره إذ لیس غرضنا فی هذا الكتاب إلا اثبات ما وقع فی الكتاب العزیز من فنون الفصاحة و عیون البلاغة، و بدائع البدیع، أو ما یجری مجری ذلك.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 343

القسم التاسع الازدواج‌

و هو أن یزاوج بین الكلمات أو الجمل بكلام عذب و ألفاظ حلوة .. و مثاله من الكتاب العزیز قوله تعالی: فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْكُمْ. و قوله تعالی: وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها. و قوله تعالی: یُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ و مثله قوله تعالی: وَ كانَ اللَّهُ عَلِیماً حَكِیماً و قد جاء فی الكلام الفصیح و أشعار العرب و غیرها مؤتلفا و مختلفا، و یكون كلمة و كلمتین .. و منه الحدیث- إما محسنا فیزداد و أما مسیئا فیستعتب- .. و منه قول الشاعر:
عتبت علیه فما أعتباو عنه اعتذرت و قد أذنبا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 344

القسم العاشر تضمین المزدوج‌

و هو أن یقع فی الفقرات لفظان مسجعان بعد مراعاة حدود الاسجاع و القوافی الأصلیة كقوله تعالی: وَ تَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقالَ ما لِیَ لا أَرَی الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِینَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِیداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطانٍ مُبِینٍ فَمَكَثَ غَیْرَ بَعِیدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ بعد مراعاة اللفظ فی مقاطع الآی و هی- الغائبین و مبین- ..
و منه فی الشعر و النثر كثیر. فمن النثر قول بعض البلغاء: فلان رفع دعامة الجد و المجد باحسانه، و برّز بالجد و الجد علی أقرانه .. و مثاله من النظم قول الشاعر:
تعوّد رسم الوهب و النهب فی العلاو هذان وقت اللطف و العنف دابه
ففی اللطف أرزاق العباد هباته‌و فی العنف أعمار العداة نهابه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 345

القسم الحادی عشر التسجیع. و الكلام علیه من وجوه‌

الأول: فی أقسامه. الثانی: اختلاف العلماء فی جواز استعماله و حظره. و الثالث: فی شرطه، و ما ینبغی أن یكون فیه.
الأول: قد اختلفت عبارات أرباب هذه الصناعة فی التسجیع فقال قوم: هو علی ثلاثة أقسام: المتوازی. و المتطرف. و المستحسن ..
أما المتوازی فهو رعایة الكلمتین الأخیرتین فی الوزن و الرویّ. و ذكر الرویّ فی النثر توسعة فی الكلام، و إلّا فالروی مخصوص بالشعر. مثاله من كتاب اللّه تعالی قوله عز و جل: فِیها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ .. و مثاله من السنة النبویة قوله صلی اللّه علیه و سلم «اللهم اعط منفقا خلفا و اعط ممسكا تلفا».
و أما المتطرف فهو أن تتفق الكلمتان الاخیرتان فی الحرف الأخیر دون الوزن. مثاله من الكتاب العزیز قوله تعالی: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً .. و منه قول بعض البلغاء- جنابة محط الرحال و مجثم الآمال ..
و أما المتوازن فمثاله من الكتاب العزیز قوله تعالی: وَ آتَیْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِینَ وَ هَدَیْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ و قال قوم هو علی ثلاثة اقسام: قصیر موجز. و متوسط معجز. و طویل مفصح مبین للمعنی مبرز
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 346
.. أما الاول و هو القصیر فاعلم أن أقصر الفقرات القصار فی السجع ما یكون من لفظین كقوله تعالی: وَ الْعادِیاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِیاتِ قَدْحاً فَالْمُغِیراتِ صُبْحاً. و قوله تعالی: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً. و أطول الفقرات القصار ما یكون من عشر لفظات و ما بین هذین متوسط كقوله تعالی: وَ النَّجْمِ إِذا هَوی ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوی وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی. و قوله تعالی:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَ إِنْ یَرَوْا آیَةً یُعْرِضُوا وَ یَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ .. و أقصر الطوال ما یكون من أحد عشر لفظة و أطولها غیر مضبوط و كلما طالت الفقر زاد بیانها و افصاحها. و قد وقع فی الفقر المطوّلة ما هو من عشرین لفظة فما حولها مثل قوله تعالی: إِذْ یُرِیكَهُمُ اللَّهُ فِی مَنامِكَ قَلِیلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِیراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِیمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَ إِذْ یُرِیكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَیْتُمْ فِی أَعْیُنِكُمْ قَلِیلًا وَ یُقَلِّلُكُمْ فِی أَعْیُنِهِمْ لِیَقْضِیَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَ إِلَی اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
و مثاله فیما دون ذلك قوله تعالی: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَیَؤُسٌ كَفُورٌ وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَیَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّیِّئاتُ عَنِّی إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ و قوله تعالی: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِیَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَیْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ ..
و الفقرات المسجوعة إما أن تكون متساویة أو لا .. أما المتساویة ففی الاكثر إنما توجد فی الفقرات القصار، كما فی قوله تعالی: فَأَمَّا الْیَتِیمَ فَلا تَقْهَرْ وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
و أما المختلفة فاختلافها إما أن یكون فی فقرتین أو أكثر .. أما
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 347
المختلفة فی فقرتین فالأحسن أن تكون الثانیة أزید من الأولی و لا تزید بقدر كثیر كقوله تعالی: وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِیراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِیدٍ سَمِعُوا لَها تَغَیُّظاً وَ زَفِیراً وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَیِّقاً مُقَرَّنِینَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. و كذلك قوله تعالی: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا .. و أما المختلف فی أكثر من فقرتین فأحسنه أن تكون الفقرة الثالثة زائدة و الأولیتان متساویتان أو الثانیة منه أزید یسیرا .. و أقل السجع حسنا ما یكون المتأخر من الفقرات أقل مما قبلها.
و أما الثانی: فقد اختلف أرباب علم البیان فیه. فمنهم من قال باستحسان السجع و فضله علی الاسترسال فی الكلام و رجحه .. و منهم من كره السجع و اقبحه، و احتج علی ذلك بأمرین: أحدهما اشتماله علی الكلفة. و الثانی قوله علیه الصلاة و السلام: «أ سجعا كسجع الجاهلیة» و كلا الحجتین فاسد .. أما الاولی فلأنه لم یخل شی‌ء من الكلام من تكلف ما .. و أما الثانیة فلأن الإنكار إنما كان لسجع مخصوص، و هو ما قصد به ابطال حق أو تحقیق باطل و لو كان السجع قبیحا لاستحال وروده فی القرآن .. و التسجیع و عدمه أسلوبان جرت علیهما ألسنة فصحاء العرب و خطبائهم یأتون بذلك بغیر تكلیف و لا تعسف .. و ورد فی القرآن العظیم آیات كثیرة خالیة من السجع و آیات كثیرة مشحونة بالسجع، و سورة الضحی، و الكوثر فاعرفه.
الثالث: قال علماء علم البیان الأسجاع موضوعة علی ان تكون ساكنة الاعجاز موقوفا علیها، لأن الغرض أن یجانس بین القرائن و یزاوج بینهما و لا یتم ذلك الّا بالوقف، أ لا تری أنك لو وصلت قوله: ما من عزّة إلا و إلی جنبها عزّة، و قولهم ما أبعد ما فات، و ما أقرب ما هو آت لم یكن من اجراء كل الفقرات علی ما یقتضیه حكم الاعراب، فتكون
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 348
قد عطلت عمل الساجع و قوة عزمه .. و اذا رأیتهم یخرجون الكلم عن اوضاعها من الازدواج فیقولون أتیتك بالغدایا و العشایا. و هنانی الطعام و مرانی. و أخذه ما حدث و ما قدم. و انصرفن مأزورات غیر مأجورات.
و قال علیه الصلاة و السلام «أنفق بلال و لا تخش من ذی العرش إقلال» مع أن فیه ارتكاب ما یخالف اللغة فما ظنك بهم فی ذلك؟
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 349

القسم الثانی عشر الترصیع‌

وهت أن تكون ألفاظ الكلام مستویة الأوزان متفقة الاعجاز مثل قوله عز و جل: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِی نَعِیمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِی جَحِیمٍ. و قوله تعالی: إِنَّ إِلَیْنا إِیابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا حِسابَهُمْ. و قوله تعالی:
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً و هو فی كتاب اللّه كثیر. و منه فی النثر كثیر منه قول الحریری و هو یطبع الأسجاع بجواهر لفظه، و یقرع الاسماع بزواجر وعظه .. و هو فی الشعر كثیر منه قول ابی فراس:
و أفعاله للراغبین كریمةو أمواله للطالبین نهاب و قول آخر:
ثمانیة لم تفترق مذ جمعتهافلا افترقت ما ذبّ عن ناظر شفر
یقینك و التقوی وجودك و الغنی‌و لفظك و المعنی و حربك و النّصر و منه قول أبی الورد:
یروح إلیهم عازب الحمد وافیاو یغدو إلیهم طالب الرّفد عافیا و قد یجی‌ء مع التجنیس كقولهم إذا قلت الانصار كلّت الابصار، و ما وراء الخلق الدّمیم إلا الخلق الذمیم .. و قول المطرزی:
و زند ندا فواضله وریّ‌و رند ربا فضائله نضیر
و درّ جلاله أبدا ثمین‌و درّنوا له أبدا غزیر
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 350

القسم الثالث عشر التسمیط

و هو علی قسمین:
الأول: أن یكون فی صدر الكلام أو الرسالة، أو البیت أبیات مشطورة أو منهوكة مقفاة، ثم یجمعها قافیة مخالفة لازمة للقصیدة حتی تنقضی أو رسالة حتی تنتهی، فتصیر كالسمط الذی احتوی علی جواهر متشاكلة. و منه قوله تعالی: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ إلی قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ و قوله تعالی: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَ اللَّیْلِ إِذا عَسْعَسَ وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ.
و قوله تعالی: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إلی قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ و قوله تعالی: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ. و قوله تعالی: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَیانَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ. و مثله فی القرآن كثیر. و منه قول امرئ القیس:
و مستلئم كشفت بالرمح ذیله‌أقمت بعضب ذی شقاشق میله
فجعت به فی ملتقی الحرب خیله‌تركت عتاق الطیر یحجلن حوله كأنّ علی سرباله نضح جریال- و كقول الآخر:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 351 حلو شمائله تندی أنامله‌إن جاء سائله أعناه نائله حتی یروح له ما شاء من مال القسم الثانی: أن یصیر كل بیت أربعة أقسام كقول جنوب الهذیلیة:
و جرد وردت و ثغر سددت‌و علج شددت علیه الحمالا
و مال حویت و خیل حمیت‌و ضیف قریت یخاف الوكالا - و قد أبدع الحریری فی التوشیح بقصیدته التی أولها:
خلّ ادّكار الأربع و المعهد المرتبع و الظاعن المودّع و عدّ عنه ودع
و اندب زمانا سلفاسوّدت فیه الصحفا
و لم تزل معتكفا
علی القبیح الشنع- و من بدیع التسمیط أیضا قوله فی قصیدته التی یقول فیها:
و إن لاح لك النقش من الأصفر تهتشّ و إن مرّ بك النعش تغاممت و لا غمّ ستذری الدم الدّمع إذا عاینت لا جمع یقی فی عرصة الجمع و لا خال و لا عمّ جعل قصیدته كلها علی هذا المنوال:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 352

القسم الرابع عشر التجزی‌

و هو أن یكون الكلام مجزأ ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء. مثال الثلاثة أجزاء من الكتاب العزیز قوله تعالی: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ .. و مثال الاربعة قوله تعالی حكایة عن إبراهیم علیه الصلاة و السلام یعظ أباه بقوله: یا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا یَسْمَعُ وَ لا یُبْصِرُ وَ لا یُغْنِی عَنْكَ شَیْئاً یا أَبَتِ إِنِّی قَدْ جاءَنِی مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ یَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِی أَهْدِكَ صِراطاً سَوِیًّا یا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّیْطانَ إِنَّ الشَّیْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِیًّا یا أَبَتِ إِنِّی أَخافُ أَنْ یَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّیْطانِ وَلِیًّا و فی القرآن منه كثیر .. و منه قول ابن المعتز فی الثلاثة:
عجبا لمنصلك المقلد كیف لم‌تسل الدماء علیك منه سیولا
لك حسنة متقلدا و بهاؤه‌متنكبا و مضاؤه مسلولا - و مثال الأربعة الاجزاء قول المتنبی:
فنحن فی جدل و الروم فی وجل‌و البحر فی خجل و البرّ فی شغل - و منه قول ابن المقری:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 353 إذا صلدوا أوری و إن عجّلوا ارتأی‌و إن بخلوا أعطی و إن غدروا وفّی
فللجود ما أبقی و للمجد ما ابتنی‌و للنّاس ما أبدی و للّه ما أخفی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 354

القسم الخامس عشر فی التوشیح‌

التوشیح أن تكون ذیول الأبیات ذات قافیتین علی بحرین أو ضربین من بحر واحد، فعلی أی القافیتین وقفت كان شعرا مستقیما كقوله:
اسلم و دمت علی الحوادث‌مارسا ركنا ثبیر أو هضاب حراء
و نل المراد منها ممكنا علی‌رغم الدّهور و فز بطول بقاء قافیتهما علی ثانی قافیة من ثانی الكامل، و علی الأول من سادسه .. و أما ما هو من بحر واحد، و قد یسمی هذا النوع المتلوّن و ذكره الزنجانی و أنشد فیه:
أ بنیّ لا تظلم بمكّة لا الصغیر و لا الكبیرو لا الفقیر البائس و قال ان قیدته كان من سابع الكامل، و ان أطلقته كان من سادسه. و هذا النوع فی القرآن العظیم ما یشبهه، و هو ما ورد فی الآیات من الوقف الكافی و التمام إن وقفت علی الوقف الكافی كان حسنا، و إن وقفت علی التمام كان أجود كقوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ یُوقِنُونَ ان وقفت علی- من قبلك- كان وقفا حسنا، و إن وقفت علی- یوقنون- كان أحسن و هو تمام، و كذلك كل ما أشبهه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 355

القسم السادس عشر براعة المطلب و حسن التوسل‌

الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان 355 القسم السادس عشر براعة المطلب و حسن التوسل ..... ص : 355
هو أن تكون ألفاظ المطلب مهذبة مقترنة بتعظیم الممدوح كقوله تعالی: فَتَلَقَّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ. و كقوله تعالی فی قصة نوح علیه الصلاة و السلام: إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِینَ. و قوله تعالی حكایة عن إبراهیم علیه الصلاة و السلام: رَبَّنا إِنِّی أَسْكَنْتُ إلی قوله:
لَعَلَّهُمْ یَشْكُرُونَ. و قوله تعالی حكایة عن یوسف علیه الصلاة و السلام: رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ الْمُلْكِ إلی قوله: وَ أَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ. و قوله تعالی حكایة عن هارون علیه السلام: قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی إلی قوله: الظَّالِمِینَ. و قوله تعالی حكایة عن یونس علیه الصلاة و السلام: فَنادی فِی الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّی كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِینَ.
و قوله تعالی حكایة عن عیسی علیه الصلاة و السلام: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلی قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَكِیمُ. و قوله تعالی فیما حكاه رسوله علیه الصلاة و السلام عن عباده المؤمنین: إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إلی قوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ .. و جاء من
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 356
هذا النوع فی الشعر كثیر منه قول المتنبی:
و فی النفس حاجات و فیك فطانةسكوتی بیان عندها و خطاب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 357

القسم السابع عشر المخالفة

اعلم أن المخالفة هو الخروج عن مذهب الشعراء، و ترك الاقتداء بآثارهم مثل قول نصیب:
طرقتك صائدة القلوب و لیس ذاوقت الزّیارة فارجعی بسلام و لیس من المعهود رد المحبوب علی عقبه إذا زار .. و مثل قول ابن عتیق:
جعل الندّ و الألوة و المسك أصیلا لها علی الكافور- و معلوم أن الزنج علی نتن رائحتهم لو تطیبوا ببعض هذا الطیب، لطابت رائحتهم، و إنما الحسن الجید قول امرئ القیس:
أ لم تر أنی كلما جئت نحوهاوجدت بها طیبا و إن لم تطیّب - و من ذلك قول امرئ القیس:
أغرّك منی أنّ حبّك قاتلی‌و أنّك مهما تأمری القلب یفعل و هذا مخالف للمعتاد لأن فیه توعدا للمحبوب و المحب لا یتوعد محبوبه .. و كذلك قوله:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 358 و إن تك قد ساءتك منی خلیقةفسلّی ثیابی من ثیابك تنسلی - و القرآن العظیم كله مخالف لأسالیب الشعر، و قوانین النظم و النثر التی یستعملها الناظمون و الناثرون. و لهذا قال الغفاری: لقد عرضته علی إقراء الشعر فلم یلتئم فإنه لیس بالشعر.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 359

القسم الثامن عشر لزوم ما لا یلزم‌

و یسمی التضییق و التشدید و الإعنات، و هو التزام أن یكون ما قبل القافیة حرفا معینا كما فی قوله تعالی: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. و قوله تعالی: وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ.
و قوله تعالی: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ أَمْ یَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَیْبَ الْمَنُونِ. و قوله تعالی: فِی سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ. و هو فی القرآن كثیر .. و جاء فی الحماسة:
إنّ التی زعمت فؤادك ملّهاخلقت هواك كما خلقت هوی لها
بیضاء باكرها النعیم فصاغهابلباقة فأدقّها و أجلّها
حجبت تحیتها فقلت لصاحبی‌ما كان أكثرها لنا و أقلّها
و إذا وجدت لها وساوس سلوةشفع الضمیر إلی الفؤاد فسلّها - و كذلك قول كثیر عزّة فی أبیات له:
خلیلیّ هذا رسم عزّة فاعقلاقلوصیكما ثم انزلا حیث حلت
فكانت لقطع الحبل بینی و بینهاكناذرة نذرا فأوفت و حلّت - و قول المعری:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 360 لا تطلبنّ بغیر جدّ حاجةقلم البلیغ بغیر جدّ معزل
سكن السّما كان السماء كلاهاهذا له رمح و هذا أعزل و فی هذا القرآن العظیم من هذا النوع كثیر .. و من ذلك قوله تعالی:
وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِیدُ، وَ نُفِخَ فِی الصُّورِ ذلِكَ یَوْمُ الْوَعِیدِ لزم الیاء و الدال فی أكثر هذه السورة. و قوله تعالی: هَلْ أَتی عَلَی الْإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ یَكُنْ شَیْئاً مَذْكُوراً.
إلی قوله: یُفَجِّرُونَها تَفْجِیراً التزم قافیة توافق قافیة .. و من ذلك قوله تعالی: أَمْ أَنَا خَیْرٌ مِنْ هذَا الَّذِی هُوَ مَهِینٌ وَ لا یَكادُ یُبِینُ فَلَوْ لا أُلْقِیَ عَلَیْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِینَ و القرآن مشحون بهذا .. و هذا النوع أتی فی القرآن عفوا من غیر قصد، و ربما وقع فی أقوال فصحاء العرب من غیر قصد، و المتأخرون یقصدون ذلك و یتكلفون فی استعماله.
لیس التكحّل فی العینین كالكحل الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 361

القسم التاسع عشر التفویف‌

و المفوف عند أرباب هذه الصناعة فیه قولان: الأول أن تكون ألفاظه سهلة المخارج علیها رونق الفصاحة، و بهجة الطلاوة، و عذوبة الحلاوة مع الخلو من البشاعة، ملطفة عند الطلب و السؤال، مفخمة عند الفخار و النزال .. و ان كان شعرا فلیكن شعره سهل العروض، و قوافیه عذبة المخارج، سهلة الحروف و معانیه مواجهة للغرض المطلوب ظاهرة منه حیث لا تحتاج إلی إعمال الفكر فی استنباط معانیه، فإذا كان كذلك سمی مفوّفا بما تنوع من ألفاظه و معانیه فأشبه البرد المفوّف الذی فیه ألوان مختلفة و ألوان متقابلة .. و أصل التفویف بیاض یكون علی الأظفار.
الثانی: المفوف من الكلام و الشعر هو الذی یكون فیه التزامات لا تلزم تكتب بأصباغ مختلفة حتی یفطن للالتزامات التی جعلت علیه، و علی كلا القولین فالقرآن العزیز كله كذلك، فإن كان التفویف بأصباغ مختلفة الألوان فتفویف القرآن العظیم مقاطع آیاته و فواتحها و تحزیبه و تعشیره و ارباعه و اخماسه و اسباعه، فإنّ العلماء رضی اللّه عنهم رخصوا بأن یكون ذلك بالحمرة، أو الخضرة، أو الصفرة، أو بألوان مخالفة للون الحبر و المداد، حتی یعلم أنها لیست من نفس القرآن فاستحبوا ذلك، فاذا صار علی هذه الصفة أشبه البرد المفوف، بل أجل و أحسن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 362
و أبهی و ألطف، و إن كان التفویف القول الأول، فالقرآن العظیم كله كذلك أیضا فاعرف ذلك.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 363

القسم الموفی عشرین التطریز

قال علماء البیان: التطریز هو أن تأتی قبل القافیة بسجعات متناسبة، فیبقی فی الابیات أواخر الكلام كالطراز فی الثوب .. و منه قول الشاعر:
أمسی و أصبح من هجرانكم دنفایرثی لی المشفقان الأهل و الولد
قد خدّد الدّمع خدّی من تذكركم‌و هدّنی المضنیان الشوق و الكمد
كأنما مهجتی شلو بمسبعةینتابها الضاریان الذئب و الاسد
لم یبق غیر خفی الرّوح من جسدی‌فدا لك الفانیان الرّوح و الجسد
إنی لأحسد فی العشاق مصطبراو حسبك القاتلان الحبّ و الحسد قال المصنف عفا اللّه عنه: هذا النوع استخرجه المتأخرون، و لیس فی شعر القدماء شی‌ء منه، و لا فی كلامهم و قد استقریته من الكتاب العزیز و اشعار المولدین فوجدته علی ثلاثة أقسام. الأول: ما له علمان علم من أوله و علم من آخره. الثانی: ما له علم من أوله. الثالث:
ما له علم من آخره. فأما الذی له علمان فكقوله تعالی: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَكَّرُونَ وَ مِنْ آیاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِلْعالِمِینَ. وَ مِنْ آیاتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّیْلِ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 364
وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَسْمَعُونَ. وَ مِنْ آیاتِهِ یُرِیكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ یُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَیُحْیِی بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ .. و منه فی الشعر قول بعضهم من أبیات:
و المسعدان علیها الصّبر و الجلدأفناهما الخاذلان الوجد و الكمد
و العاذلان علیها ردّ عذلهمافی حبها العاذران الحسن و الجید
و الباقیان هواها و الغرام بهافداهما الذّاهبان الروح و الجسد - و منه قوله تعالی: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ یَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِیَ وَ جَعَلَ بَیْنَ الْبَحْرَیْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ، أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ یَكْشِفُ السُّوءَ وَ یَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِیلًا ما تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ یَهْدِیكُمْ فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ یُرْسِلُ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَی اللَّهُ عَمَّا یُشْرِكُونَ أَمَّنْ یَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَ مَنْ یَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ.
و أما الذی طرازه من أوله. فمنه فی القرآن كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِیمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا یُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی یُسَبِّحُ لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَكِیمُ. و هذا النوع قد ورد فیه من أشعار المتقدمین و المتأخرین فمن ذلك قول البحتری:
تعلوا الوفود ثلاثة فی أرضه‌إفضاله وجداه و الانعام
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 365 و ثلاثة تغشاك مهما زرته‌إرفاده و المنّ و الاكرام
و ثلاثة قد جانبت أخلاقه‌قول البذا و الزور و الآثام
و ثلاثة فی الغرّ من أفعاله‌تدبیره و النّقض و الإبرام - و أما الذی علمه من آخره، ففی القرآن منه كثیر. فمن ذلك قوله تعالی: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَیْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَیْنِ فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلی آخر السورة. و منه قوله تعالی: فَكَیْفَ كانَ عَذابِی وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِیحاً صَرْصَراً الی آخر السورة .. و من ذلك فی المرسلات قوله تعالی: وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِینَ إلی آخر السورة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 366

القسم الحادی و العشرون ما یقرأ من الجهتین‌

مثاله من الكتاب العزیز قوله تعالی: كُلٌّ فِی فَلَكٍ یَسْبَحُونَ.
و قوله تعالی: وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ و أرباب علم البیان یسمون هذا النوع العكس و التقلیب، و هو عندهم علی أربعة أنواع، الأول: قلب البعض: و هو أن تقلب حروف الكلمة، و هو كقوله علیه الصلاة و السلام:- «اللّهمّ استر عوراتنا و آمن روعاتنا»-. و منه قول الحریری:
لجوب البلاد مع المتربةأحبّ إلیّ من المرتبة - الثانی مقلوب الكل كقولهم- كفة بحر، و جنابه رحب. الثالث:
المجنّح و هو أن یقع مقلوب الكل فی جناح البیت، أو جناحی المصراع كقوله:
لاح أنوار الذی‌من كفّه فی كلّ حال - الرابع المسوی: و هو أن یقرأ طردا و عكسا من الجهتین. و منه الكلمتان فی الآیتین المتقدمتین. و منه قول الحریری:
أس أرملا إذا عراو ارع إذا المرء أسا - الأبیات .. و منه قول الآخر:
أراهنّ نادمنه لیل لهوو هل لیلهن مدان نهارا
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 367
- و من أنواع هذا الباب ما إذا انعكست الكلمات یخرج منها كلام صحیح كالرسالة المشتملة علی مائتی كلمة للحریری فی المقامة القهقریة التی أولها الانسان صنیعة الاحسان إلی أن ختم بقوله: الأحرار عند الأسرار .. و من هذا النوع أیضا ما تقلب فیه الألفاظ بطریق العكس لتفید معنی آخر كقولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، و عادات الأشراف أشراف العادات.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 368

القسم الثانی و العشرون رد العجز علی الصدر. و یسمی التصدیر

اشارة

و هو أیضا من ضروب البیان و فنون التلعب باللسان. و منه قوله تعالی: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا یَصِلُ إِلَی اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ یَصِلُ إِلی شُرَكائِهِمْ .. و منه قولهم القتل أنفی للقتل .. و منه قول بعض البلغاء الحیلة ترك الحیلة .. و منه قول الشاعر:
تسیر النجوم الدّائرات بحكمه‌و ذاك إذا عدّت علاه یسیر - و قول الآخر:
لقد حاز أنواع الفضائل كلهاو أمسی وحیدا فی فنون الفضائل - و قول الآخر:
سألت صروف الدّهر حظّ مملّك‌فشحّت و جادت لی بحظّ أدیب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 369

فصل‌

و من هذا الضرب التجنیس، و هو عند أكثر علماء علم البیان علی قسمین: تجنیس حقیقی. و مشبه بالتجنیس .. أما التجنیس الحقیقی فهو أن تأتی بكلمتین كل واحدة منهما موافقة للأخری فی الحروف مغایرة لها فی المعنی، و لم یرد ذلك فی الكتاب العزیز الّا فی آیة واحدة و هی قوله تعالی: وَ یَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ یُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَیْرَ ساعَةٍ .. و أما المشبه بالتجنیس فكثیر، و قد احتوی الكتاب العزیز منها علی اللباب و أتی منها بالعجب العجاب، و هو علی ضروب:
الأول: التجنیس المماثل و هو أن یكون من اسمین أو فعلین مثل قوله تعالی: یا أَسَفی عَلی یُوسُفَ وَ ابْیَضَّتْ عَیْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِیمٌ. و قوله تعالی: الْخَبِیثاتُ لِلْخَبِیثِینَ وَ الْخَبِیثُونَ لِلْخَبِیثاتِ وَ الطَّیِّباتُ لِلطَّیِّبِینَ وَ الطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّباتِ. و قوله تعالی: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ. و قوله تعالی: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ یَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ یَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ.
الثانی: التجنیس المغایر و هو یكون من اسم و فعل. و منه قوله تعالی: وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ. و قوله تعالی:
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. و قوله تعالی: فَطافَ عَلَیْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ و فی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 370
القرآن منه كثیر. و قد جمع بعض الشعراء فی أبیات نذكرها فی آخر هذا الفصل فیها أجناس من التجنیس.
الثالث: تجنیس التصحیف، و هو أن یكون اللفظ فرقا بین الكلمتین. و منه قوله تعالی: وَ هُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً.
و منه قول الشاعر:
القابضون علی العلیا بكفّهم‌و القابضون من الدّنیا بأطراف
المحسبون إذا جدّ الفخار بهم‌و المحسنون إذا سیلوا بالحاف الرابع: تجنیس التحریف: و هو أن یكون الحرف فرقا بین الكلمتین .. و منه قوله تعالی: وَ هُمْ یَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ یَنْأَوْنَ عَنْهُ. و قوله تعالی: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ.
الخامس: تجنس التشكیل: و هو أن یكون الشكل فرقا بین الكلمتین. و منه قوله تعالی: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِیهِمْ مُنْذِرِینَ فَانْظُرْ كَیْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِینَ. و قوله تعالی: أَ لَمْ یَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِیٍّ یُمْنی ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّی .. و منه قول بعضهم:
أأنتم زعمتم أننی غیر عاشق‌و أنی لا أعبأ ببین مفارقی
فلم قرحت یوم الوداع مدامعی‌و لم شاب من هول الفراق مفارقی و هذه أبیات جمعت فیها أجناس من التجنیس التی نقدم ذكرها و هی:
ربّ خود عرفت فی عرفات‌سلبتنی بحسنها حسناتی
و رمت بالجمار حبّة قلبی‌أیّ قلب یقوی علی الجمرات
و أفاضت مع الحجیج ففاضت‌من دموعی سوابق العبرات
حرّمت حین أحرمت نوم عینی‌و استباحت حمای باللحظات
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 371 لم أنل فی منی منی النفس لكن‌خفت بالخیف أن تكون وفاتی فقوله- عرفت فی عرفات- تجنیس مغایر و قوله- سلبتنی بحسنها حسناتی- مماثل و كذلك- و أفاضت ففاضت- و كذلك- حرّمت و أحرمت- و كذلك- بالجمار و الجمرات- و قوله- و لم أنل فی منی منی النفس- تجنیس التشكیل و قوله- خفت بالخیف- تجنیس مغایر.
السادس: تجنیس العكس و هو أن تكون حروف الكلمتین غیر مرتبة. مثاله من القرآن قوله تعالی: إِنِّی خَشِیتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَیْنَ بَنِی إِسْرائِیلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِی و قد جاء فی الشعر أن یقدّم حرفا فی كلمة و یؤخره فی أخری .. و منه قول حسان فی مدح النبی صلی اللّه علیه و سلم:
تحمله الناقة الأدماء معتجرابالبرد كالبدر غشّی نوره الظّلما السابع: تجنیس التركیب: و هو أن یجمع بین اسمین أو اسم و فعل، ثم یجعلهما كالكلمة الواحدة مثال الاسم مع الاسم- بعل بك.
و معدی كرب- و مثال الفعل مع الاسم حضر موت. و رام هرمز. و قد جاء فی القرآن العظیم: أَ لَمْ تَرَ كَیْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ .. و فی الشعر كثیر. من ذلك قول بعضهم:
إنّ أسیافنا الغضاب الدّوامی‌جعلت ملكنا مدید الدّوام
باقتسام الأموال من وقت سام‌و اقتحام الأهوال من وقت حام - و منه:
بأبی غزال نام عن وصبی به‌و سجوم دمعی فی الهوی و صبیبه - و منه قول المتنبی:
و شادن قلت له‌هل لك فی المنادمة
فقال كم من عاشق‌سفكت بالمنی دمه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 372
و منه فی الشعر كثیر.
الثامن: تجنیس التصریف و هو أن تنفرد إحدی الكلمتین عن الأخری بحرف مثل قوله تعالی: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ. و مثل قوله تعالی: وَ هُمْ یَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ یَنْأَوْنَ عَنْهُ. و مثل قوله: لَیَكُونُنَّ أَهْدی مِنْ إِحْدَی الْأُمَمِ. و منه قوله صلی اللّه علیه و سلم: «الخیل معقود فی نواصیها الخیر» .. و منه قول الأعشی:
و رأیت أنّ الشیب جا نبه البشاشة و البشارة التاسع: تجنیس الترجیع: و هو أن ترجع الكلمة بذاتها كما قال اللّه عز و جل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ. و منه قوله عز و جل:
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ یَوْمَئِذٍ لَخَبِیرٌ. و قوله تعالی: وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِینَ .. و منه قول الشاعر:
و ما منعت دار و لا عزّ أهلهامن النّاس إلا بالقنا و القنابل - و قال المخبل:
فأتت علیه و ماله من ماله‌ممّا أفاء و لا أفاد عناق - و قال آخر:
عذیری من دهر موار موارب‌له حسنات كلّهنّ ذنوب - و لأبی تمام:
یمدّون من أید عواص عواصم‌تصول بأسیاف قواض قواضب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 373

القسم الثالث و العشرون التسهیل‌

و هو أن یكون فی القافیة ما یدل علی الكلام، أو فی أول الكلام ما یدل علی القافیة كقول أبی حیة:
إذا ما تقاضی المرء یوم و لیلةتقاضاه دهر لا یملّ التقاضیا - و مثله:
فلیس الّذی حلّلته بمحلّل‌و لیس الّذی حرّمته بمحرّم - و مثله:
هی الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت‌و كالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 374

القسم الرابع و العشرون الاتفاق و الاطراد

اشارة

و هو أن یوفق شیئا لا یتفق عاجلا مثل قول أبی تمام فی الغزل:
لسلمی سلامان و عمرة عامرو هند بنی هند و سعد بنی سعد - و قوله أیضا یصف حصانا:
بحوافر حفر و صلب صلّب و مشاعر شعر و خلق أخلق- و من ذلك أیضا:
حمدان حمدون و حمدان حارث و لقمان لقمان و لقمان راشد و هذه كلها تعسفات لیس فی القرآن العظیم منها شی‌ء:
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 375

فصل‌

و قد كان ینبغی أن یكون مقدما فی أول الكتاب، ذكر ما اشتق منه القرآن، و السورة و الآیة و الكلمة و الحرف و بیان معانیها .. أما القرآن فاشتقاقه فیه قولان. أحدهما التتبع و الجمع من قولهم: قرأت الماء فی الحوض إذا تتبعته و جمعته فیه فهو جامع لما فی كتب الأولین المنزلة علی سائر النبیین.
و الثانی: أنه مشتق من الإظهار و البیان لأنه أظهر سائر العلوم المحتاج إلیها فی أمر الدین و الدنیا و جمع بینها و كلاهما حسن، و الأول أظهر، و قد یأتی القرآن بمعنی الصلاة فی مثل قوله تعالی: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ أی و صلاة الفجر، و بمعنی القراءة .. و فی مرثیة عثمان رضی اللّه عنه:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به‌یقطّع اللیل تسبیحا و قرآنا و أما السورة ففیها أربعة أقوال: الأول: أنها سمیت بذلك لعظمها و علوّ شأنها من قولهم فلان سورة من المجد. الثانی: سمیت بذلك لكرمها و تمامها من قولهم: لفلان سورة من الأهل أی أقوام كرام. الثالث: أنها قطعة من القرآن و اشتقاقها من السؤر الذی یفضل من الشارب، و علی هذا یكون أصلها الهمز، و إنما ترك لانضمام ما قبله فأبدلوا منه واوا.
الرابع: سمیت سورة لأن قارئها ینتقل من منزلة فی الأجر إلی منزلة أعلی
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 376
منها .. قال الشاعر:
أ لم تر أنّ اللّه أعطاك سورة تری كلّ ملك دونها یتذبذب
كأنّك شمس و الملوك كواكب‌إذا طلعت لم یبد منهنّ كوكب و معناه أعطاك منزلة فوق منازل الملوك، و هو قول حسن .. و أما الآیة ففیها أربعة أقوال: الأول: أنها اشتقت من العلامة، و الآیة علامة لانقطاع الكلام الذی قبلها. الثانی: أنها سمیت بذلك لأنها كلمات مجتمعة من القرآن من قولهم: خرج القوم بآیتهم أی بجماعتهم.
الثالث: الآیة الرسالة و القصد .. قال الشاعر:
ألا أبلغا هذا المعرّض آیةأ یقظان قال القول إذ قال أم حلم معناه بلغاه رسالة و الآیة رسالة من اللّه إلی نبیه و خلقه. الرابع:
إنما سمیت بذلك لأنها عجب لأنها تشبه كلام البشر، و لا یقدرون علی الإتیان بمثلها من قولهم فلان آیة من الآیات، أی عجب و هو قول حسن .. و أما الكلمة فهی اللفظة الدالة علی المعنی المفرد، أو علی معنیین أحدهما حقیقة، و الآخر مجاز و هی فی كتاب اللّه تعالی تطلق و یراد بها معان سبعة:
أحدها: كلمة التوحید و هی لا إله إلّا اللّه. الثانی تطلق و یراد بها الشرك قال اللّه تعالی: وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِینَ كَفَرُوا السُّفْلی یعنی الشرك: وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِیَ الْعُلْیا یعنی كلمة الاخلاص و التوحید. و منه قوله تعالی: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ قال مجاهد و السدّی هی قول لا إله إلا اللّه. الثالث: تطلق و یراد بها الوعد. و منه قوله تعالی:
وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ یعنی و عدم الساعة. قال اللّه تعالی:
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. الرابع: تطلق و یراد بها دعاء اللّه الخلق الیه. و منه قوله تعالی: إِلی كَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ الآیة. الخامس: تطلق و یراد بها عیسی علیه الصلاة و السلام.
و منه قوله تعالی: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلی مَرْیَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ سماه كلمة لأنه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 377
أوجده بالكلمة و هی قوله «كن». السادس: تطلق و یراد بها القصة و القصیدة، و العرب یقولون كلمة امرئ القیس، یریدون قصیدته، و یقولون خبرنا كلمة فلان یریدون قصته.
و فی الحدیث: «و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه» یعنی النساء كأنه یشیر إلی قوله تعالی: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ.
السابع: تطلق و یراد بها الكلمة الواحدة المفردة التی جمعها كلمات.
و الكلمات فی كتاب اللّه تعالی تأتی علی ستة معان: الأول تطلق و یراد بها علم اللّه سبحانه و تعالی. و منه قوله تعالی: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّی وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. الثانی: یراد بها مواعیده سبحانه و تعالی. و منه قوله تعالی: لا تَبْدِیلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أی لا خلف لما وعد. الثالث: تطلق و یراد بها الخصال. و منه قوله تعالی:
وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ أی بعشر خصال من الطهارة معروفة. الرابع: تطلق و یراد بها الاعتراف و طلب المغفرة. و منه قوله تعالی: فَتَلَقَّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ و هی قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ. الخامس: تطلق و یراد بها عیسی علیه الصلاة و السلام، قاله الهروی فی قوله تعالی: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها. السادس: تطلق و یراد بها القرآن. و منه الحدیث- أعوذ بكلمات اللّه التامات- یعنی القرآن قاله الهروی أیضا و غیره ..
و أما الحرف فله فی كتاب اللّه تعالی، و لسان العرب محامل.
أحدها: اللغة یقال هذا حرف بنی فلان أی لغتهم. الثانی: یطلق و یراد به معنی من المعانی. و منه الحدیث: «نزل القرآن علی سبعة أحرف» أی علی سبعة معان. الثالث: یطلق و یراد به أحد القراءات، و علیه حمل بعضهم قوله صلی اللّه علیه و سلم: «نزل القرآن علی سبعة أحرف».
الرابع: یطلق و یراد به الآیة. و منه الحدیث: «لكلّ حرف ظهر و بطن
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 378
و حدّ و مطلع» و فی روایة- و لكل آیة منه ظهر و بطن و حد و مطّلع-.
الخامس: یطلق و یراد به الشك. و منه قوله تعالی: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَعْبُدُ اللَّهَ عَلی حَرْفٍ» أی علی شك. و قال ابن عرفة معناه: علی غیر طمأنینة. السادس: یطلق و یراد به الجانب. و منه قول ابن عباس- أهل الكتاب لا یأتون النساء إلّا علی حرف- أی جنب. و منه حرف الجبل جانبه. السابع: الحرف الناقة .. و منه قول كعب بن زهیر:
حرف أخوها أبوها من مهجّنةو عمها خالها قوداء شملیل - الثامن: یطلق و یراد به أحد حروف الهجاء التی یجمعها أبجد.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 379

فصل فی ذكر اعجاز القرآن العظیم‌

قد تكلم العلماء فی ذلك فقال قوم: إعجازه من جهة ایجازه و احتواء لفظه القلیل علی المعانی الكثیرة مثل قوله تعالی: وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ الآیة. و قوله تعالی: إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ الآیة.
و قوله تعالی: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ الآیة. و قوله تعالی: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. و قوله تعالی: وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیانَةً فَانْبِذْ إِلَیْهِمْ عَلی سَواءٍ. و قوله تعالی: فَلَمَّا اسْتَیْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِیًّا. و قوله تعالی: وَ مَنْ یُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَخْشَ اللَّهَ وَ یَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. و قوله تعالی: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ. و قوله تعالی: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الآیة، و أشباهها كثیر اذا تأملت الكتاب العزیز وجدت فیه من هذا كثیر ..
و قد اعترض علی هذا القول بأنه قد وجد فی السنة و كلام العرب ما لفظه قلیل و معناه كثیر مثل قوله صلی اللّه علیه و سلم: «الأعمال بالنیّات و المجالس بالأمانات». و أشباهه كثیر .. و قال قوم: إعجازه من جهة حسن تركیبه، و بدیع ترتیب ألفاظه، و عذوبة مساقها و جزالتها، و فخامتها و فصل خطابها .. و قال قوم: إعجازه من غرابة أسلوبه العجیب و اتساقه الغریب الذی خرج عن أعاریض النظم و قوانین النثر و أساجیع
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 380
الخطب و أنماط الأراجیز، و ضروب السجع .. و قد اعترض علی هذا القول من وجوه. الأول: لو كان الابتداء بالأسلوب معجزا لكان الابتداء باسلوب الشعر معجزا. الثانی: أن الابتداء بأسلوب لا یمنع الغیر من الإتیان بمثله. الثالث: أن الذی تعاطاه مسیلمة من الحماقة فی معارضة: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ- و الطاحنات طحنا- هو فی أسلوب فی غایة الفظاعة و الركاكة، و كان مبتدئا به و لم یعد ذلك معجزا، بل عدّ سخفا و حمقا. الرابع: لما فاضلنا بین قوله تعالی: وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ و بین قولهم- القتل أنفی للقتل- لم تكن المفاضلة بسبب الوزن، و إنما تعلق الاعجاز بما ظهرت به الفضیلة. الخامس: إنّ وصف العرب القرآن بأنّ له لحلاوة، و أنّ علیه لطلاوة لا یلیق بالأسلوب .. و قال قوم: اعجازه بمجموع هذه الوجوه الثلاثة، و هذا الكلام یحتاج إلی نظر لأن مجموع هذه الأقسام الثلاثة إنما تكون معجزة فی حق العرب خاصة، لأن الفصاحة و البلاغة فیهم جبلة و خلقة، و هم فرسانها أصحاب قصبات السبق فیها إلی الأمد لا یباریهم فیها أحد، و لا یجاریهم فی مضمارها جواد، و لا یماریهم فی التفرد بها ممار ذو عناد قد ألقت الأمم إلیهم فیها مقالید الإذعان، و خفضوا لهم جناح الذل بما حصل لهم عندهم من العرفان فثبت لدیهم أن أحدا لا یجاریهم فی هذا المضمار، و لا یدانیهم فی اظهار و لا إضمار فجاءهم، هذا الكتاب العزیز بقاصمة الظهر و فادحة القهر، و دعوا إلی المعارضة فلم یقدموا و ندبوا الی المساجلة و المجاراة فأمسكوا و أحجموا و قرّعوا بقوارع التوبیخ و التقریع فركبوا خیول العجز و استلأموا فقامت الحجة علیهم بذلك و صحت المعجزة لدیهم لحصول التحدی و العجز عن الاتیان بمثله ..
و أما الأعاجم و من یجری مجراهم فلا تقوم علیهم بذلك حجة، و لا تصح فیهم بذلك معجزة لأنهم معترفون أن الفصاحة لیست من شأنهم
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 381
و لا مضمارها من حلبات میدانهم، و اللّه سبحانه أرسل محمدا صلی اللّه علیه و سلم إلی الخلق كافة أحمرهم و أسودهم قال اللّه تعالی: قُلْ یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْكُمْ جَمِیعاً. و قال تعالی: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً و لا یثبت إعجازه علی الكافة الّا بما یعزب علی الكافة الاتیان بمثله مع اعترافهم بان فی مقدورهم من جنسه و لو جاء موسی لقومه بالفصاحة، و عیسی لبنی اسرائیل بالبراعة لما قامت لهما علی قومهما بذلك حجة .. و قال قوم: إنما وقع إعجازه بما فیه من المعانی الخفیة و الجلیة و فنون العلوم النقلیة و العقلیة .. و أصحاب هذا القول لهم فی ذلك خمسة مذاهب منهم من قال اعجازه فیما جاء فیه من أخبار القرون السالفة فی الأزمنة الخالیة و الأعصر الماضیة فی الأماكن القاصیة و الدانیة، و قصص الأنبیاء مع أممها مما التمسوه منه مثل قصة أهل الكهف و قصة الخضر و موسی علیهما الصلاة و السلام، و حال ذی القرنین، و مما لم یسألوه عنه من قصص بقیة الأنبیاء صلوات اللّه علیهم أجمعین مع تحققهم أنه أمی لا یحسن الكتابة و لا تقدمت منه دراسة و لا سبقت منه رحلة، و لا انتهت الیه نحلة، و لم یكن بأرضه من یعلم بالأخبار، و یقتفی الآثار سوی أهل الكتاب الذین صرح بسبهم و أطلق لسانه فی ثلبهم و ضلل عقولهم و هجن طریقهم و أظهر معایبهم، و لو كان أحد منهم أطلعه علی شی‌ء ذلك أو اعلمه به لقابلوه بالإفصاح فی الرد علیه، و لملئوا الأرض بالتشنیع و التقریع، و حیث لم ینقل ذلك علم أنه لم یعلمه بشر و لیس ذلك إلا من جهة الأحد الصمد الذی لم یلد و لم یولد، و لم یكن له كفوا أحد، مع أنه قد تعرض جماعة من سفهائهم فقالوا:
ما أخبر اللّه عنهم: إِنَّما یُعَلِّمُهُ بَشَرٌ و كانوا یقولون: إنه سلمان الفارسی و غیره، فرد اللّه سبحانه علیهم بقوله: لِسانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِیٌّ مُبِینٌ.
و قد اعترض علی هذا القول بأنّ بعض سور القرآن لیس فیها شی‌ء
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 382
من ذكر القرون الماضیة و الأعصر الخالیة، و تلك السورة معجزة قد تحداهم اللّه بالاتیان بمثلها فلم یقدروا .. و منهم من قال إعجازه بما فیه من الاخبار بما یكون، و ما كان، مما وقع علی حكم ما أخبر به مثل قوله تعالی: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ إلی آخرها و قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ. و قوله تعالی: الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآیة و قوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
و قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآیة.
و قوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ الآیتان. و قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا. و قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ الآیة. و قوله: سَیُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ یُوَلُّونَ الدُّبُرَ. و قوله: قاتِلُوهُمْ یُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَیْدِیكُمْ الآیة. و قوله: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِ و قوله: لَنْ یَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذیً. و قوله: مِنَ الَّذِینَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. و قوله: یُخْفُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ. و قوله: وَ یَقُولُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ. و قوله: مِنَ الَّذِینَ هادُوا یُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.
و قوله: یَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَی الطَّائِفَتَیْنِ. و قوله: إِنَّا كَفَیْناكَ الْمُسْتَهْزِئِینَ. و قوله: وَ اللَّهُ یَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إلی غیر ذلك مما كشف به أخبار المارقین، و أسرار المنافقین، و كان جمیعه كما أخبره و صدق اللّه و رسوله. و قد اعترض علی هذا القول بأن بعض سور القرآن، لیس فیها شی‌ء من الأخبار بالمغیبات، و تلك السور معجزة قد تحداهم اللّه بالإتیان بمثلها، فلم یقدروا علی ذلك و ضاقت علیهم مع فصاحتهم المسالك ..
و منهم من قال إعجازه بما احتوی علیه من العلوم التی لم یسبق إلیها أحد من البشر قبل نزوله و لا اهتدت إلیها فطن العرب و لا غیرهم من الأمم .. و قد اعترض علی هذا القول بأنه قد وجد فی السنة، و كلام
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 383
العرب مثل هذا و لم یعد معجزة .. و منهم من قال إعجازه حصل بما فیه من نشاط القلوب الواعیة، و غیر الواعیة إلیه و اقبالها بوجه المودة علیه و استحلاء طعم عذوبة ألفاظه و معانیه و هشاشتها بما یتردد علیها من مبشراته المبهجة و محذراته المزعجة و آیاته المقلقة و أخباره المونقة مع كثرة قرعه للأسماع و صدعه بما یخالف الطباع، و مع ذلك فالقلوب مقبلة علی اذكاره راغبة فی تكراره شجیة عند سماع مزماره یجد ذلك منهم البر و الفاجر و المؤمن و الكافر، قال اللّه تبارك و تعالی: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ الآیة .. و روی أن نصرانیا مرّ بقارئ فوقف یبكی فقیل له مم بكاؤك؟ قال: الشجا و النظم .. و فی الحدیث الذی وصف به النبی صلی اللّه علیه و سلم القرآن بأنه لا یخلق علی كثرة الرد، و لا تنقضی عبره و لا تفنی عجائبه، هو الفصل لیس بالهزل لا تشبع منه العلماء، و لا تزیغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة، و هو الذی لم تلبث الجن حین سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً الآیات .. و قد اعترض علی هذا القول بأنه قد یوجد فی السنة، و كلام فصحاء العرب، و أشعار فحول الشعراء ما یحسن موقعه، و تشرئب النفوس إلی سماعه، و لا تمله علی تكراره.
و منهم من قال: إعجازه بما یقع فی النفوس منه عند تلاوته من الروعة، و ما یملأ القلوب عند سماعه من الهیبة، و ما یلحقها من الخشیة سواء كانت فاهمة لمعانیه، أو غیر فاهمة أو عالمة بما یحتویه، أو غیر عالمة كافرة بما جاء به أو مؤمنة، و لذلك قال صلی اللّه علیه و سلم:
«القرآن صعب مستصعب علی من كرهه و هو الحكم» فهذه الغیبة لم تزل تعتری من سمعه، و قد اعترت جماعة من الصحابة قبل الاسلام و بعده، فمات منهم خلق كثیر من المؤمنین، و سلبت به عقول كثیر من الموقنین و تدلهت به ألباب جماعة من المحسنین. و قد صح أن جبیر بن مطعم قال: سمعت النبی صلی اللّه علیه و سلم یقرأ فی المغرب بالطور، فلما
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 384
بلغ هذه الآیة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَیْ‌ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. إلی قوله تعالی الْمُصَیْطِرُونَ كاد قلبی أن یطیر. و فی روایة: أول ما وقر الایمان فی قلبی .. و روی أن عتبة بن ربیعة كلمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فی ما جاء به من خلاف قومه فتلا علیهم: حم فصّلت.
إلی قوله: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ فأمسك عتبة علی فی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و ناشده الرحم أن یكف. و فی روایة:
فجعل النبی صلی اللّه علیه و سلم یقرأ و عتبة مصغ ملق بیده خلف ظهره معتمدا علیها، حتی انتهی إلی السجدة، فسجد النبی صلی اللّه علیه و سلم، و قام عتبة لا یدری بما یراجعه و رجع إلی أهله و لم یخرج إلی قومه، حتی أتوه فاعتذر الیهم، و قال: لقد كلمنی كلاما ما سمعت أذنای بمثله قط، فما دریت ما أقول له، و مثل هذا كثیر .. و أما من مات عند سماع تلاوة القرآن من المؤمنین و زال عقله و تدله من المحبین، و راجع الأمر من المذنبین العاصین، فكثیر لا یمكن حصره و لا یسعنا هاهنا ذكره، فكتب الرقائق فیها من ذلك كثیر ..
و قد اعترض هذا القول بأن جماعة من أرباب القلوب و ذوی الاستغراق فی بدیع أوصاف المحبوب حصل له من سماع بعض الأشعار و ما أخرجه عن طوره و ربما مات علی فوره .. و قال قوم: اعجازه حفظ آیاته من التبدیل، و صون كلماته من النقل و التحویل، و لا یستطیع أحد أن یتحیف منه سمطا، و لا یزیده شكلا، و لا نقطا و لا یدخل فیه كلمة من غیره، و لا یخرج منه أخری، و لا یبدل حرفا بحرف، و ذلك من آیاته الكبری، و كم جهد أهل العناد فی ذلك، فما قدروا له، و ما استطاعوا، و كم قصدوا تحریفه فأبی اللّه ذلك، فأذعنوا له و أطاعوا ..
روی أن یهودیا تكلم فی مجلس المتوكل فأحسن الكلام و ناظر فعلم أنه من جملة الأعلام، و ناضل فتحققوا أنه مسدد السهام، فدعاه
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 385
المتوكل إلی الاسلام فأبی، و أقام لفرط الإباء علی مذهب الآباء بعد أن بذل له المتوكل ضروبا من الأنعام، و صنوفا من الرفعة و الإكرام، و راجعه فی ذلك مرة بعد أخری، فلم یزده ذلك إلّا طغیانا و كفرا فغاب عنه مدة، ثم دخل إلی مجلسه و هو یعلن الاسلام و یدین دینه فقال له المتوكل: أسلمت؟ قال: نعم، قال ما سبب إسلامك؟ فقال: لما قطعت من عنقی قلادة التقلید، و صرت من رتبة الاجتهاد إلی مرتقی ما علیه مزید نظرت فی الادیان، و طلبت الحق حیث كان فأخذت التوراة، فنظرت فیها و تدبرت معانیها و كتبتها بخطی و زدت فیها و نقصت، و دخلت بها السوق و بعتها، فلم ینكر أحد من الیهود منها شیئا، و أخذت الإنجیل و زدت فیه و نقصت، و دخلت به السوق و بعته فلم ینكر أحد من النصاری منه شیئا، و أخذت القرآن و قرأته و تأملته فإذا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ كتبت و زدت فیه و نقصت و دخلت به السوق و بعته، فنظر فیه المسلمون فعرفوا المواضع التی زدت فیها و نقصت، و ردوا كل كلمة إلی موضعها، و كل حرف إلی مكانه فعلمت أنه الحق لتحقیق وصفه بأنه كلام اللّه الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه، تنزیل من حكیم حمید، فآمنت به و صدّقت ما جاء به.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 386

فصل‌

اختار القاضی عیاض و جماعة أن الاعجاز الظاهر المتحقق إنما هو فی الأربعة الأول حسن تألیفه، و التئام كلمه و فصاحته و وجوه ایجازه، و بلاغته الخارقة عادات العرب. الثانی: صورة نظمه العجیب الأسلوب الغریب المخالف لأسالیب كلام العرب. الثالث: ما انطوی علیه من الإخبار بالمغیبات، و ما لم یكن، و لم یقع فوجد كما أخبر. الرابع: ما أتی به من اخبار القرون السالفة، و الأمم البائدة و الشرائع الدائرة، و ما عدا هذه الأربعة، و ما دلت علیه خصائص تفرّد بها و مآثر یستأثر بحصولها .. و قال قوم: وجوه اعجازه ثمانیة، و قد قدّمناها فی الفصل الذی قبل هذا الفصل، زاد بعضهم علی هذا، و نقص آخرون ..
و قال قوم: اعجازه فی خروج الاتیان بمثله عن مقدور البشر ..
و قال قوم: اعجازه صرف اللّه خلقه عن القدر علی الإتیان بمثله، و لو لا ذلك لدخل تحت مقدورهم .. و قد اعترض علی هذا القول بوجوه ثلاثة. الأول: أن عجز العرب عن المعارضة لو كان من أجل أن اللّه تعالی عجزهم عنها، بعد أن كانوا قادرین علیها لما كانوا مستعظمین لفصاحته، بل یجب أن یكون تعجبهم من تعذر ذلك علیهم، بعد أن كان مقدورا لهم كما أن نبیا لو قال معجزتی أنی أضع یدی علی رأسی، هذه الساعة، و یكون ذلك متعذرا علیكم، و یكون الأمر كما زعم لم
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 387
یكن تعجب القوم من وضعه یده علی رأسه، بل من تعذر ذلك علیهم، و لما علمنا بالضرورة أن تعجب العرب كان من فصاحة القرآن نفسه بطل القول بالصرف.
الثانی: لو كان كلامهم مقاربا فی الفصاحة قبل التحدی لفصاحة القرآن، لوجب أن یعارضوه بذلك، و لكان الفرق بین كلامهم بعد التحری و كلامهم قبله، كالفرق بین كلامهم بعد التحری و بین القرآن، و لما لم یكن كذلك بطل ذلك. الثالث: أن نسیان الصیغ المعلومة فی مدة یسیرة یدل علی زوال العقل، و معلوم أن العرب ما زالت عقولهم بعد التحدی فبطل أن یكون الإعجاز بالصرف، بل الإعجاز لیس بالصرف ..
و كل واحد من هذه الأقوال یحتمل أن یكون معجزة إذا تحدّی بها الرسول صلی اللّه علیه و سلم، و عجزوا عن الاتیان بمثل ما تحدی به، و سمی هذا القول معجزة لتعجیزه من رام معارضته و الإتیان بمثله، لانها اسم فاعل من أعجزت یقال: أعجزت هذه القصة فهی معجزة .. و الذی یتعین اعتقاده أن القرآن بجملة ألفاظه و معانیه و بعضه و كله معجزة، إما لسلب قدرتهم عن الإتیان بمثله، و إما لصرفهم عنه لأن النبی صلی اللّه علیه و سلم تحدی به و عرض علیهم الاتیان بمثله فعجزوا عن ذلك، و لأن اللّه سبحانه أخبر انهم لا یأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهیرا، أو عشر سور من مثله، فعجزوا عن ذلك، أو سورة منه، أو آیة لتحدیه صلی اللّه علیه و سلم بها، و عجزهم عن الإتیان بمثلها هذا الذی وقع علیه تصریح الكتاب، و صریح الخطاب، و لا مریة فی ذلك، و لا خلاف.
فإن قال قائل: إن سورة من القرآن معجزة، و مع هذا إنها لم تحتو علی جمیع ما أودع القرآن من الایجاز و ضروب البیان و عذوبة المساق،
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 388
و غرابة الأسلوب و الاخبار عن القرون السالفة فی الأعصر الماضیة إلی غیر ذلك مما تقدم ذكره.
فالجواب عنه: أن السورة من القرآن جامعة لجمیع ما ذكرناه، إما منطوق به أو مشار إلیه، و لهذا قال سبحانه و تعالی: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فما وقع التحدی إلا بسورة منكرة، أی سورة كانت، فهذا دلیل علی أن القرآن العظیم، قد احتوت أقصر سورة فیه من المعانی البدیعة و الفصاحة التی تسدّ بها عن معارضته الذریعة، و نضرب لك مثالا لیتحقق عندك ما ذكرناه فنقول سورة الكوثر أقصر سورة، و فیها من الألفاظ البدیعة الرائقة التی اقتضت بها أن تكون مبهجة، و المعانی المنیعة الفائقة التی اقتضت بها أن تكون معجزة أحد و عشرون ثمانیة فی قوله: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ و ثمانیة فی قوله:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ و خمسة فی قوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أما الثمانیة التی فی قوله: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ فالاول ان قوله: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ دلّ علی عطیة كثیرة مسندة إلی معط كبیر، و من كان كذلك كانت النعمة عظیمة عنده، و أراد بالكوثر الخیر الكثیر، و من ذلك الخیر الكثیر ینال أولاده إلی یوم القیامة من أمته. جاء فی قراءة عبد اللّه ابن مسعود رضی اللّه عنه- النبیّ أولی بالمؤمنین من أنفسهم، و هو أب لهم و أزواجه أمهاتهم- و من الخیر الذی وعد به ما أعطاه اللّه فی الدارین من مزایا التعظیم و التقدیم و الثواب ما لم یعرفه الا اللّه. و قیل: إن الكوثر ما اختص به من النهر الذی ماؤه احلی من كل شی‌ء، و علی حافاته أوانی الذهب و الفضة كالنجوم، أو كعدد النجوم.
الثانیة: أنه جمع ضمیر المتكلّم، و هو یشعر بعظم الربوبیة ..
الثالثة: إنه بنی الفعل علی المبتدأ فدل علی خصوصیة و تحقیق علی ما بینا فی باب التقدیم و التأخیر .. الرابعة: أنه صدر الجملة بحرف التوكید
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 389
الجاری مجری القسم .. الخامسة: أنه أورد الفعل بلفظ الماضی دلالة علی أن الكوثر لم یتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، و دلالة علی أن المتوقع من سیب الكریم فی حكم الواقع .. السادسة: جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأن المثبت لیس فیه ما فی المحذوف من فرط الإیهام و الشیاع، و التناول علی طریق الاتساع .. السابعة: اختیار الصفة المؤذنة بالكثرة .. الثامنة: أتی بهذه الصفة مصدرة باللام المعروف بالاستغراق لتكون لما یوصف بها شاملة، و فی إعطاء معنی الكثرة كاملة.
و أما الثمانیة التی فی قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ فالأول فاء التعقیب هاهنا، مستفادة من معنی التسبب لمعنیین. أحدهما جعل الأنعام الكثیرة سببا للقیام بشكر المنعم و عبادته. الثانیة جعله لترك المبالاة بقول العدوّ فإن سبب نزول هذه السورة أن العاص بن وائل قال: إن محمدا صنبور- و الصنبور- الذی لا عقب له، فشق ذلك علی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فأنزل اللّه تعالی هذه السورة. الثالثة:
قصده بالأمر التعریض بذكر العاص، و أشباهه ممن كانت عبادته و نحره، لغیر اللّه و تثبیت قدمی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم علی الصراط المستقیم و اخلاصه العبادة لوجهه الكریم.
الرابعة: أشار بهاتین العبادتین إلی نوعی العبادات أعنی الأعمال البدنیة التی الصلاة قوامها و المالیة التی نحر الإبل سنامها للتنبیه علی ما لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم من الاختصاص فی الصلاة التی جعلت فیها قرة عینه، و نحر الابل التی همته فیه قویة.
روی عنه صلی اللّه علیه و سلم: أنه أهدی مائة بدنة فیها جمل فی أنفه برة من ذهب. الخامسة: حذف اللام الأخری لدلالة الأولی علیها. السادسة: مراعاة حق السجع الذی هو من جملة صنعة البدیع إذا ساقه قائله مساقا مطبوعا، و لم یكن متكلفا. السابعة: قوله- لربك-
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 390
فیه حسنان. وروده علی طریق الالتفات التی هی أم من الأمهات.
و صرف الكلام عن لفظ المضمر إلی لفظ المظهر و فیه اظهار لكبریاء شأنه و اثباته لعز سلطانه، و منه أخذ الخلفاء- یأمرك أمیر المؤمنین بكذا- و عن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه حین خطب الأزدیة إلی أهلها فقال خطب الیكم سید شباب قریش مروان بن الحكم. الثامنة: علّم بهذا أن من حقوق اللّه التی تعبد العباد بها إنه ربهم و مالكهم و عرّض بترك التماس العطاء من عبد مربوب ترك عبادة ربه .. و أما قوله: جل جلاله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ففیه خمس فوائد. الأولی: أنه علل الأمر بالاقبال علی شأنه، و ترك الاحتفال بشانیه علی سبیل الاستئناف الذی هو حسن حسن الموقع، و قد كثرت فی التنزیل مواقعه. الثانیة و یتجه أن نجعلها جملة الاعتراض مرسلة ارسال الحكمة الخاتمة الاغراض كقوله تعالی: إِنَّ خَیْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِیُّ الْأَمِینُ و عنی بالشانئ العاص بن وائل. الثالثة: إنما لم یسمعه باسمعه لیتناول كل من كان فی مثل حاله. الرابعة: صدر الجملة بحرف التوكید الجاری مجری القسم و عبر عنه بالاسم الذی فیه دلالة علی أنه لم یتوجه بقلبه إلی الصدق، و لم یقصد بلسانه الإفصاح عن الحق، بل نطق بالشنآن الذی هو قرین البغی، و الحسد و عین البغضاء، و الحرد، و لذلك وسمه بما ینبئ عن الحقد.
الخامسة: جعل الخبر معرفة و هو الابتر، و الشانئ حتی كأنه الجمهور الذی یقال له الصنبور. ثم هذه السورة مع علو مطلعها و تمام مقطعها و اتصافها بما هو طراز الأمر كله من مجیئها مشحونة بالنكث الجلائل مكتنزة بالمحاسن غیر القلائل، فهی خالیة عن تصنع من یتناول التنكیت و یعمل بعمل من یتعاطی بمحاجته التبكیت.
قال المصنف عفا اللّه عنه: و الأقرب من هذه الأقاویل الی الصواب
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 391
قول من قال: إن اعجازه بحراسته من التبدیل و التغییر و التصحیف و التحریف و الزیادة و النقصان، فإنه لیس علیه إیراد و لا مطعن.
و قال بعض العلماء: إن إعجازه إنما وقع بكون المتكلم به عالما بمراده من كل كلمة، و ما یلیق بها، و ما ینبغی ان یلائمها من الكلام، و ما یناسبها فی المعنی لا یختفی عنه ما دق من ذلك، و ما جل و لا مصرف كل كلمة، و لا مآلها و غیر اللّه تعالی لا یقدر علی ذلك، لأنه أحاط بكل شی‌ء علما و أحصی كل شی‌ء عددا، و هذا القول من الأقوال التی لا مطعن علیها ..
و قد عدد العلماء وجوها من اعجازه غیر ما ذكرناه الأولی أن تعد من خصائصه.
و قال قوم: اعجازه من جهة أن التحدی وقع بالكلام القدیم الذی هو صفة قائمة بالذات، و إن العرب اذا تحدوا بالتماس معارضتهم له و الاتیان بمثله أو بمثل بعضه كلفوا ما لا یطاق. و من هذه الجهة وقع عجزهم. و هذا القول أیضا حسن و اللّه أعلم.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 392

فصل‌

فیما احتوی علیه هذا الكتاب العزیز من تلوین الخطاب و معدوله، و فنون البلاغة و ضروب الفصاحة، و أجناس التجنیس و بدائع البدیع و محاسن الحكم و الامثال مفصلا، و مجملا خاطب العرب بلسانهم لتقوم به الحجة علیهم و الخطاب الوارد علیهم ینقسم إلی قسمین، باق علی أصل مدلوله و موضوعه، و معدول به عن حقیقته إلی مسموعه، و المجموع ما عدل، و ما لم یعدل مائة و عشرون قسما.
الأول: خطاب عام و هو ما أرید به جمیع من یعقل مثل قوله تعالی: وَ اتَّقُوا الَّذِی خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِینَ و قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ.
الثانی: خطاب خاص بلفظ عام كقوله تعالی: أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِكُمْ و قوله تعالی: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.
الثالث: خطاب الجنس مثل قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّاسُ.
الرابع: خطاب النوع مثل قوله تعالی: یا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و یرید بنی آدم من صلبه خاصة و قوله تعالی: یا بَنِی إِسْرائِیلَ.
الخامس: خطاب العین كقوله تعالی: یا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 393
وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ یا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا. یا إِبْراهِیمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیا السادس: خطاب المدح مثل قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا.
السابع: خطاب الذم كقوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ كَفَرُوا.
الثامن: خطاب الكرامة كقوله تعالی: یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ.
التاسع: خطاب الإهانة كقوله تعالی: فَإِنَّكَ رَجِیمٌ.
العاشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد كقوله تعالی: یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِیمِ.
الحادی عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع كقوله تعالی: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصَّابِرِینَ خاطب بذلك النبی صلی اللّه علیه و سلم بدلیل قوله: وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ. و منه قوله: وَ لا یَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ یُؤْتُوا أُولِی الْقُرْبی وَ الْمَساكِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لْیَعْفُوا وَ لْیَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ خاطب بذلك أبا بكر رضی اللّه عنه حین حرم مسطحا رفده حین تكلم فی حدیث الافك.
الثانی عشر: لمالك خازن النار تقدیره ألق ألق، و قد سمع عن بعض العرب یا حرسی اضربا عنقه- و قد حمل بعض الائمة قول امرئ القیس:
قفا نبك من ذكری حبیب و منزل
علی هذا المحمل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 394
الثالث عشر: خطاب العین و المراد به الغیر كقوله تعالی یخاطب به النبی صلی اللّه علیه و سلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و المراد به أمته.
الرابع عشر: الخروج بخطاب الحضرة الی الغیبة مثل قوله تعالی: حَتَّی إِذا كُنْتُمْ فِی الْفُلْكِ وَ جَرَیْنَ بِهِمْ.
الخامس عشر: الخروج من الغیبة الی الحضور كقوله تعالی:
فَأَمَّا الَّذِینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِكُمْ. و قوله تعالی:
وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْیُكُمْ مَشْكُوراً.
السادس عشر: خطاب التحنن مثل قوله تعالی: یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلی قوله:
تَشْعُرُونَ.
السابع عشر: اطلاق اسم العلم علی المعلوم.
الثامن عشر: إطلاق المعلوم علی العلم.
التاسع عشر: اطلاق القدرة علی المقدور.
العشرون: اطلاق اسم الإرادة علی المراد.
الحادی و العشرون: إطلاق اسم المراد علی الإرادة.
الثانی و العشرون: إطلاق اسم الفعل علی أول جزء منه، و علی آخر جزء منه.
الثالث و العشرون: إطلاق اسم الأمل علی المأمول.
الرابع و العشرون: إطلاق اسم الوعد و الوعید علی الموعود.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 395
الخامس و العشرون: إطلاق اسم العقد و العهد علی الملتزم بهما، السادس و العشرون: إطلاق اسم البشری علی المبشر به.
السابع و العشرون: إطلاق اسم القول علی المقول.
الثامن و العشرون: إطلاق اسم النبأ علی المنبأ به.
التاسع و العشرون: إطلاق الإسم علی المسمی.
الثلاثون: إطلاق اسم الكلمة علی المتكلم.
الحادی و الثلاثون: اطلاق اسم الیمین علی المحلوف علیه.
الثانی و الثلاثون: إطلاق اسم الحكم علی المحكوم به.
الثالث و الثلاثون: إطلاق العزم علی المعزوم علیه.
الرابع و الثلاثون: إطلاق اسم الهوی علی المهوی.
الخامس و الثلاثون: إطلاق اسم الظن علی المظنون.
السادس و الثلاثون: إطلاق المحب علی المحبوب.
السابع و الثلاثون: إطلاق اسم الظن علی المظنون.
الثامن و الثلاثون: الیقین علی المتیقن.
التاسع و الثلاثون: إطلاق اسم الشهوة علی المشتهی.
الأربعون: إطلاق اسم الحاجة علی المحتاج.
الحادی و الاربعون: اطلاق اسم السبب علی المسبب.
الثانی و الأربعون: إطلاق اسم الكتابة علی الحفظ.
الثالث و الاربعون: إطلاق اسم السمع علی القبول.
الرابع و الاربعون: إطلاق اسم الایمان علی ما نشأ عنه.
الخامس و الاربعون: إطلاق اسم المسبب علی السبب.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 396
السادس و الاربعون: إطلاق اسم العقوبة علی الإساءة.
السابع و الأربعون: اطلاق اسم الأكل علی الأخذ.
الثامن و الأربعون: إطلاق اسم الغلبة علی المقاتلة التی هی سبب عنها.
التاسع و الأربعون: اطلاق اسم الرّجز و الرجس علی عبادة الأصنام.
الخمسون: اطلاق اسم المغفرة علی التوبة.
الحادی و الخمسون: إطلاق اسم الكبریاء علی الملك.
الثانی و الخمسون: إطلاق اسم القوة علی السلاح.
الثالث و الخمسون: إطلاق اسم الإعطاء و الإیتاء علی الالتزام.
الرابع و الخمسون: إطلاق اسم الفعل علی غیر فاعله.
الخامس و الخمسون: إطلاق اسم الفعل علی سببه.
السادس و الخمسون: إطلاق اسم الفعل علی الأمر به.
السابع و الخمسون: إطلاق اسم البعض علی الكل.
الثامن و الخمسون: إطلاق اسم الكل علی البعض.
التاسع و الخمسون: إطلاق اسم القیام علی الصلاة.
الستون. إطلاق اسم الركوع علیها.
الحادی و الستون: اطلاق اسم السجود علیها.
الثانی و الستون: اطلاق اسم القراءة علیها.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 397
الثالث و الستون: إطلاق اسم التسبیح علیها.
الرابع و الستون: اطلاق اسم الذكر علیها.
الخامس و الستون: إطلاق اسم الاستغفار علیها.
السادس و الستون: إطلاق اسم الذقن علی الوجه.
السابع و الستون: إطلاق اسم الأنف علی الوجه.
الثامن و الستون: إطلاق اسم الرقبة علی الجملة.
التاسع و الستون: إطلاق اسم الیدین علی الجملة.
السبعون: إطلاق اسم الیمین علی الجملة.
الحادی و السبعون: إطلاق اسم العضد علی الجملة.
الثانی و السبعون: اطلاق اسم الأصابع علی الأرجل.
الثالث و السبعون: اطلاق اسم الوجه علی الجملة.
الرابع و السبعون: إطلاق اسم بعض الرأس علی الرأس.
الخامس و السبعون: إطلاق اسم بعض الأذن علی الأذن.
السادس و السبعون: وصف الوجه بالخشوع و الخشوع انما یكون فی القلوب.
السابع و السبعون: وصفها بالرضی.
الثامن و السبعون: وصف الجمیع بما هو وصف البعض.
التاسع و السبعون: اطلاق اسم الفعل علی مقاربه و مساوقه الثمانون: إطلاق اسم الفعل علی ما كان علیه.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 398
الحادی و الثمانون: إطلاق اسم الشی‌ء علی ما یؤول الیه.
الثانی و الثمانون: إطلاق اسم المتوهم علی المتحقق.
الثالث و الثمانون: إطلاق اسم الشی‌ء علی ما یظنه الناظر، و هو علی خلافه.
الرابع و الثمانون: التعبیر بالأذن عن المشیئة.
الخامس و الثمانون: إطلاق اسم الشی‌ء علی ما لازمه.
السادس و الثمانون: إطلاق اسم الحال علی المحل.
السابع و الثمانون: إطلاق اسم الأفواه علی الألسن.
الثامن و الثمانون: التعبیر بالألسنة عن اللغات.
التاسع و الثمانون: إطلاق ترك الكلام علی الغضب.
التسعون: التعبیر بالإیاس عن العلم.
الحادی و التسعون: التعبیر بالدخول عن الوطء.
الثانی و التسعون: إطلاق اسم الأسد علی الشجاع.
الثالث و التسعون: إطلاق اسم الفوز و الحیاة علی الإیمان.
الرابع و التسعون: إطلاق اسم الظلمة و الموت علی الجهل.
الخامس و التسعون: إطلاق اسم السراج و النور علی الهادی.
السادس و التسعون: إطلاق اسم الحطب علی النمیمة.
السابع و التسعون: إطلاق اسم الإنسان علی تمثاله.
الثامن و التسعون: التجوز بالماضی عن المستقبل.
التاسع و التسعون: التجوز عن الماضی بالمستقبل.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 399
المائة: إطلاق اسم الخبر عن النهی.
الحادی بعد المائة: إطلاق لفظ الخبر عن الدعاء.
الثانی بعد المائة: إطلاق الأمر علی الخبر.
الثالث بعد المائة: توكید الخبر.
الرابع بعد المائة: التجوز بجواب الشرط عن الأمر.
الخامس بعد المائة: التجوز بلفظ النهی عن أشیاء لیست مرادة بالنهی، و إنما یراد بها ما یقاربها و یلازمها.
السادس بعد المائة: التجوز بالنهی لمن لا یصح نهیه، و إنما المراد به من یصح نهیه.
السابع بعد المائة: التجوز بنهی من یصح نهیه و المنهی فی الحقیقة غیره.
الثامن بعد المائة: التجوز بهل عن الأمر و النهی و التقریر.
التاسع بعد المائة: التجوز بهمزة الاستفهام عن الأمر و الإیجاب و التقریر و التوبیخ.
العاشر بعد المائة: التجوز بفی و یتجوز بها فی مواضع قد تقدم ذكرها فی فصل المجاز.
الحادی عشر بعد المائة: التجوز بعلی و یتجوز بها فی مواضع مضی ذكرها فی باب المجاز عن، عن، و هی حقیقة مجاوزة جرم عن جرم، و یتجوز بها فی المعانی، و قد تقدم ذكره.
الثانی عشر بعد المائة: التجوز بمن، و هی حقیقة فی ابتداء الغایة فی الامكنة، و یتجوز بها عن ابتداء الغایة فی الأزمنة.
الفوائد المشوق إلی علوم القرآن و علم البیان، ص: 400
الثالث عشر بعد المائة: حرف ثم، و تستعمل حقیقة فی التراخی المعنوی، و مجازا فی التراخی الزمانی.
الرابع عشر بعد المائة: حرف- ما- قال سیبویه: هی للأصناف و الأخلاط و هی حقیقة فی الإجرام، و تجوّز فی المعانی.
الخامس عشر بعد المائة: حرفا- لعل عسی- و حقیقتهما الترجی و التوقع و یتجوز بهما فی الإیجاب. فهذه مائة و خمسة عشر قسما إذا حررت بتفاصیلها جاوزت المائة و عشرین نوعا، بل أكثر من ذلك، و قد ذكرناها مفصلة معینة بشواهدها من الكتاب العزیز و الكلام الفصیح، و أشعار العرب و المخضرمین و المتأخرین، و نسأل اللّه العون و الصون و التوفیق إلی ما یقربنا إلیه و یزلفنا لدیه، و اللّه الموفق لا ربّ غیره و لا یستعان بسواه ..

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.